الطوارئ كقانون وإيديولوجيا للحكم في عصر مبارك

لماذا استمر قانون الطوارئ واستمرت حالة الاستثناء كإيديولوجيا وقانون حاكم؟ مصر دولة حديثة، متعثرة إلى أقصى مدى، ولكنها قائمة على مبدأ رئيسي وهو المشروعية النابعة من القانون.
2016-06-02

علي الرجّال

باحث في علم الاجتماع السياسي متخصص في الدراسات الأمنية، من مصر


شارك
محمد عبلة - مصر

من أسوان جنوباً إلى الإسكندرية شمالاً، ومن سيناء شرقاً إلي مرسى مطروح وسيوة غرباً، لن يتحرك جسد إنساني أو آلية من دون التعرض لكمائن شُرْطية دائمة، تتخللها بعض الكمائن العسكرية. وهذا ليس في ظل وجود معركة دائرة بين الدولة وأحد الفصائل الإرهابية أو في ظل وجود اضطراب اجتماعي كبير نتيجة حدث جلل أو تمرد أو ثورة أو وباء أو كارثة بيئية أو إنسانية. هذا هو الواقع اليومي. بين كل مدينة وأخرى، وبين كل محافظة وأخرى هناك نقطة ارتكاز أمني وتفتيش ثابتين، بالإضافة إلى ذلك، هناك ما يسمى بالكمائن المتحركة أو المتنقلة التي تتسم بعنصر المفاجأة. هذه الكمائن أو الارتكازات الأمنية تعرف داخل مؤسسة الداخلية المصرية وعند قواتها بـ "الكمائن الحدودية". وعلى الطرق الرئيسية داخل المدن، وعلى مداخل ومخارج الأحياء السكنية، تقوم كمائن ثابتة، بالإضافة أيضاً إلى بعض الكمائن الأمنية المتنقلة داخل الأحياء نفسها. الكمائن والعرض العسكري ـ الأمني المستمر لم يكن في معظم أوقاته نتيجة حالة الاستثناء والطوارئ. بل هو نتيجة الدولة البوليسية الدائمة في مصر.
هذا هو مسرح الأحداث وطبيعته طيلة العقود الثلاثة الطويلة الماضية. وعلى خشباته ستقوم اللغة والأجساد المختلفة بالعمل، وإعادة إنتاجه كواقع يجب شرعنته واستمراره.

