صبيحة يوم 18 كانون الأول /ديسمبر الماضي، شيّع آلاف الفلسطينيين في مدينتي رفح وخانيونس جنوب قطاع غزة، جثامين ثمانية شبان فلسطينيين، بعد نحو شهرين من العثور على رفاة بعضهم قبالة شاطئ مدينة جرجيس في الجنوب التونسي، ورفاة بعضهم الآخر قرب شواطئ اليونان.
ترددت الأنباء تباعاً خلال أشهر الخريف الماضي في أنحاء غزة المحاصرة حول أعداد الغرقى والمفقودين، والناجين أيضاً. كانت التفاصيل مدويّة بين أهلها الذين اعتادوا وقوع الوفيات دون الوقوف على أطلال ذكراهم. ولكنها لم تعْبر بنا إلى استنتاجات جديدة، بل أثارت أسئلة معروفة مسبقاً. أما الإجابات حول موتٍ يمكن وصفه بالسريع فلا زالت بعيدة عن الخطاب الرسمي أو الفصائلي، لأن الحياة في غزة تتطلب العزاء ذاته.
قضى الشبّان غرقاً. كانوا بين ضحايا أفواج المهاجرين غير النظاميين من أبناء المنطقة، من سوريا ولبنان ومصر وليبيا واليمن والمغرب وجنسيات أخرى مختلفة. ركبوا البحر في قوارب غير مؤهلة، ابتغاء الوصول إلى ضفة آمنة على الشاطئ الآخر، فمالت بهم الأمواج ناحية الموت. وكذلك عبروا النهر، لعلّ تياره الجارف يسرّع من إنهاء معاناتهم التي حملوها في صدورهم على مدار حياتهم، قبل أن يغادروها.
سيرة مهاجر: نحلم بحياة عادية
مدينة خانيونس هي مسقط رأس النسبة الأكبر من الضحايا الذين نُشرت أسماؤهم في قوائم عبر صفحات مواقع التواصل الاجتماعي. ذهبنا إليها لمعرفة المزيد عن السياقات التي تدفع بأولئك الشبان الى اقتفاء أثر من سبقوهم من المهاجرين غير النظاميين، على الرغم من إدراكهم لخطورة المغامرة. قابلنا الشاب معاذ أحمد (19 عاماً)، وهو أحد الناجين ممن حاولوا الوصول إلى اليونان كخطوة أولى، بعد خروجه من غزة إلى إسطنبول.
حكى لنا قصّته، مستعيناً بما تبقى من الوصفة السحرية لاغتراف ماء الحياة داخل قلعة أوروبا. في الواقع هو يسعى لمساحة أرحب للوجود. مساحة تمنحه تلك الثقة الناتجة عن القدرة والفعل، الثقة المفقودة في ظل العيش ضمن نظام اجتماعي أبوي وآخر اقتصادي متهاوٍ لا يتسع لاستيعاب كل تلك الطاقات البشرية الشابة التي تملأ شوارع غزة وحاراتها. الحُلم يتحقق بالنسبة لمعاذ حينما يتمكن من الهجرة ولقاء أبناء عمومته ورفاق عمره الذين هاجروا إلى بلدان غرب أوروبا خلال السنوات القليلة الماضية، بحثاً عن فرص العمل ولاكتشاف العالم.
بات الخروج من قفص غزة حلماً موحداً لدى النسبة الأكبر من الشباب. إنه تحدٍ بذاته يرفض الواقع المفروض، ويواجه سلطة اجتماعية قائمة على الاستفادة من التراتبية التي تفرزها فتوّة الهيكل السكاني، وأخرى سياسية تحتكم لسياقات طارئة في صناعتها للقرارات وإدارتها للأزمات، وفق مصالح فئة محدودة من رجال الأعمال والقيادات السياسية.
من السهل العثور في اسطنبول على صلات مع أشخاص يعملون في تهريب المهاجرين... الأصدقاء وأبناء العمومة والأقران يراسلون بعضهم البعض عبر وسائل التواصل الحديثة ويتشاركون المصادر والعناوين التي من شأنها تسهيل مُرادِهم بالسفر وعبور الحدود، مقابل دفع مبلغ مالي قد يصل لعشرة آلاف دولار أمريكي، يدبّرونه بشق الأنفس.
