العراقيون يقاومون الظلم بكرة القدم

يتفق العراقيون على أنّ أحد أسباب انتهاء الاقتتال المذهبي في 2006 و2007 كان فوز المنتخب العراقي لكرة القدم، للمرة الأولى، بكأس بطولة أمم آسيا في صيف عام 2007. فقد وحّد الفوز العراقيين من جديد، وجمعهم في تشجيع منتخبهم الوطني، والذي كان يتكون من لاعبين من كافة الطوائف والإثنيات العراقية المتنوعة.
2023-01-12

ديمة ياسين

كاتبة صحافية، من العراق


شارك
خليجي 25

قفز من بين زحام السيارات في الشارع وبدأ بالرقص أمام شباك سيارة الأجرة التي كنت أستقلّها مع صديقتي. كانت ضحكته الواسعة تضيء وجهه الصغير وهو يهزّ كتفيه بسرعة، بمشاغبة عراقية أصيلة، مصاحباً إيقاع الموسيقى التي تملأ الشارع. سحبتُ هاتفي بسرعة لأصوره، فاتسعت ضحكته وعاد واختفى بين زحام السيارات وأضواء الألعاب النارية التي كان المحتفلون يطلقونها. صادفت هذا الطفل في بغداد في 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019 عندما خرج العراقيون إلى الشوارع للاحتفال بفوز المنتخب العراقي على المنتخب الإيراني في مباراة ضمن تصفيات بطولة كأس آسيا لكرة القدم. حينها كانت الاحتجاجات ضد فساد الحكومة وعمالتها في أوجها، وقد امتلأت ساحات العراق بالمعتصمين وهم يحملون شعار "نريد وطن"، وتحولت تلك التظاهرات خلال أيام البطولة إلى تشجيعٍ شعبيٍّ للمنتخب، وكأنه واجب وطني.

مقالات ذات صلة

كرة القدم بالنسبة للعراقيين هي اللعبة الشعبية التي تشترك بممارستها كل الطبقات الاجتماعية. هي الرياضة التي يلعبها الأطفال في المدارس وفي الشوارع وبين البيوت، في "درابين" (1)  المدن القديمة، كما في النوادي والجامعات. أي قطعة أرض خالية أو مفتوحة المساحة، في أيّ مكان، تتحول إلى ملعب كرة قدم. وإن صَعُبَ على اللاعبين إيجاد الكرة، فإنهم يصنعونها من قطع أقمشة قديمة يلفونها فوق بعضها البعض، أو يصنعون كرة من مجموعة جوارب ملفوفة. ربما لا تكون هذه حالة عراقية خاصة، فهي موجودة في معظم دول المنطقة والعالم، خاصة فيما يُصطلح عليه بـ "الدول النامية". لكنّ خصوصية العراق تكمن في أنّ كرة القدم هي حالة وطنية، بل هي فعل مقاومة شعبية، ارتبطت بشكل كبير بالتغيرات السياسية التي مَرَّ ويَمرُ بها البلد، وهي انعكاسٌ لأزمات البلاد وانفراجاتها وما بينهما من تغيرات اجتماعية.

كلنا أسرى

كانت اللجنة الأولمبية في الثمانينات والتسعينات من القرن الفائت تحت سيطرة عدي صدام حسين الابن الأكبر لرئيس الجمهورية حينذاك. منها حصل على - أو أطلق على نفسه - لقب "الأستاذ". "الأستاذ" عدي كان يتحكم بلاعبي المنتخب العراقي لكرة القدم بطريقة دكتاتورية مبتكرة، فقام بتأسيس ما سُمي وقتها "بالمعسكرات التأديبية"، وهي تعني معاقبته للاعبين إنْ خسروا في أيّ مباراة إقليمية أو دولية. لم تكن تلك المعسكرات التأديبية سراً، بل حرص "الأستاذ" على أن يعرف عنها الناس في حينها، وكثيراً ما تباهى بها في لقاءاته التلفزيونية، فهي عبرة لمن يعتبر. كان هذا "التأديب" يطال، في بعض الأحيان أيضاً، فنانين ورياضيين وكل من يقوم بتصرف لا يعجب "الأستاذ". إن كان متساهلاً سيكتفي بالحلاقة الكاملة لرأس المُعاقَب، والتي تشبه حلاقة السجناء، مع حلاقة حاجبٍ واحدٍ وجانبٍ واحدٍ من الشوارب. "نص حواجب، نص شوارب"، كانت العبارة التي أطلقها الناس على هذا العقاب. الأمر كان معتاداً للدرجة التي أصبح فيها اللاعبون يحلقون رؤوسهم بأنفسهم بعد كلّ خسارة. أما إذا كان "الأستاذ" في مزاج سيء فإن العقاب سيكون أسوأ بكثير، وقد يصل إلى السجن أو الضرب المبرح.

