كيف انتهت المرحلة الانتقالية في اليمن عقب 2011 إلى الحرب؟

لمنع استمرار اليمن في الغرق نحو أزمة إنسانية مزمنة، فإن على المجتمع الدولي والأمم المتحدة  واللاعبين الإقليميين، خاصة المملكة العربية السعودية، التحرك سريعاً لإنهاء التصعيدات ودعم المفاوضات بين الأطراف اليمنية. حتى وإن عاد الرئيس هادي وحكومته المعترف بها دولياً إلى اليمن، فإن دورهم في فشل المرحلة الإنتقالية يجب أن يجعل من أي دور لهم محدوداً ومؤقتاً وخاضعاً للمحاسبة والرقابة حتى تتم إعادة تطبيع الأمور وتشكيل سلطات جديدة.
2016-05-25

ماجد المذحجي

مؤسس مشارك والمدير التنفيذي لمركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية


شارك

ملخص تنفيذي:

قام مجلس التعاون الخليجي والمجتمع الدولي بجمع مختلف الفرقاء السياسيين في العام 2011 بغرض إنهاء الأزمة التي دخلتها البلد عقب ما عُرف بـ"ثورات الربيع العربي". نتج عن هذه المفاوضات إتفاقية سٌميت بالمبادرة الخليجية والتي قادت اليمن نحو المرحلة الانتقالية، وهدفت هذه المرحلة إلى تذليل العقبات نحو انتقال سلمي للسلطة بعيداً عن الرئيس السابق علي عبد الله صالح، وأيضاً مناقشة مطالب الشارع المتمثلة بإصلاحات ديمقراطية وتحقيق عدالة انتقالية، إضافة إلى تقوية مؤسسات الدولة اليمنية، وكذلك الحد من استخدام الفرقاء السياسيين للعنف، ومنع عودة النظام الاستبدادي.
وبينما أظهرت المبادرة الخليجية فاعليتها في تحقيق استقرار قصير المدى، أدت بعض الأخطاء في الاتفاقية، وكذا ممارسات الفرقاء السياسيين والمجتمع الدولي إلى فشل مستفحل للعملية الانتقالية في اليمن بدلالة الحرب الشعواء الحالية في اليمن منذ أكثر من عام. ومع سريان محادثات حالية في الكويت للتوصل إلى حل سياسي جديد لإنهاء الصراع في اليمن، يجب التمعن في أسباب فشل المبادرة الخليجية من أجل تجنيب أي اتفاقية جديدة من تأجيل صراع أكثر تدميرا إلى وقت لاحق كما عملت المبادرة الخليجية.

بعض إستنتاجات هذه الورقة:

•     الضغط الدولي على اللاعبين المحليين لإنجاز أي شكل من أشكال التوافق( كما جرى في التفاوض على المبادرة الخليجية ولاحقاً في مؤتمر الحوار الوطني) قد ولد اتفاقيات رمزية في طبيعتها وتجنب التعامل مع أهم القضايا التي تواجه اليمن. وقد تم ذلك التوافق الرمزي في السابق بينما تم السماح للرئيس السابق علي عبد الله صالح بالحفاظ على سلطاته، وتقاسمت القوى التقليدية جسد الدولة اليمنية عبر "المحاصصة" وحُصرت الكثير من المسؤوليات في يد الرئيس الانتقالي عبد ربه منصور هادي  الذي عجز عن ممارستها بينما تضاءل مع الوقت الدعم الشعبي للعملية الانتقالية التي كانت تجري.
•     للمجتمع الدولي دورا فاعل وحيوي في بداية العملية الانتقالية، إلا أن الدعم الهائل من الأمم المتحدة والحكومات الأجنبية لرئاسة هادي، ساعد في تشظي البلد بعد أن اتهم هادي بسوء الإدارة والفساد وفشله في تنفيذ إجراءات بناء الثقة للتحضير للحوار الوطني.

مقدمة:

شهد الربيع العربي في 2011 خروج مئات الآلاف من اليمنيين إلى الشارع متظاهرين لعدة أشهر ضد الرئيس صالح آنذاك، والذي بقي في السلطة لأكثر من 30 عاماً. أعادت هذه الحركة الثورية تمكين المواطن اليمني العادي، ولكن في نفس الوقت زادت من زعزعة استقرار البيئة السياسية والأمنية والتي اتسمت بالخطورة قبل الإحتجاجات أصلا. كما سلطت هذه الانتفاضة الضوء على الشقوق العميقة بين مختلف الفرقاء السياسيين، وكذلك أعادت تفعيل الصراعات العالقة منذ فترة طويلة، بل وأعطت زخماً لصراعات أخرى.
على سبيل المثال، سيطر أنصار الله (الحركة الزيدية الشيعية المتمركزة في شمال اليمن والمعروفة بالحوثيين) على المحافظة الشمالية صعدة بالقوة، كما حاول الحراك الجنوبي (تحالف فضفاض لمجموعات اتحدت رؤيتها حول إيمانها أن جنوب اليمن أصبح محروماً بسبب الشمال). الاستفادة من صراع الحوثيين على السلطة مع الحكومة المركزية من أجل استعادة استقلال جنوب اليمن. كما استغل تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية ضعف تواجد وأمن الدولة في العديد من مناطق الجمهورية ليسيطر على المحافظة الجنوبية أبين حينها. وفي نفس الوقت حاول اللقاء المشترك (تحالف من أحزاب مختلفة ويقوده حزب الإصلاح الجناح السياسي لجماعة الإخوان المسلمين في اليمن) استمالة واستخدام قوة المظاهرات الشعبية لتوسيع قوتهم في داخل هياكل الدولة وبمحاولة مستميتة للإطاحة بصالح واستبداله.
على إثر ذلك، دشنت دول مجلس التعاون الخليجي بقيادة السعودية محادثات في الرياض و صنعاء بين الأطراف السياسية اليمنية المختلفة بهدف وضع حد للأزمة، و جرت المفاوضات بإشراف المبعوث الأممي والدول العشر. كانت تلك هي المرة الأولى منذ عقود التي حضرت فيها مطالب العامة بجدية إلى طاولة المفاوضات السياسية في اليمن. لقد مثل ذلك تحولاً جوهرياً في بلد لطالما تعامل مع القضايا السياسية بيد أمنية ولطالما ظلت "الديمقراطية" فيه مجرد مفردة لتزيين سلطة مستبدة.
لكن صالح كان صلباً ومرنا في نفس الوقت فاستطاع هندسة تفاصيل المفاوضات والاتفاق بشكل عام. ذلك أن الزخم الذي اكتسبته الانتفاضة الشعبية من أجل إصلاح ديمقراطي، كان قد بدأ بالتراجع مع تنازع القوى التقليدية النافذة في البلد على وراثة صالح واختطاف الحراك الديمقراطي في البلد باتجاه مصالحها، وفي23 نوفمبر2011 رست المفاوضات على ما عٌرف لاحقاً بالمبادرة الخليجية والتي وقعتها الأطراف السياسية المختلفة في العاصمة السعودية الرياض.

مكامن الخلل الجوهرية في المبادرة الخليجية:

تابعت المملكة العربية السعودية الربيع العربي وهو يعصف بحلفائها في مصر و تونس، وفي محاولة لإستباق قوة جديدة مماثلة من الصعود في حديقتها الخلفية(اليمن)، كرست الرياض نفوذها لتطويق أطراف الأزمة السياسية المختلفة في اليمن. وبرعايتها للمفاوضات السياسية، عملت السعودية على إستمرار دورها ونفوذها الأبوي على جارها الجنوبي.
ومع أن الصيغة النهائية للمبادرة الخليجية تضمنت آلية لنقل السلطة من الرئيس صالح، فإنها لم تبعده تماماً من السلطة بقدر ما تشاركتها معه. لقد عكست المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية التنازلات الثقيلة من قبل الأطراف المختلفة للوصول إلى اتفاق. وقد وُقعت النسخة الأخيرة من المبادرة بسبب الضغوط الإقليمية والدولية على الأطراف السياسية وليس تعبيراً عن التزام حقيقي فيما بينها.
وفي الطريق إلى المسودة النهائية من المبادرة ، قُلصت مطالب العامة بالمحاسبة وتغيير سياسي حقيقي إلى مُجرد عملية إصلاحية رمزية بدت بشكل كبير أنها صُيغت فقط لاحتواء المظاهرات الشعبية والاحتيال عليها. فعلى سبيل المثال، استُجيب لمطالب المتظاهرين بتنحي صالح من الرئاسة، ولكن تم الحفاظ على شكل وهيكلية نظامه  عبر معادلة الحصانة من الملاحقة القضائية التي مُنحت لصالح و أسرته و أفراد حكمه.
لقد ركزت المبادرة الخليجية على تنظيم الانتقال السياسي من فترة صالح كحاكم وحيد إلى فترة إنتقالية يتشارك فيها السلطة مع أحزاب اللقاء المشترك مع إزاحته من موقع الرئاسة وصعود نائبه هادي إلى سدة الحكم. وتضمنت لتحقيق ذلك عدد من الآليات منها الانتخابات الرئاسية (وهي إستفتاء على مرشح وحيد أكثر من كونها انتخابات) وتشكيل حكومة جديدة تحت عنوان الشراكة الوطنية، إضافة إلى تضمنها آليات إجرائية (الآلية التنفيذية للمبادرة الخليجية) منها تشكيل لجنة لتفسير المبادرة ، وهي لجنة لم يصدر بها قرار إنشاء من الرئيس الانتقالي لكونها الوحيدة، كما يبدوا، التي كان بإمكانها تقاسم السلطة الكبيرة المخولة له وفق المبادرة[1]، حيث مُنح الرئيس الانتقالي صلاحيات أعلى من كل الأطراف كعنصر تحكيمي في حال الخلاف بين الأطراف الموقعة على المبادرة. كانت تلك المركزية والحصرية الشديدة للقرار واحدة من أكبر مكامن الخلل في العملية الانتقالية، إذ كُثفت صناعة القرار في أيدي الرئيس هادي المسنتين والغير فاعلتين بشكل عام.
إن احتواء المبادرة على حصانة غير مشروطة للرئيس صالح و أفراد أسرته وأعوانه تجاه ما ارتكبوه طوال فترة حكمهم التي استمرت أكثر من ثلاثة عقود[2]، انسحب في غطائها القانوني أيضاً على خصوم صالح في 2011 والذين كان كثير منهم شركاء أساسيين في نظام حكمه سابقاً، ليشكل هذا النص بقانون الحصانة في المبادرة إفصاحاً عن كونها تسوية على حساب المطالب العامة وحقوق الإنسان، ما جعلها في نظر جزء كبير من الحراك الشعبي طعنة من الخلف.
بشكل عام، فقد أعاد التفاوض على صياغة المبادرة الخليجية وإقرارها لاحقا في الرياض دائرة القرار السياسي إلى نفس مربع القوى السياسية التقليدية ومراكز القوى. لم يكفل إشراف الأمم المتحدة ضمان تمثيل فئات جديدة في التفاوض السياسي الذي أنتج المبادرة، فأحد عناصر القلق الأساسية مثلاً للمملكة العربية السعودية التي لعبت الدور المركزي في إدارة التفاوض للاتفاق على المبادرة هو تحول غير محسوب أو مسيطر عليه في اليمن وصعود فاعلين لا تعرف الرياض عنهم شيئاً. هذه الآلية السعودية الكلاسيكية فشلت في التفاعل مع /وإدراك حقيقة مهمة وهي أنه خلال الأزمة الأخيرة صعدت جماعات جديدة إلى السطح، إضافة إلى أن الديناميكيات السياسية في اليمن قد تغيرت بشكل جوهري عما عرفته السعودية في اليمن  سابقاً.
لقد فتح مبدأ تقاسم السلطة الذي كرسته المبادرة شهية الأطراف المختلفة، وشكل تحاصص الوظيفة العامة[3]ومواقع النفوذ في أجهزة الدولة بين أطراف المبادرة دعوة غير مباشرة للآخرين ليطالبوا بنصيبهم، مما ساهم بالمزيد من ضعف الدولة وتآكل هيبتها وبالتالي عدم استقرار الحكم خلال الفترة الانتقالية كان نتيجة كل ذلك.

تحديات المرحلة الانتقالية:

صعد النائب السابق لعلي عبدالله صالح إلى موقع الرئاسة كحل وسط بين الأطراف المتصارعة، وأتيح للرئيس الإنتقالي عبد ربه منصور هادي وصولاً سهلاً للحكم عبر مصادقة شعبية رمزية أكثر من كونها منافسة ببرنامج انتخابي أكسبه الثقة الشعبية. ولكن الأهم أنه كان يحظى بدعم دولي وإقليمي وشعبي واسع وغير مسبوق منذ اللحظة الأولى لتوليه مقاليد الموقع الأول في الدولة اليمنية.
على الرغم من هذا الدعم غير المسبوق، لم يتأخر الرئيس هادي في إثبات نفسه كرجل بلا رؤية أو كاريزما كحقيقة فجة، وتجلى ذلك في ظهوره العلني النادر بل مثل كل ذلك خيبة كبيرة لبلد تتطلع لقائد قوي وجديد.
بالإمكان إيعاز فشل الرئيس هادي إلى الكثير من العوامل من ضمنها أن قدرته على إدارة المرحلة الانتقالية مثقلة بحسابات ومصالح القوى التي مكنته من السلطة. لقد تعاملت أطراف سياسية عديدة على رأسها اللقاء المشترك ومراكز القوى المحسوبة عليها باعتبار الرئيس هادي مدين لها، وأكثر من ذلك ملزم بالتجاوب معها كون الحراك الشعبي الذي أزاح صالح من الرئاسة مُسيطر عليه من قبلها.
وإضافة لهادي كانت سيطرة الإصلاح والمشترك على رئاسة حكومة الوفاق الوطني عنصراً إضافياً يحد من قدرة هادي على المناورة. بالمقابل قاوم الرئيس السابق صالح ومراكز القوى المتحالفة معه تمكين الرئيس هادي من القرار على مؤسسات الدولة وخصوصاً العسكرية والأمنية. وحتى ضمن حزب هادي نفسه (المؤتمر الشعبي العام) لم يحظ هادي بولاء كبير،وقد فشل هادي في انتزاع الحزب الذي هو أمينه العام من صالح، واستطاع الرئيس السابق -ورئيس حزب المؤتمر- الاحتفاظ بالسيطرة على هذا الحزب الذي يتغلغل أعضاؤه وأنصاره في كافة أجهزة الدولة.
لقد تصاعد مع الوقت سوء سمعة الأطراف التي تقاسمت الحكم في المرحلة الانتقالية، وشكل تحاصص الوظيفة بينهم العنوان الأبرز لسلوكهم السياسي الذي أضعف الدولة وعزز من الغضب الشعبي وانعدام الثقة تجاه إدارة المرحلة الانتقالية خصوصاً المحسوبة على حراك 2011. كما أن اتهامات الفساد التي نالت الرئيس هادي وطالت سلوك أنجاله كانت الوصمة الأسوأ في العهد الانتقالي الذي كان يراهن بإنه سيشهد فرقاً في سلوك النخبة السياسية بعد حراك شعبي عاصف.
لقد أعاد هادي تنشيط أدوات حكم صالح الرديئة، فجعل دائرة القرار المحيطة به محصورة ضمن عائلته، واشترى الولاءات بالمال و المناصب، وعمد إلى سياسة المضاربة بين القوى السياسية وخلق صدامات بينها لإضعافها، ليشكل كل ذلك الملمح البارز لطبيعة الإدارة السيئة التي انتهجها خلال المرحلة الانتقالية.

دور المجتمع الدولي:

حضر المجتمع الدولي بشكل حاسم في المرحلة الإنتقالية اليمنية، وكان للمبعوث الأممي الخاص لليمن جمال بنعمر دوراً مركزياً في تقرير مسار العملية السياسية حينها وصياغة ملامحها، إلى حد أن تعدى فيه -ضمن الإنطباع العام- دوره كوسيط وميسر بين الأطراف السياسية إلى فاعل أساسي في اتخاذ القرارات وتوجيه مسار الحياة السياسية، ليصبح ضمنياً أحد أهم مراكز القوة في المرحلة الانتقالية إعتماداً على ضعف أداء الأطراف المحلية والرغبة بالإحتماء بالقوى الدولية في ظل إختلال موازيين القوى على الأرض. تمسك الرئيس هادي وبعض الأطراف السياسية المحلية،يتصدرها الحزب الاشتراكي اليمني، بفكرة أن مجلس الأمن والعقوبات الدولية هي الضامن لها في مواجهة فائض السلاح لدى الأطراف الأخرى.
 
لقد كان دور بنعمر إيجابياً في بادئ الأمر كونه أضعف من دور الرئيس السابق صالح وساعد الرئيس هادي على تعويض الفقر في الدائرة المحيطة به وعزز موقعه كسلطة قرار، إلا أن بنعمر منح غطاء لأخطاء هادي أيضاً، وتواطأ مع أدائه السيئ في إدارة المرحلة الانتقالية والحوار الوطني لاحقاً.
 
وإضافة للمبعوث الأممي حضر المجتمع الدولي عبر صيغة سفراء الدول العشر الراعية للمبادرة الخليجية، ولعبت دوراً مركزياً في دعم مسار العملية الانتقالية وتعزيز هادي، ولكنها أيضاً لم تقم بمقابل الدعم الكبير له وللحكومة بأي دور رقابي على أدائهما خصوصاً مع تصاعد رائحة الفساد وسوء الإدارة، وبدا بمستوى ما أن هذا التواطؤ مع هادي والصمت على مشكلاته مُقترن في نظر العامة بتمكينه لمصالح الدول الكبرى ( خاصة الولايات المتحدة الأمريكية) في اليمن بشكل غير مسبوق. شهد التعاون مع الولايات المتحدة أعلى مستوياته على صعيد الحرب مع الإرهاب، وكان تصريح الرئيس هادي بتأييد ضربات الطائرات بدون طيار الأمريكية في الأراضي اليمنية[4] سلوكاً غير مسبوق في السياسية اليمنية وعلى المستوى الدولي. مثال آخر جعل الرئيس هادي يبدو أقرب للخارج من الداخل هو شراكته مع الحكومة والشركات الفرنسية ذات المصالح النفطية في اليمن.
 