استطاع معاذ الوصول لإسطنبول بعد رحلة بدأت خطواتها الأولى في معبر رفح على الحدود المصرية مع قطاع غزة. كان يخطط للوصول جواً إلى السويد، عبر جواز سفر يحمل الإقامة الدائمة لشخص شبيه هو ابن عمه، ولكن السلطات المصرية ضبطت هذا الجواز قبل وصوله إلى يد معاذ. في اسطنبول، من السهل العثور على صلات مع أشخاص يعملون في تهريب المهاجرين.
الأصدقاء وأبناء العمومة والأقران يراسلون بعضهم البعض عبر وسائل التواصل الحديثة ويتشاركون المصادر والعناوين التي من شأنها تسهيل مُرادِهم بالسفر وعبور الحدود، مقابل دفع مبلغ مالي قد يصل لعشرة آلاف دولار أمريكي، يدبّرونه بشق الأنفس.
"مبني للمعزول" في غزة: لا جماليّ خارج حريتي
27-10-2022
" شابان من غزة"، يقول معاذ إنهما شربا عقاقيراً مخدرة قبل انطلاق المركب الصغير الذي يمتلكانه نحو جزيرة "كوس" اليونانية القريبة من الشواطئ التركية، في منتصف ليل أحد أيام حزيران/ يونيو من العام 2022. ويضيف: "كنا نحو عشرين شخصاً. وبعد مرور قليل من الوقت، تعطّل محرّك المركب الذي يحملنا، وتقطعت بنا السبل على مسافة ثلاثة أميال في عمق بحر إيجه، لمدة خمس ساعات، حتى وصول شرطة السواحل التركية الى القارب الذي نستقله واعتقال الموجودين فيه".
احتجزت الشرطة التركية معاذ رفقة من كانوا معه مدة يومين على ذمة التحقيق. كانت الإجراءات محدودة بحسب ما يقول، بخلاف المعاملة السيئة التي قُوبلوا بها من عناصر الشرطة. اقتصرت وجبات الطعام خلال احتجازه على قطعة مغلفة من الشكولاتة في كل يوم. وفي نهاية اليوم الثاني، سأله ضابط التحقيق بالعربية: ما اسم المُهرِّب؟ قال: لا أعلم. ما هي ملامحه؟ تذرّع بعتمة الليل فلم يتمكن من رؤيته.
"لا أشعر بالراحة إزاء تلقي مصروف شخصي من والدي، بعد أن بلغت سن ال 19 عاماً. شيء ما في داخلي لا يزال يكبر ويزيد من رغبتي بتجربة الاعتماد على الذات والشعور بشيء من الاستقلالية"، يقول الشاب الذي التحق بسنته الجامعية الأولى بعد عودته إلى غزة، ويضيف: "أعمل الآن سائق تاكسي بشكل مؤقت لتحصيل مستلزمات الحياة الضرورية، وما يتبقى هو ثمن للمخالفات المرورية يُدفع في نهاية الشهر (..). لا حياة مع السير في الطرقات لأكثر من اثنتي عشر ساعة يومياً لتأمين الأساسيات".
بات الخروج من قفص غزة حلماً موحداً لدى النسبة الأكبر من الشباب. إنه تحدٍ بذاته يرفض الواقع المفروض، ويواجه سلطة اجتماعية قائمة على الاستفادة من التراتبية التي تفرزها فتوّة الهيكل السكاني، وأخرى سياسية تحتكم لسياقات طارئة في صناعتها للقرارات وإدارتها للأزمات، وفق مصالح فئة محدودة من رجال الأعمال والقيادات السياسية.
لاجئو تركيا: وضع "الضيافة" المؤقتة
15-12-2020
في مخيم خانيونس للاجئين، قابلنا فهد حسين (35 عاماً)، الذي سرد لنا محاولته الهجرة قبل نحو تسع سنوات، وقتما كانت أنفاق التهريب بين غزة ومصر لا زالت تعمل لكسر الحصار الإسرائيلي جزئياً. يقول إنه خرج من بيته متسللاً في عتمة ليل اليوم الأول بعد انتهاء عدوان إسرائيل الكبير على غزة عام 2014. بيد أن نهار ذلك اليوم انقضى بخلافٍ مع والده حول قراره بالهجرة، الذي تخمّر على وقع أزيز الطائرات وأصوات الانفجارات، بحثاً عن حياة آمنة وفرصة عمل تقوده نحو مستقبل أفضل.