اللغة والاستثناء والإيدولوجيا

لا يمكن للغة أن تكون مفارِقة للواقع المادي ومكتفية بنفسها. لغة الأمن والاستثناء تحاول أن تغطي على عوارها بثلاث عمليات:
1- احتكار المعرفة بالمجتمع وما يحدث داخله وما يحاك خارجه، ومن هنا تعطي لنفسها شرعية توصيف انتهاكاتها على أنها أفعال الضرورة.
2- احتكار عمليات التوصيف والتصنيف: وهنا يجب الإشارة للمؤسستين الرئيسيتين في الحكم والأمن وهما الداخلية والجيش. فالجيش يرى أن مصر تتعرض لمؤامرة دائمة، وأننا في وضع استثنائي دائم أمام المخاطر الخارجية، وأن الشعب ربما يستحق معاملة أفضل، ولكنه غير قادر على تحمل مسؤوليته وقابل للاختراق، وبالتالي يجب أن يخضع لمراقبة ويجب أن تظل الأوضاع تحت تضييق دائم لحصار "العدو". أما الداخلية فترى الشعب المصري، كما يصفه كثير من أفرادها، "شعب ابن وسخة، همج". فبالإضافة إلى خطورة الأوضاع والمؤامرات، ترى الشعب نفسه في مرتبة أدنى. وهذا الوصف ليس مجرد تعبير عن ضيق رجال الأمن من أوضاعهم الوظيفية واحتكاكهم الدائم بالجمهور في ظل ظروف صعبة من ناحية التكدس السكاني في المدن أو سوء الأوضاع المادية والاقتصادية، ولكنه الوصف المؤسِّس لثنائية الهمج والمتحضرين.. الثنائية الحاكمة لعمل الداخلية منذ ما يقرب من قرنين من الزمن، أي مع نشأة الدولة الحديثة. وترسخت مع الاستعمار الإنكليزي. وهى ثنائية استعمارية أصلاً، ولازمة لبقاء الدولة البوليسية في مصر كأساس عملها على السكان وكمنهجية لحكمهم. داخل هذه الثنائية تظهر تصنيفات أخرى لأفراد المجتمع وجماعته، فعرب المنطقة الشمالية الممتدة من الكيلو 21 شمال غرب الإسكندرية والمنطقة الغربية الممتدة من الكيلو 56 إلى السلوم في محافظة مرسى مطروح ومنطقة الضبعة هم إما خونة (لأن "العربواية" خونة بطبعهم على حد قول رجال الشرطة)، وقبائل ولائها وانتمائها إلى ليبيا، أو تجار مخدرات. وأهالي سيناء هم الآخرون "بدو وأعراب لا أمان لهم"، وهم إما عملاء لإسرائيل وخونة وإما تجار سلاح ومخدرات أيضاً. أما النوبة جنوباً، في أسوان تحديداً، والمهجرين من قرى ما وراء السد العالي، فهم انفصاليون ويشكلون خطراً على أمن الدولة القومية لأنهم جماعة إثنية مختلفة، كذلك الحال مع أهالي واحة سيوة، فهم أمازيغ لا يُضمن ولاؤهم بنظر رجال الأمن، ولذلك تحظر الدولة عليهم تدوين وحفظ اللغة الأمازيغية، وهي لغتهم الأم التي يتحدثون بها بجوار العربية كلغة ثانية في حياتهم اليومية. كل هؤلاء طبقاً للتوصيف والتصنيف الأمني ذوات استثنائية يجب معاملتهم بشكل خاص. هذا بالإضافة للثنائية العامة في وصف وتصنيف الشعب المصري ككل على أنه همج ورعاع.