لقد انعكس حضور المجتمع الدولي بمستوياته المتعددة بشكل سلبي على العملية الانتقالية في اليمن. وعلى الرغم من حيوية وإيجابية هذا الحضور في المرحلة الأولى منها، إلا أن تواطؤهم مع أداء هادي السيئ وترجيحهم لمصالحهم السياسية التي يضمنها هادي أدى إلى غضهم الطرف عن فشله في إستثمار دعمهم لإنجاح المرحلة الإنتقالية، كان أمراً محورياً في تشظي اليمن لاحقاً.
 
بالنسبة للعديد من اليمنيين، فقد بدا واضحاً بإن مصالحهم قد تم تنحيتها جانباً هذه المرة من قبل المجتمع الدولي الذي كان يتناغم مع هادي لتمرير أجندته المختلفة في اليمن، مقابل دعمه لقائد أثبت نفسه مراراً كفاسد و غير كفؤ, لقد كان ثمن ذلك هو خسارة المجتمع الدولي المصالح التي كان يحاول حمايتها ونفوذه السياسي على الأطراف السياسية اليمنية بمجرد غرق البلاد في حرب أهلية.

فشل مؤتمر الحوار الوطني:

شكل الحوار الوطني أحد أهم آليات المبادرة الخليجية التي يفترض بها إنجاز تسوية سياسية بعد أحداث ثورة 2011، وكان يؤمل من الحوار أن يستوعب المطالب التي قادت إلى إحتجاجات ثورة 2011. في الواقع فإن التوقعات العالية جداً التي وضُعت لمؤتمر الحوار الوطني ( ذلك أنه أوعز إليه بحل التحديات العميقة والمزمنة لليمن وفي منتدى واحد) كان واحداً من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى فشله في نهاية المطاف.
وبينما تمتع مؤتمر الحوار الوطني بدعم دولي غير محدود، فقد كان أيضاً خيار الأطراف السياسية الأقل إعتماداً على القوة لتحقيق مكاسب سياسية، وذلك لكونه يُمكنها من طرح مختلف القضايا التي كانت تلقى ممانعة في الحكم السابق. إضافة إلى أنه يحظى بتأييد دولي يضمن بشكل غير مسبوق إمكانية إنفاذ مقرراته، ولذلك كان الحوار مصلحة فعلية للأطراف السياسية ذات الهوية المدنية مثل منظمات المجتمع المدني والنساء والشباب، على عكس بقية الأطراف التي تحتفظ بقوة السلاح في الميدان وتعتمد عليها دوماً في فرض الحقائق السياسية عبر الأمر الواقع.
لقد كان السياق السياسي الذي تم خلاله الحوار الوطني ملغماً ومليئاً بالصراعات بين الأطراف المخلفة. على سبيل المثال، فإن المعارضة التقليدية الرسمية (أحزاب اللقاء المشترك) نصبت نفسها في الحوار الحديث ليس فقط نيابة عن أجندتها السياسية، بل و أيضا الحديث باسم الإنتفاضة الشعبية. لقد برر اللقاء المشترك هذا الإختطاف بالشراكة بين الطرفين في الإنتفاضة ضد صالح, ولكن اللقاء المشترك تجاهل حقيقة أنه يمتلك رؤية مختلفة تماماً للتعامل مع تحديات اليمن في مرحلة ما بعد صالح مما كانت تمتلكه الإنتفاضة.
إن مما ساعد على تعقيد نجاح مؤتمر الحوار الوطني هو حقيقة أن أحداث 2011 في اليمن كانت في أغلبها نتيجة لقضيتين ونزاعين رئيسيين في اليمن. الأول كان حركة الإحتجاجات الجنوبية المطالبة بالاستقلال والتي تعود جذورها إلى العام 1994، والأخرى هي قضية صعدة في شمال اليمن والتي تعود جذورها إلى بداية الألفية. لقد ظلت القضيتان خاضعتين لتعقيدات سياسية متزايدة ومظالم مُغيبة ومفتوحة فظل هذان النزاعان يلقيان بظلالهما على مستقبل الدولة اليمنية، بل ووجودها من الأساس. طالبت بعض جماعات الحراك الجنوبي بالإستقلال التام أو فيدرالية من إقليمين وكان للحوثيين مطالب بالتعويضات عن حروب صعدة الستة.
 