يسير فهد بين أزقة المخيّم حتى يصل إلى شارع السوق وسط المخيم. يمضي غرباً باتجاه شارع الرشيد، المحاذي لشاطئ البحر المتوسط، ثم إلى الجنوب نحو مدينة رفح المجاورة. يهاتف والده ليخبره بنيّته المبيت لدى صديق، لكنه في واقع الأمر كان يتحضر للزحف مسافة كيلومترين تحت الأرض عبر نفق حُفر على عجل، بينما هو يفكّر في شكل الرحلة البحرية التي ستمتد لمئات الكيلومترات عبر المتوسط.
يقع مخيم خانيونس على بعد نحو كيلومترين عن شاطئ البحر الأبيض المتوسط إلى الشمال من مدينة رفح، وإلى الغرب من مدينة خانيونس التي تعد مركزاً تجارياً رئيساً. في أعقاب النكبة الفلسطينية سنة 1948، لجأ نحو 35 ألف لاجئ إلى المخيم بعد أن طردتهم العصابات الصهيونية من قراهم الأصلية، وكان معظمهم يقطنون منطقة بئر السبع جنوب فلسطين المحتلة. يقيم في مخيم خانيونس في الوقت الراهن نحو 85 ألف لاجئ.
بقراره الهجرة، أراد فهد أن يفلت من كل شيء، أن يتنصّل من ضغوط المجتمع بسبب عزوفه عن الزواج، ومن المؤسسات والشركات التي تمتص طاقة الشباب بلا مقابل حقيقي. من أزمة المياه المالحة يفلت، ومن العتمة بسبب انقطاع الكهرباء وضجيج الازدحام والقمع. يهرب من تلوّث البحر بمجاري الصرف الصحي غير المعالَجة. يرى في الهجرة خلاصاً من حقيبة آلام مركّبة تسمّى غزّة.
أنفاق غزّة تبتلع ساحرة أسطوريّة
13-08-2014
غزة: ثنائية الحرب والبحر المسكون بالذكرى
14-08-2022
العبور إلى مصر عبر الأنفاق هو موتٌ محقق. قُصف الشريط الحدودي بين قطاع غزة ومصر أثناء الحرب عشرات المرات، قنابل بأنواعها ألقيت لضمان انهيار أكبر عدد من أنفاق التهريب بين الجانبين. يُطل من عين النفق الواقعة في غرفة بلاستيكية قرب الحدود، ويرى بئراً كالح السواد، سينزل من هنا بعد قليل بواسطة حبل سميك، ومن ثم سيسير على ركبتيه حتى يصل في آخر النفق إلى غرفة مشابهة لتلك التي نزل منها في العين الأخرى للنفق، حيث سيبدأ مشواره خفية نحو الإسكندرية.
بعد سنوات من "الاعتياد على الجلوس في البيت"، أخذ فهد يلملم ما يحتاج اليه من مال ليتمكّن من إتمام رحلته. جمع نصف المبلغ المطلوب من عمله المتقطّع مع مؤسسات المجتمع المدني، واستدان النصف الآخر من بعض الأصدقاء. استطاع الوصول لأحد مهربي الأنفاق آنذاك، واتّفق معه على دفع ثمن التهريب على مراحل. في كل مرحلة من مراحل العمليّة، يدفع قسطاً مما اتّفقا عليه.
سلك الطريق نفسه الذي سلكته بقية المهاجرين العاجزين عن الحصول على تأشيرة تسمح لهم بالمرور عبر معبر رفح. من البيت إلى رفح فالأنفاق، وصولاً إلى نقطة التجمّع الأخيرة التي لا زال يمكن الرجوع منها: الإسكندرية. كل خطوة تمحو سابقتها تماماً. الزحف داخل النفق يمحو غزّة، تجاوز صحراء سيناء يمحو عبور النفق، الوصول للإسكندرية يمحو الصحراء، وركوب السفينة يمحو كل ذلك. عند الوصول إلى المركب، يُدرك المهاجر أنّ لا مكان له سوى سواحل إيطاليا، اليونان، أو إسبانيا، أو لربما الموت غرقاً في ظلام الأبيض المتوسط.