3- أما العملية الثالثة التي تغطي لغة الاستثناء عوارها بها، فهي احتكار "ميتافزيقا" الدولة. أي أن حالة الاستثناء وقوانينها هي لحماية "إله" هو الدولة، ورجال الأمن هم فقط المنوطون بهذه المهمة، ويحق لهم أن يستثنوا من الاستثناء. وتستخدم هذه العملية اللغة بشكل ترهيب ووعيد من جحيم إمكانية انهيار الدولة التي يحيك أعداؤها المؤامرات لها. وهنا تُستخدم لغة الاستثناء الماضي والمستقبل لتشرعن بقاء حالة الطوارئ. فإما أن تستدعي الماضي وتذكّر الأفراد بإرهاب التسعينيات، أو تلوح بخطر المستقبل والعودة الفورية للإرهاب في حالة رفع حالة الاستثناء. بتعبير آخر، رفع الطورائ سيأتي بحالة الطوارئ الحقيقية فوراً. وليس ثمة ما هو أبلغ أو أوضح من تعبير مبارك نفسه الذي تكرر في لقاءات عدة أو خطب له من التسعينيات إلى 2005 رداً على ناقديه، وهو أنه لن يلغي قانون الطوارئ: " أنا بقول لهم أنا بأمِّن بلدي وشعبي ضد فئة عايزة تقلبها، ولما سألوا رئيس الوزراء أليس هذا ردة عن الديموقراطية قالهم الديموقراطية لا تعني الفوضى وعدم تأمين المواطن".
إلا أنه بحلول 2005، ومع حملته الانتخابية بعد تغير قانون الانتخابات الرئاسية، والتحول من الاستفتاء إلى السباق الانتخابي، وعد مبارك برفع قانون الطوارئ والشروع في إخراج ما عرف بـ "قانون الإرهاب". وفي 2008 تعهدت الدولة والحكومة بأن تجديد إقرار قانون الطوارئ سيكون الأخير. إلّا أنّ الحكومة تذرعت في 2010 بعدم استكمال قانون الإرهاب بعد، وأنّه ثمة احتياجاً ماساً لقانون الطوارئ. بينما رأى البعض في جلسة مناقشة إعادة إقرار القانون، بأنه قد تمَّ تهذيبه. وعارض الإخوان تمديد قانون الطوارئ بشدة في هذا المجلس لِما وقع عليهم من ضرر كبير بسببه وتضررهم البليغ من تفاصيله التي تتيح مصادرة الأموال. وكذلك اعترض ممثلو حزب الوفد والنائب الناصري حمدين صباحي.
يحاول هذا الخطاب حول الطوارئ في عصر مبارك، بما يحمله من لغة وممارسات، أن يسيطر على حركة التاريخ في الحاضر، في لحظة يدعي الأمن من ناحية أنها مستقرة ولكنه يعتبرها من ناحية أخرى لحظة خطر داهم. والحقيقة أن هذه الحالة من الشيزوفرنيا هي الوقود المؤسس لاستمرار حالة الاستثناء في مصر كحالة دائمة.
فالتجربة المصرية تقول بوضوح أن استمرار "السيد" ارتبط عضوياً باستمرار الطوارئ كحالة وقانون. أغلقت حالة الاستثناء آمال العودة للحياة الطبيعية، لأن الشيزوفرنيا المؤسِّسة لها تفعل الفعل ونقيضه، والخطاب والخطاب المضاد، في نفس الحركة: فبمجرد رفع الطوارئ ستنهار الأوضاع فوراً. وهذه الخاصية كانت السمة المركزية لممارسة الاستثناء في عهد مبارك تحديداً، وهو عهد الاسثتناء الأطول من ناحية استمرارية تطبيق الحالة في تاريخ مصر الحديث. ولذلك لم يتوقف خطابه طيلة حكمه عن ذكر ثنائية الأمن والاستقرار. لغة الاستثناء في مصر تتسم بالغموض الميتافزيقي والتهديد من المستقبل بالماضي والخوف من انهيار لحظة الحاضر الهشّة. وهي لغة تقوم على نسق شديد الانغلاق والعنف، وتعيد إنتاج الترويع في خطابها، لغة منغلقة لأنها تمنع الفرد من إمكانية التعاطي المتساوي مع الحالة والقدرة على التشبيك معها. تمنحه فقط حق الخضوع لها ولمفرداتها. بصيغة أخرى: إما الانصياع التام أو الإدراج في لوائح الخطر والتهديد.