وإلى جوار ذلك تأتي المحركات غير المرئية في النزاع السياسي وهو إنقسام مراكز القوى الأساسية في النظام السابق بعد ثورة 2011 والتي من أبرزها الجنرال علي محسن الأحمر ( حليف صالح سابقا) والتحاق بعضها بالحراك السياسي والاجتماعي ضد صالح، مما صعد من التناقضات السياسية وأدى إلى انعكاسات أمنية عميقة.
كل هذه العوامل خلقت وضعاً معقداً للغاية قبل الذهاب إلى مؤتمر الحوار الوطني. ومع ذلك، كانت الاستعدادات للحوار تمشي بإيجابية. وللتحضير للمؤتمر وإعداد الأرضية للحوار أصدر الرئيس هادي قراراً جمهورياً بتعيين لجنة فنية للتحضير للحوار من 16 عضواً تمثل الأطراف السياسية بما في ذلك الشباب و المجتمع المدني من إنتفاضة 2011. صاغت اللجنة الفنية – التي حظيت حينها بدعم محلي و دولي - ما عُرف بالنقاط العشرين كإجراءات لبناء الثقة يتم تنفيذها قبل انطلاق مؤتمر الحوار الوطني. تضمنت هذه النقاط إعادة أراضي تم السيطرة عليها في الجنوب وإعادة المبعدين من وظائفهم، واعتذار السلطات المركزية عن حروب الجنوب وصعدة وإطلاق ما تبقى من المعتقلين على ذمة النزاع.
تم عرقلة عمل اللجنة حينما أصر الرئيس هادي – بمساعدة المبعوث الأممي– على الخوض في الحوار الوطني قبل تنفيذ النقاط العشرين. وبينما كانت بعض النقاط تحتاج إلى موارد ووقت لتنفيذها، فإن العديد منها كانت رمزية وقابلة للتنفيذ كإعتذار الحكومة عن حروب صعدة و الجنوب ومعالجة الجرحى. لقد تطلب ذلك فقط أن يفعل الرئيس هادي صلاحياته، ولكن عدم قيامه بتنفيذها أوحى بعدم رغبته في قيادة ورعاية مصالحة وطنية حقيقية.
إستقال ممثلو الشباب و المجتمع المدني من اللجنة احتجاجاً على ذلك، وتم استبعاد الشباب من مشاركة حقيقية في مؤتمر الحوار الوطني حينما بدأ, وانسحبت أيضا الجماعات الفاعلة في الحراك الجنوبي من الحوار بسبب الفشل في تنفيذ النقاط العشرين، وقد أفقد ذلك الحوار مصداقيته وقدرته على الإتيان بحلول حقيقية. ولملء هذا الغطاء، فقد سعى الرئيس هادي والمبعوث الأممي واللجنة الفنية إلى استنساخ قوى جنوبية أخرى لا تمتلك ثقلاً على الأرض.
دُشن مؤتمر الحوار الوطني في مارس 2013 بهدف الإنتهاء في سبتمبر من نفس العام، وبسبب القضايا العالقة التي لم تُلاق حلاً، تم تمديده حتى يناير 2014. وبدلاً من البدء بالحوار بنوايا حسنة والإنفتاح على تقديم التنازلات، فإن الأطراف المختلفة زادت من تصلبها في مواقفها بينما إستعد أغلبها للتصعيد لنزاع مسلح خارج جلسات الحوار، كما حدث حينها.
لم يتم حل القضايا الرئيسية بشكل حقيقي ونهائي، فقد تباينت مواقف الأطراف السياسية في الفترة الأخيرة من الحوار وخصوصاً فيما يتصل بأعمال فريق القضية الجنوبية حين طرحت وثيقة حل القضية الجنوبية و تصاعدت التباينات بخصوص الفيدرالية والتقسيم المطروح لها ما بين ستة أقاليم وإقليمين، وهو أمر استمر خلال الحوار وبعده حين رحل حسم الموضوع الفيدرالي إلى لجنة تبحث بأمره. وبسبب الضغط نحو إنجاز أي إتفاق من نوع ما في الحوار، فإن المخرجات الأخيرة لمؤتمر الحوار الوطني لم تمتلك نصوصاً واضحة توجيهية بخصوص مشاكل اليمن الأكثر تعقيداً وتمزيقاً، كالقضية الجنوبية والفيدرالية والعدالة الانتقالية. ولذلك ومع أن مخرجات الحوار بشكل عام تحظى بنوع من القبول، فقد ظلت هناك تحفظات عميقة جداً وانتقادات واسعة بخصوص التفاصيل التي تحتويها.
وبسبب غياب الحقيقية في التوافق بخصوص الوثيقة النهائية، فإن إنتهاء مؤتمر الحوار الوطني قاد البلد بسرعة إلى أزمة سياسية جديدة،وبدلاً من أن يصبح أداة لحل قضايا اليمن الملحة، فإن مؤتمر الحوار الوطني في الواقع وسع الهوة بين الأطراف المختلفة أكثر من أي وقت مضى. ومع عجز الحوار عن حل خلافاتها، فإن الأطراف السياسية في اليمن عادت إلى طريقتها التقليدية في تحقيق أهدافها السياسية عبر إستخدام السلاح.