لكّن، وقبل أن تنطلق السفينة بساعات، تم إرجاعه إلى غزّة تحت ظروف أمنيّة خاصة. هل يعرف من رحّلوه من أين أتى؟ وماذا رأى؟ ولماذا خرج؟
أخبرنا فهد أن ما دفعه لاتخاذ قرار كهذا، هو الخطر الكبير الذي كاد يودي بحياته وعائلته خلال العدوان، والنجاة من موت قريب، بعد أن قُصفت المنازل المحيطة لمكان سكنه. فالمخاطرة بالرحيل بأي شكل من الأشكال لربما تمنحه شيئاً من الأمن أكثر من البقاء في المخيم.
بقراره الهجرة، أراد فهد أن يفلت من كل شيء، أن يتنصّل من ضغوط المجتمع بسبب عزوفه عن الزواج، ومن المؤسسات والشركات التي تمتص طاقة الشباب بلا مقابل حقيقي. من أزمة المياه المالحة، ومن العتمة بسبب انقطاع الكهرباء وضجيج الازدحام والقمع. يهرب من تلوّث البحر بمجاري الصرف الصحي غير المعالَجة. يرى في الهجرة خلاصاً من حقيبة آلام مركّبة.
بعد تدمير مصر الأنفاق وإنشاء مساحة عازلة على جانبي الحدود بين غزة ومصر، ظهرت في غزة شركات تنسيق السفر الخاصة. وهي شركات تعمل لضمان سفر الغزيين عبر معبر رفح، مقابل دفع مبلغ مالي يتراوح ما بين سبعمئة إلى ألفي دولار أمريكي، دون انتظار دور ضمن طوابير الراغبين بالسفر، وهم بوتيرة عمل المعبر الحالية يبلغون آلافاً من الأشخاص. بذلك، تتقاسم تلك الشركات مع السلطات الرسمية على جهتي المعبر الحدودي، نفوذهما على حركة مرور الأفراد بصفة استثنائية، وهي شركات على صلات وثيقة بالنظامين المصري والفلسطيني.
ومع استحالة سفر معظم أبناء غزة عبر حاجز بيت حانون الخاضع للسيطرة الإسرائيلية، برز معبر رفح بإدارة مصر كمنفذ رئيسي لغزة نحو العالم الخارجي. على فترات متعددة، بعضها امتدت لسنوات متتالية، أغلقت السلطات المصرية معبر رفح لأسباب أمنية تشهدها محافظة شمال سيناء، معقل السلفيين الجهاديين وعناصر تنظيم الدولة الإسلامية، أو للضغط على حركة حماس المسؤولة عن إدارة الحكم في غزة، لدفعها نحو العودة للهدوء في أوقات التصعيد العسكري مع إسرائيل، أو كورقة ضغط في ملف المصالحة الفلسطينية تستخدمها مصر حفاظاً على دورها في هذا الملف.
الإجراءات المتبعة للحصول على تأشيرة نظامية لدول أوروبا باتت أصعب، ليس بسبب الإجراءات المتخَذة لتقليل أعداد المهاجرين إلى القارة العجوز فحسب، وإنما بسبب إغلاق المكاتب القنصلية لدول الاتحاد الأوروبي التي كانت تعمل في غزة، واقتصار عملها في مدينة رام الله في الضفة الغربية أو القدس المحتلة، بعد أن غادرت المدينة في أعقاب أحداث الانقسام الفلسطيني عام 2007، وسحبت طواقم موظفيها الذين كانوا يعملون لإنجاز معاملات السكان الراغبين بالسفر.
منذ ذلك الحين وفرصة الحصول على تأشيرة لإحدى الدول الأوروبية محاطة بمجموعة من الإجراءات المشددة، ما يجعلها أمراً مستحيلاً بالنسبة لأولئك الشبان، نتيجة ما تتطلبه من كفالات مالية أو توصيات مؤسسية، ولا سيما المنع الأمني عبر الحواجز والعراقيل التي تضعها إسرائيل في وجه السكان. وهكذا، يصبح الشبان فريسة سهلة لشبكات تهريب المهاجرين من أجل تسفيرهم إلى أوروبا بطرقٍ غير نظامية.