أي قطعة أرض خالية أو مفتوحة المساحة، في أيّ مكان، تتحول إلى ملعب كرة قدم. وإن صَعُبَ على اللاعبين إيجاد الكرة، فإنهم يصنعونها من قطع أقمشة قديمة يلفونها فوق بعضها البعض، أو يصنعون كرة من مجموعة جوارب ملفوفة. ربما لا تكون هذه حالة عراقية خاصة، فهي موجودة في معظم دول المنطقة والعالم، خاصة فيما يُصطلح عليه بـ "الدول النامية".

لم يتغير تعلّق العراقيين بكرة القدم بعد 2003 على الرغم من كل الخراب الذي أصاب البلاد، وعلى الرغم من محاولات بعض الفصائل والجماعات الدينية - التي زاد نشاطها بعد الاحتلال الأمريكي للعراق - تحريم لعب كرة القدم باعتبارها "تُلْهي عن الدين".

 كان الشعب متعاطفاً مع اللاعبين ويُصلّي لفوزهم ويشجعهم في كل مباراة، ليس فقط حباً بكرة القدم - التي يعشقها العراقيون - والتي كانت اتصالهم الوحيد مع العالم بعد أن أُغلقت حدود العراق أثناء حرب الثماني سنوات (2)، ومن بعدها الحصار الاقتصادي (3)- لكن أيضاً لأنهم يعرفون ما قد يفعله "الأستاذ". فلم يكن ما يحدث للاعبي منتخب كرة القدم بعد كل مباراة سوى انعكاس لما يحدث للشعب بأكمله. كان الشعب كله أسيراً تحت رحمة سجّانيه. 

أملٌ من وسط الركام 

لم يتغير تعلّق العراقيين بكرة القدم بعد 2003 على الرغم من كل الخراب الذي أصاب البلاد، وعلى الرغم من محاولات بعض الفصائل والجماعات الدينية - التي زاد نشاطها بعد الاحتلال الأمريكي للعراق - تحريم لعب كرة القدم باعتبارها "تُلْهي عن الدين". وهي فكرة قد تبناها في الأساس السيد محمد باقر الصدر في التسعينات الفائتة على اعتبار أن فيها مضرّة اقتصادية للناس - بشرائهم للتذاكر- من جهة، وإثراء للدولة والجهات المنظِّمة للبطولات من جهة أخرى (4).

 لكن هذه الفتوى وأخريات غيرها صدرت عن فصائل دينية مختلفة وجدت في الفوضى التي سببها الاحتلال فرصة للتنفيذ، فأُغلِقت عدة ملاعب في العراق. وما زالت الفتوى تعود بين الحين والآخر وتظهر بطرق مختلفة (5)، على الرغم من عدم التزام الناس بها واستمرار تعلقهم الشديد بهذه الرياضة. ومن دون أدنى مبالغة، سحبت رياضة كرة القدم العراقيين من وسط ركام حرب الفصائل الدينية المتقاتلة، أو ما سمي بالحرب الطائفية. حينها أصبح القتل على الهوية حدثاً يومياً في العراق، فامتلأت الشوارع بالجثث وهُجِّر الناس من بيوتهم قسراً لتعيش في مناطق تحميها حسب الطوائف الدينية التي تنتمي لها. استمرت الحرب الطائفية ما بين عامي 2006 و2008. ويجمعُ العراقيون على أنّ أحد أسباب انتهائها كان فوز المنتخب العراقي لكرة القدم، للمرة الأولى، بكأس بطولة أمم آسيا في صيف عام 2007. فقد وحّد الفوز العراقيين من جديد، وجمعهم في تشجيع منتخبهم الوطني، والذي كان يتكون من لاعبين من كافة الطوائف والإثنيات العراقية المتنوعة. أصبحت الأغاني التي أطلقت لتشجيع المنتخب آنذاك رمزاً للوحدة الوطنية ونبذ الطائفية (6). أطلق العراقيون على المنتخب الفائز لقب "المنتخب الذهبي"، واحتفلوا - وما زالوا يحتفلون - بلاعبيه ومدربه البرازيلي جورفان فييرا. كان تشجيع المنتخب فعلَ مقاومة شعبية ضد الاقتتال الطائفي، وكان الفوز بمثابة هدية لشعبٍ أهلكته الويلات وأتعبته حرب الهوية.