إسقاط صنعاء وإعلان وفاة المرحلة الانتقالية:

لقد شكلت المرحلة الانتقالية مساراً ممتداً من الفشل السياسي والفساد وسوء الإدارة علاوة على التحايل على الحراك الشعبي الذي خلق فكرة التغيير في 2011 وكان ينتظر بدء تلبية تطلعاته خلال هذه المرحلة، ليشكل كل ذلك التمهيد الطويل لإعلان فشل المرحلة الانتقالية في 21 سبتمبر من عام 2014، وذلك بدخول مليشيات جماعة الحوثي المسلحة إلى العاصمة صنعاء بمساعدة قوات تابعة للرئيس السابق علي عبدالله صالح وفرض سيطرتها بالقوة على مركز الدولة اليمنية[5]، ليعقبها بعد فترة إندلاع مواجهات في عدن بعد فرار الرئيس هادي من إقامته الجبرية في صنعاء إليها، وقيام الحوثيين بإعلانهم الدستوري[6] في تاريخ 6 فبراير 2015، والذي كان بمثابة إعلان رسمي لوفاة المبادرة الخليجية والمرحلة الإنتقالية في اليمن.
 بدأ الحوثيون بقصف قصر الرئيس هادي في عدن و أعلنت المملكة العربية السعودية حملة عسكرية لإعادة الشرعية إلى الحكم في اليمن تحت مسمى "عاصفة الحزم" في تاريخ 26 مارس 2015 ضمن تحالف خليجي وعربي عريض لتحقيق ذلك[7] واستقر كافة رموز سلطة المرحلة الانتقالية في الرياض، ومن ثم صدر قرار مجلس الأمن رقم 2216 تحت الفصل السابع[8] الذي دعم الحملة العسكرية السعودية رسمياً.
من حينها (قبل أكثر من عام)، تشهد اليمن معارك واسعة بين طرفين هما جماعة الحوثيين والرئيس السابق صالح من جهة, وسلطة الشرعية مدعومة بطائرات التحالف العربي من جهة أخرى. وفي خضم المعارك إستغل تنظيم القاعدة وما يعرف بتنظيم الدولة الإسلامية الفوضى لكسب مزيد من النفوذ في البلاد، ولقي الآلاف من المدنيين حتفهم، وجرح عشرات الآلاف، كما نزح الملايين من منازلهم ودُفع أكثر من 15 مليون يمني إلى حافة المجاعة، كما دمرت بنى تحتية وممتلكات عامة وخاصة تقدر قيمتها ببلايين الدولارات، بينما مزق الإستقطاب الطائفي النسيج والتماسك الاجتماعي اليمني.

ما الذي يمكن عمله؟

كانت المبادرة الخليجية فعالة في تأجيل الصراع في اليمن، لكنها فشلت في معالجة القضايا التي قوضت الاستقرار وأدت بالنتيجة إلى أحداث 2011. لقد مثلت العملية الانتقالية مرحلة ممدد لها من الفشل السياسي و الفساد و سوء الإدارة من قبل اللاعبين المحليين والإقليميين والدوليين. اليوم، وعلى الرغم من التقدم البطيء للقوات الموالية للرئيس عبدربه منصور هادي والمدعومة من السعودية على حساب قوات جماعة الحوثيين والموالية للرئيس السابق علي عبدالله صالح، إلا أن النصر العسكري الحاسم هو أمر بعيد المنال.
 
ولذلك ولمنع استمرار اليمن في الغرق نحو أزمة إنسانية مزمنة، فإن على المجتمع الدولي والأمم المتحدة  واللاعبين الإقليميين، خاصة المملكة العربية السعودية، التحرك سريعاً لإنهاء التصعيدات ودعم المفاوضات بين الأطراف اليمنية. حتى وإن عاد الرئيس هادي وحكومته المعترف بها دولياً إلى اليمن، فإن دورهم في فشل المرحلة الإنتقالية يجب أن يجعل من أي دور لهم محدوداً ومؤقتاً وخاضعاً للمحاسبة والرقابة حتى تتم إعادة تطبيع الأمور وتشكيل سلطات جديدة.
 
أخذاً بعين الاعتبار دور المجتمع الدولي الفاشل في اليمن خلال المرحلة الانتقالية، فإنه من اللازم على الأمم المتحدة وقوى العالم أخذ مقاربة مختلفة في التعامل مع الرئيس هادي وإدارته خلال الصراع الحالي، في حالة عودتها، وكذلك الحال في تعاملها مع أية سلطات إنتقالية قادمة في اليمن. إن أي إتفاق سلام لا يأخذ بعين الاعتبار مكامن فشل المبادرة الخليجية والمرحلة الانتقالية في اليمن، فإنه بالتأكيد سيقود إلى صراعات جديدة.
 