شباب غزة: ضحايا الانقسام والحصار
لم تصدر حتى الآن إحصائية رسمية بشأن أعداد المهاجرين من غزة. ولكن ما هو مؤكد، أن موجات الهجرة مرتبطة بالأحداث العنيفة التي تمس مختلف جوانب الحياة، من عدوان إسرائيلي متعدد الأنماط أو تصارع سياسي/ اجتماعي داخلي. فيما قَدّر تقرير نُشر حديثاً أن عدد المهاجرين بلغ في السنوات الأخيرة نحو 60 ألف مهاجر.
بعد تدمير مصر الأنفاق وإنشاء مساحة عازلة على جانبي الحدود بين غزة ومصر، ظهرت في غزة شركات تنسيق السفر الخاصة. وهي شركات تعمل لضمان سفر الغزيين عبر معبر رفح، مقابل دفع مبلغ مالي يتراوح ما بين سبعمئة إلى ألفي دولار أمريكي، دون انتظار دور ضمن طوابير الراغبين بالسفر، وهم بوتيرة عمل المعبر الحالية يبلغون آلافاً من الأشخاص.
في إدارتها لشؤون السكان الذين احتلت أراضيهم ومدنهم، فعّلت إسرائيل إجراءات التضييق الاقتصادي، ليجد اللاجئ الفلسطيني نفسه مضطراً للمغادرة بحثاً عن فرص العمل والتعليم، حيث كانت إدارة الحاكم العسكري الإسرائيلي تشترط على المسافرين التوقيع على تعهدات بعدم العودة، مقابل السماح لهم بعبور الحدود.
مكونات الواقع الفلسطيني تلعب دوراً كبيراً في تحديد طبيعة المشكلات التي يعاني منها الشباب. فهي تشكل عوامل تحدد أنماط سلوكهم وألوان الفكر لديهم، وطبيعة استجاباتهم. الفرص التعليمية والمهنية محدودة في ظل المنافسة الشديدة. وبجانب ذلك كله تمنع إسرائيل سكان غزة، ولا سيما الشباب منهم، من الوصول إلى باقي الأراضي الفلسطينية المحتلة أو الضفة الغربية والقدس للعمل أو التعليم، أو تلقّي الرعاية الصحية، أو حتى قضاء الإجازات السنوية.
بحسب بيانات "المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية"، فإن 30 في المئة من الجمهور الفلسطيني في غزة يرغب بالهجرة نتيجة سوء الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية الراهنة. وكذلك، أظهرت نتائج استطلاع أجرته منظمة الصليب الأحمر الدولية، أن النسبة ترتفع في أوساط الشباب، لتصل لنحو 90 في المئة.
يخبرنا الباحث في علم الاجتماع السياسي طلال أبو ركبة، أن الشباب في غزة يهجرونها لأنها باتت بيئة طاردة لهم، نتيجة ما يواجهون من شح في فرص العمل والحياة الكريمة، بسبب إجراءات الاحتلال التي خنقت كافة مستويات الحياة في القطاع، ونتيجة للانقسام السياسي وما تبعه. وأضاف أن "ارتفاع معدلات الفقر والبطالة وغياب الحريات خصوصاً في أوساط الشباب، جعل البيئة منفّرة لهم والوضع الطبيعي أن يهجروا غزة بحثاً عن فرص أفضل".
مستوى الرضا عن الحياة متدن لدى الشباب في غزة. وما ذلك بغريب بالنظر إلى أن نسبة الفقر بين الشباب في المدينة بلغت 56 في المئة، وذلك بحسب البيانات المنشورة عام 2018، التي أظهرت مدى فداحة الوضع قياساً بالضفة الغربية التي بلغت نسبة الفقر بين الشباب فيها 14 في المئة. الفجوة بين الضفة وغزة تتسع أيضاً في نسبة الفقر المدقع، ففي غزة بلغت 35 في المئة، بينما هي 6 في المئة في الضفة.
قارَب عدد القوة العاملة في غزة نحو نصف مليون فرد، وفقاً لما أفاد به مسح القوى العاملة في القطاع لعام 2017. بينما تشير إحصائيات جهاز الإحصاء الفلسطيني إلى أن أعلى نسبة للبطالة في القوة العاملة تتركز في فئة الشباب، إذ ارتفع معدل البطالة بين الشباب في غزة إلى 65 في المئة. وللبطالة آثارها على الشباب التي تمسهم على المستويات النفسية والاجتماعية والسياسية والأمنية، فهي ترتبط بانقطاع الدخل والعجز عن تلبية الحاجات الإنسانية الضرورية، والإحباط والشعور بالإهانة.