ما بعد اللغة

لا يتوقف الأمر عند حدود اللغة وبعض ألاعيبها. فالاستثناء في مصر نظام أو منظومة ذات تجليات مادية: نيابات ومحاكم، إجراءات وتشريعات وقوانين، ممارسات، تصورات ورؤى وإدراك وخطاب وعلاقات تربط هذه الأبنية المختلفة ببعضها البعض. والأخطر أنه أصبح إيديولوجيا بمعنى أنه "تخيل للواقع".
أحد الأدوار المركزية للكمائن هي الفصل المادي والرمزي بين المناطق المختلفة، أو حصار بعض المناطق المصنفة كخطر. فالكمائن هي التجلي المادي للدولة البوليسية. وفي هذه المساحة تلتقي الدولة البوليسية مع حالة الاستثناء. فعموم السكان يجب أن يُستثنوا من الحقوق العامة، ولحفظ الأمن والاستقرار يجب إطلاق يد الأمن عليهم ومعاملتهم بشكل استثنائي. كما تقوم الدولة البوليسية بالتحجيز بين السكان الذين ينتظرون لحظة الانفلات للانقضاض على بعضهم البعض. وهنا تصبح الدولة البوليسية ضرورة حتمية ووجودها هو الضامن الرئيسي لبقاء السكان مادياً. ولعل أبرز مثال على ذلك هو التعامل مع أقباط مصر. ففي هذه المساحة، يتمفصل الخطاب الأمني مع الواقع ويتضافر لإعادة إنتاج الهلع وإخضاع السكان للاستثناء والطوارئ. فإما القبول بهيمنة الأمن أو التعرض للقتل والتهجير والإقصاء على أساس الهوية. وهنا تعود شيزوفرنيا الاستثناء مرة أخرى للواقع. فالمسيحيون في مصر يتعرضون بالفعل للاضطهاد والتهجير وأحياناً للقتل على الهوية. فعلياً هم مفتقدون لعنصر الأمان، ولكن الأمن يهدد بالخطر في حالة رفع هيمنته على الواقع. الخيار هو بين قبول قمع وهيمنة أمن الدولة عليهم، أو رفع يد الأمن فيصبح عليهم تهديد وجودي. أما بخصوص الإسلاميين، فهناك انفصام مشابه: ماكينة الدولة في عصر مبارك، سواء الأمنية أو الإيديولوجية، كانت شبه متفرغة لشيطنة الإسلاميين، ومع ذلك فهو أكثر العهود التي شهدت صعودهم على المستوى الاجتماعي والسياسي والفكري.
مما سبق يمكن استخلاص الآتي: عصر مبارك شهد شيطنة واسعة لقطاعات جغرافية وإثنية تمثِّل حدود مصر الجغرافية كلها بلا استثناء: صعود العشوائيات والعمل على خلق فزاعة أمنية واجتماعية من سكانها، الإسلاميين كأزمة أمنية، شباب الطبقة الوسطى الدنيا (ولاحقاً انضم إليهم شباب الطبقة الوسطى بشكل عام) كتهديد ناتج عن السياسات النيوليبرالية منذ 2000، القوى السياسية كعملاء وطابور خامس.. من تبقى إذا من عموم السكان في مصر؟ القلة الحاكمة وحلفاؤهم الاجتماعيون، وحتى داخل القلة الحاكمة، كان الجيش مصدر تهديد دائم للحكم، ولذلك شهد عصر مبارك وجود مكتب لأمن الدولة داخل كل وحدة عسكرية.
لماذا استمر قانون الطوارئ واستمرت حالة الاستثناء كإيديولوجيا وقانون حاكم؟ مصر دولة حديثة، متعثرة إلى أقصى مدى، ولكنها قائمة على مبدأ رئيسي وهو المشروعية النابعة من القانون. وعلى عكس كثير من دول المنطقة، فمصر شهدت تعقيداً وتحديثاً قانونياً هائلين وبنية قضائية ثقيلة لا تقل عن كثير من الدول الكبرى، وتطور النخب القانونية والقضائية عبر ما يزيد على قرن من الزمن يجعل هناك صعوبة كبيرة لقبول حالة صافية من الدولة البوليسية. ولذلك كان لا بد من منظومة قانونية موازية، استثنائية لكنها قانونية. هي للتغطية على عوار الدولة البوليسية، سواء من الناحية القانونية أو على المستوى الإيديولوجي. ومع وجود كل هؤلاء الأعداء في عصر واحد، فكان احتياج الدولة (كما يشير جورجيو أغامبن) "لعملية تأسيس حرب أهلية قانونية من خلال تطبيق حالة الاستثناء، بما يتيح إمكانية التصفية الجسدية ليس فقط للخصوم السياسيين، بل لشرائح كاملة من المواطنين تعتبرهم السلطة غير قابلين للاندماج في النظام السياسي".

مقالات من مصر

للكاتب نفسه

مصر: في ضرورة تحرير الفائض البشري

قراءة في مسيرة النظام المصري منذ هزيمة 1967، عبر تتبع السمات الاساسية الطابعة لكل واحدة من الحقبات الثلاث المتتالية زمنياً، والعوامل التي حددت الانتقالات بينها، وخيارات أو اضطرارات كل واحدة...