وأهم من ذلك، فإن أي صفقة سلام قادمة عليها أن تأخذ مطالب الشارع التي انتفضت في العام 2011 المتمثلة بإصلاح ديمقراطي حقيقي في اليمن. ومن دون ذلك، فإن أي استقرار يتم تحقيقه عبر أي إتفاقية جديدة حصراً بين الأطراف السياسية سيتبخر – مجدداً - في الهواء.

* أُعدّ هذا النص لـمركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية


[1] (لم توضح الآلية التنفيذية للمبادرة كيفية تشكيل وكذا قوام لجنة تفسير المبادرة والآلية التي يشكلها كل من النائب ورئيس وزراء الحكومة الانتقالية خلال 15 يوما من التوقيع على الآلية، باعتبار هذه اللجنة ستتخذ موقع المرجع التحكيمي في حال نشوء أي خلافات في تفسير النصوص، ولكن الآلية في المواد الختامية تؤكد على الدور الحيوي لدول الخليج والدول دائمة العضوية والأمم المتحدة وآخرين في ضمان تنفيذ الآلية بشكل فعال، وهو ما يبدو الضمانة الفعلية لتحقيق ذلك.) الآلية التنفيذية: ضمانات للتسوية بين شركاء متخاصمين، ماجد المذحجي، 26 – 11 – 2011

[2] أصدر الرئيس هادي قانون الحصانة للرئيس علي عبدالله صالح في 21 يناير 2012 وصادق عليه مجلس النواب في اليوم التالي.

[3] بيان الاتحاد العام لنقابات عمال اليمن يستنكر إقصاء الكوادر في المؤسسات المدنية ويدين سياسة المحاصصة، 2–10–2012، موقع حضرموت نيوز

[4] أثارت تصريحات الرئيس هادي المشيدة بضربات الطائرات بدون طيار الأمريكية جدلا واسعاً، لعدم قانونيتها بالأساس ولأعداد الضحايا المدنيين الذين يسقطون بسببها، وتناول تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش المعنون  "بين الطائرة بدون طيار والقاعدة" المدنيون يدفعون ثمن عمليات القتل المستهدف الأمريكية في اليمن، تأييد الرئيس  هادي لهذه الضربات، وكيف توسع نطاقها وازداد معدلها في عهده 

[5] سبق دخول الحوثيين المسلح إلى العاصمة صنعاء سلسلة حروب طويلة شنتها الجماعة بدءاً من معاركها المتقطعة مع سلفيي منطقة دماج في صعده منذ أكتوبر 2011، والتي انتهت بعملية تهجير جماعي للسلفيين من المنطقة في يوم 15 يناير 2014 وتوزعهم على مناطق أخرى، لتمتد المعارك لاحقا مع مشايخ آل الأحمر في محافظة عمران انتهت بسقوط قبيلة حاشد القوية في يدهم في شهر فبراير 2014، ومن ثم دخولهم في مواجهة مسلحة مع اللواء 310 وإسقاطهم لمقر قيادته وقتل قائده القشيبي بالتزامن مع إسقاطهم لمحافظة عمران الإستراتيجية التي تقع شمال صنعاء مباشرة في شهر يوليو 2014، وعلى الرغم من سيطرة الحوثيين عليها فقد أعلن الرئيس هادي حينها عقب زيارته لمدينة عمران أن (عمران عادت إلى سيطرة الدولة)، وفعلياً كانت عمران المنصة التي انطلق منها الحوثيون لإسقاط صنعاء بقوة السلاح في سبتمبر2014.

[6] نص "الإعلان الدستوري" للحوثيين الذي أثار رفضا وقلقا محليا ودوليا، موقع البوابة، 6 – 2 – 2015

[7] الملك سلمان يطلق عملية "عاصفة الحزم" ضد الحوثيين، موقع العربية نت، 26 – 3 – 2015

[8] نص القرار الخاص باليمن الذي اقره مجلس الأمن تحت الفصل السابع، موقع البوابة، 14 – 4- 2015

مقالات من اليمن

للكاتب نفسه

كيف غيّرت الحرب مأرب؟

مأرب الصاعدة في مشهد اليمن الحالي تحصد ضعف الجميع وتعاني منه في الوقت نفسه، وهي تُكثّف أعباء الحرب وامتيازاتها، وفيها يمكن رؤية كيف تُغيِّر ديناميات الصراع المسلح هوية المكان والتحديات...