____________
من دفاتر السفير العربي
الهجرات: العالم يسيل (1)
____________
يعود هذا التراجع إلى جملة من العوامل والأسباب المتراكمة، أبرزها الحصار الإسرائيلي والعدوان المتكرر على القطاع، وبطء إعادة إعمار ما دمرته الحروب، وتفاقم الانقسام السياسي بين الضفة الغربية وغزة، وفرض السلطة الفلسطينية إجراءات مست الحياة والاقتصاد في غزة، ردًا على تشكيل حركة المقاومة الإسلامية "حماس" لجنة إدارية لإدارة شؤون أساسية للحياة في القطاع في آذار/ مارس 2017، وهي إجراءات استمرت مع تواصل الخلاف بين الطرفين، على الرغم من حل اللجنة في أيلول / سبتمبر 2017، واتفاق المصالحة في تشرين الأول / أكتوبر 2017.
الحصار بمعناه الأوسع إذاً، تحول إلى علامة منتشرة في كل أشكال الحياة. وهو يورّط أهلها بالتخلف الاقتصادي والاجتماعي، مما يؤدي لظهور تشوهات خطيرة في طبيعة وسلوك المجتمع والفرد على حدٍ سواء. ولا بد لتلك التشوهات من الانفجار الصامت على شكل تبرم وشكوى دائمة من صعوبة الأحوال. بينما يبلغ اليأس مداه الأبعد بين الناس، نتيجة للإقصاء الذي يمارسه نظامان سياسيان منفصلان، واحد في الضفة الغربية وآخر في قطاع غزة، لا ينفكان يتصارعان ويمارسان سلطتهما في مفاصل حياة السكان على مسافة ليست بعيدة من سلطة الحديد والنار التي يمثلها الاحتلال الإسرائيلي.
من هذا المنطلق، يمكن تفسير أن أسباب هجرة الشباب اقتصادية، ولكنها في الوقت ذاته تمتلك جذوراً سياسية. بحسب مسح الشباب الفلسطيني في غزة لعام 2015، فإن الأسباب التي تدفع بالشباب إلى الهجرة، تتمثل في عدم كفاية / غياب الدخل الاقتصادي بنسبة 62 في المئة، وبغاية الحصول على لجوء سياسي بنسبة 9.9 في المئة، وكذلك سوء الظروف السياسية الداخلية بنسبة 9.7 في المئة، أما التطوير المهني والتعليم فنسبته بلغت 9.1 في المئة، وما يتبقى يعود لأسباب اجتماعية مثل الضغوط العائلية والهروب من المشكلات، ولمّ شمل العائلة.
بحسب بيانات "المرصد الأورو- متوسطي لحقوق الإنسان"، فإن 360 فلسطينياً من غزة قضوا إما غرقاً أو فُقدت آثارهم في البحر المتوسط على متن سفن التهريب، وذلك منذ عام 2014. على الرغم من ذلك، لا يزال يحتفل الفلسطينيون في غزة بوصول أبنائهم إلى بر الأمان في الأراضي الأوروبية بعد رحلة شاقة تحتوي على كل الاحتمالات، بما فيها الأمل واليأس معاً، والحب والعذاب.
استشاري الطب النفسي والمحاضر في كلية الطب بجامعة الأزهر في غزة فضل عاشور، يقول إن لجوء الشباب للهجرة غير النظامية بتلك الطرق الخطرة والمميتة، إنما هو تفعيل لمبدأ نفساني معروف هو الهرب من الأزمة، حينما تنعدم أي إمكانية للاستسلام لعواقبها أو الدفاع في سبيل صدّ أذاها. وهي ظاهرة تكشف لنا لجوء الغزيين إلى الحلول الذاتية لكبح مشاعر الغضب الناتج عن الحرمان طويل المدى.
التهجير هدف الحصار وليس نتيجة حتمية له
عقب حرب الأيام الستة في حزيران/ يونيو 1967 واحتلال ما تبقى من أرض فلسطين، زادت إسرائيل من وتيرة تهجير الفلسطينيين التي كانت بدأتها خلال النكبة الفلسطينية سنة 1948 بعمليات التطهير العرقي والطرد. كان ذلك سعياً منها لردم مخاوفها من الهزيمة الديموغرافية.
ما تزال تلك المخاوف موجودة وتقترب من أن تصبح واقعاً، وأشكال اقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه مستمرة عبر ارتكاب جريمتي الاضطهاد والفصل العنصري لهدف وحيد: إبعاد الفلسطينيين عن أرضهم لأجل الحفاظ على أغلبية يهودية داخل حدود فلسطين التاريخية.
وفي إدارتها لشؤون السكان الذين احتلت أراضيهم ومدنهم، فعّلت إسرائيل إجراءات التضييق الاقتصادي، ليجد اللاجئ الفلسطيني نفسه مضطراً للمغادرة بحثاً عن فرص العمل والتعليم، حيث كانت إدارة الحاكم العسكري الإسرائيلي تشترط على المسافرين التوقيع على تعهدات بعدم العودة، مقابل السماح لهم بعبور الحدود.
كشفت عن تلك النوايا الإسرائيلية القديمة وثائق "لجنة الأساتذة"، وهي لجنة من الأكاديميين الصهاينة شكلها رئيس وزراء إسرائيل آنذاك ليفي أشكول. كان هدف اللجنة الرئيسي هو تعبيد الطريق لإزالة المكونات الأساسية لقضية اللاجئين الفلسطينيين، من خلال دراسة السكان وتوجهاتهم، وللعمل على تهجيرهم وضمان عدم عودتهم إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة.
يؤكد ذلك ما تطرق إليه الباحث الإسرائيلي عومري شيفر رافيف، مستعيناً بوثائق محفوظات الجيش الإسرائيلي بعد رفع السرية عنها بمرور خمسين عاماً، التي توضح عمل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وتورطها بمحاولة إعادة تشكيل التركيبة السكانية في غزة. مما يعني أن تهجير السكان من القطاع المحاصر كان أحد الأهداف التي تضعها إسرائيل نصب أعينها وراء حصارها المشدد الذي تفرضه على القطاع منذ عام 2006، وليس نتيجة حتمية له.
بعد عقود من الزمن، في عام 2019، كشفت تقارير إسرائيلية عن مساع تبذلها حكومة بنيامين نتنياهو لتنفيذ خطط جديدة لهجرة الفلسطينيين في غزة، عبر إرسال الوفود إلى عددٍ من الدول الأوروبية والعربية، لبحث تسهيل انتقال المهاجرين الغزيين واستيعابهم وإعادة دمجهم، كاشفة عن استعداد سلطات الاحتلال للسماح باستخدام أولئك المهاجرين مطار "رامون" في جنوب فلسطين المحتلة، إذا ما عملت تلك الخطط بالشكل المطلوب.
مهربو البشر: مافيات تخترق متاريس الحصار
تستدعي الأعداد المتزايدة للضحايا دراسة الوسائل التي يعتمدون عليها في تسهيل وصولهم إلى نقاط التجمع والانطلاق، ومحطات العبور إلى الوجهة النهائية للمهاجر. يحاول البعض منهم اختصار الزمن عبر رحلة بحرية غير آمنة، فيما يلتفّ آخرون على أنظمة الملاحة والسفر، ويحاولون الولوج إلى بلدان غرب أوروبا باستخدام الثغرات القانونية التي تسمح لهم بركوب طائرة أو صعود قطار يلقي بهم في بلاد جديدة. على أن الهدف النهائي لهم هو الوصول إلى بلد يمنحهم صفة "لاجئ".
في تشرين الثاني / نوفمبر 2022، تقصَّى الصحافي أحمد سعيد من غزة، عن مصير مجموعة من الشبان الذين نجوا من موت محقق، إلى جانب إثارته الأسئلة حول طبيعة الظروف التي جعلتهم فريسة سهلة لشبكات تهريب المهاجرين وساقتهم من حياتهم المغلقة نحو تجارب مريرة وجدوا أنفسهم مضطرين لخوضها.
كشف الصحافي سعيد في بث حيّ عبر موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، أن أصابع الاتهام في توريط شباب غزة بتلك الرحلات القاسية تشير إلى شخصيات معروفة لدى الحكومة في غزة، تبقى دون حساب أو مساءلة، مزيلاً الستار عن انتهاكات عديدة يتعرض لها أولئك الشبان على طول رحلتهم إلى الدول التي يبتغون الوصول إليها، بما في ذلك الإخفاء القسري لدواعي الاختباء عن أعين أجهزة الأمن في الدول التي يعبرونها، والإجبار على ركوب قوارب ليست مؤهلة وبأعداد تفوق قدرة المركب على التحمل.
غزة من الداخل: دولة عميقة تحت الاحتلال
الجهات الرسمية تنظر للمؤشرات والنسب المنشورة باعتبارها إحصائيات بحتة. وعلى طول السنوات الماضية، كانت المؤشرات تصوِّب نحو استمرار سوء الأوضاع التي تعايشها شريحة واسعة من الخريجين والعمال، دون التبشير باستراتيجية أو خطة وطنية للعمل على مواجهة تلك الظروف الصعبة التي تحاصر حياة نحو 250 ألف خريج ومثلهم من العمال.
في عام 2019، كشفت تقارير إسرائيلية عن مساع تبذلها حكومة بنيامين نتنياهو لتنفيذ خطط جديدة لهجرة الفلسطينيين في غزة، عبر إرسال الوفود إلى عددٍ من الدول الأوروبية والعربية، لبحث تسهيل انتقال المهاجرين الغزيين واستيعابهم وإعادة دمجهم، كاشفة عن استعداد سلطات الاحتلال للسماح باستخدام أولئك المهاجرين مطار "رامون" في جنوب فلسطين.
في يوليو/ تموز 2022، فرضت اللجنة الإدارية في غزة زيادة على قيمة الضرائب والجمارك على البضائع المستورَدة، بدعوى حماية المنتج الوطني. وهو ما يضيف ثقلاً على الأجواء التي يعيشها سكان القطاع، إذا ما جمعناها مع التخلف الاقتصادي الناتج عن تجاهل السلطة الفلسطينية لحصة غزة من سائر خطط التطوير والتنمية الاقتصادية، أسوة بباقي مناطق حكم السلطة، حيث آلاف المصانع والمشاغل والمشاريع التي تهاوت وأغلقت أبوابها في وجه العاملين فيها، بعد أن ضربت إسرائيل الحصار على "أكبر سجن مفتوح في العالم"، كما بات يطلق أهله عليه.
داخل غزة، تقود حركة حماس خطاب الأزمة، باعتبارها التيار الرئيسي الذي يحكم المجتمع ويحدد سياساته. كان مفتي الحركة الديني الشيخ يونس الأسطل، أفصح عن توجهات حركته نحو قضية الهجرة، فتارة يرى أحلام الشباب بالوصول إلى حياة أكثر استقراراً هرباً من القدر والدين والأهل، وتارة أخرى يهاجم الضحايا بداعي انصياعهم لأفكار الطيش والجشع، وقال: "إنهم كمن مات منتحراً".
____________
من دفاتر السفير العربي
الهجرات: العالم يسيل (2)
____________
الموت من الحصار جاء ببطء. كان مرضاً يعيش معه الناس، بمعنى أنه أصبح طريقة حياة لمن يعانون منه. كان يُفهم على أنه إيقاف للحياة، ثقل، إهدار. كان مرتبطًا بالعاطفة والشدة. في الواقع، تمّ تحديد الحرية على أنها سبب المرض وأعراضه. ومن أجل الشفاء كان يجب التكيف مع المكان، وحقيقة أن هناك أسباباً للاحتفال أو الأمل لا زالت موجودة في منطقة ضمن الأعلى كثافة سكانية وبطالة وفقراً داخل هذا العالم، يعني أن الحياة لا زالت ممكنة، على الرغم من كل الشروط المجحفة التي فرضت على أولئك الناس.
* "حمى البحر المتوسط": فيلم فلسطيني من كتابة واخراج مها الحاج، يمثل فلسطين في أوسكار 2023 عن فئة أفضل فيلم طويل دولي، ويتناول حالات وخيبات الفرد الفلسطيني ضمن واقع احتلالي، التي تنعكس على كينونة المكان وشخوصه.