خليجي 25

مرَّ عامٌ على زيارتي الأولى لمدينة البصرة. كانت بالنسبة لي، وأنا ابنة العراق، حلماً منذ الطفولة، حالت بيني وبينه الحروب ومن بعدها الاغتراب والهجرة. منذ دخولي المدينة شعرتُ بأنها مكان غير اعتيادي. فعلى الرغم من كونها مدينة متعبة، مرت عليها كل ويلات العراق مضاعَفة بسبب موقعها الجغرافي، إلا أنّ فيها روحاً خاصة يمكن رؤيتها حتى في البيوت القديمة والقوارب المنسية الصدئة على حافات شط العرب. البصرة الشهيرة ببساتين النخيل، لم تُبقِ الحروب من نخيلها الكثير. لكن النخلة حاضرة، منقوشة على أبواب بيوتها وجدرانها. شوارعها تعبق برائحة الشمس ومياه شط العرب الذي تنام على حافاته قصور قديمة، محاطة بحدائق هجرها أصحابها متحسرين. لم نستقل، أنا ورفاق رحلتي، سيارة أجرة أو قارباً في البصرة، إلا وأبدى صاحبه رغبته في استضافتنا معتبراً أنّ مبيتنا في فندق هو أمر يثقل تقبله: "شلون تنزلون بفندق وأهلكم موجودين". كان هذا ما يردده كل من نلتقيه في المدينة وإن لم يكن بيننا سابق معرفة، لذلك لم أستغرب أبداً ما يحدث منذ انطلاق فعاليات بطولة "خليجي 25" في كانون الثاني/يناير 2023 في مدينة البصرة، وكمّ المشاعر والترحيب بالضيوف القادمين من الخليج العربي لحضور المباريات فيها. قد يبدو هذا الأمر للبعض مبالغ فيه، لكنه ليس كذلك أبداً. العراقيون منذ انطلاق البطولة يفتحون بيوتهم للضيوف ليبيتوا فيها. في كثير من الأحيان لا يقبل صاحب المطعم أخذ المال مقابل الطعام، ويوزع بائعو الشاي والقهوة الجوّالون مشاريبهم مجاناً. الكثير من الزوار العرب يستغربون من تبرع البصريين بتذاكر دخول المباريات لهم، وأحياناً من منحهم مقاعدهم بعد دخولهم الملعب. هذه طبيعة عراقية عامة، وبالذات صفة بصراوية خاصة.

وعلى الرغم من كل ما مرَّ به العراق منذ عقود طويلة، إلا أنّنا ما زلنا شعباً مشاعره قريبة، نرتديها في أكمامنا. تُثيرنا قصيدةٌ حدَّ الصراخ ولحنٌ حدَّ البكاء، ولا نحتاج الكثير لنضحك. في اللهجة العراقية نقول "ما نْضّم (نخبئ) ضحكة للعيد" أي أنّنا نسرف في الضحك ولا نتركه للأعياد فقط. كما نسرف في البكاء، فنبكي حتى في عزّ أفراحنا. لذلك لا تستغربوا أبداً إن رأيتم العراقيين يمسحون دموعهم عند سماعهم النشيد العراقي الوطني، أو عند سماعهم شعراً يتغنى بالعراق، أو عندما يجتمعون معاً لتشجيع منتخبهم الوطني لكرة القدم، فقد مروا بالكثير وقاوموا الكثير من الخراب.

البصرة مكان غير اعتيادي. فعلى الرغم من كونها مدينة متعبة، مرت عليها كل ويلات العراق مضاعَفة بسبب موقعها الجغرافي، إلا أنّ فيها روحاً خاصة يمكن رؤيتها حتى في البيوت القديمة والقوارب المنسية الصدئة على حافات شط العرب. البصرة الشهيرة ببساتين النخيل، لم تُبقِ الحروب من نخيلها الكثير. لكن النخلة حاضرة، منقوشة على أبواب بيوتها وجدرانها.

مع انطلاق بطولة "خليجي 25" في كانون الثاني/يناير 2023 في البصرة، فاضت مشاعر الترحيب بالضيوف القادمين من الخليج العربي لحضور المباريات فيها. قد يبدو الأمر للبعض مبالغاً به، لكنه ليس كذلك أبداً. العراقيون منذ انطلاق البطولة يفتحون بيوتهم للضيوف ليبيتوا فيها. في كثير من الأحيان لا يقبل صاحب المطعم أخذ المال مقابل الطعام، ويوزع بائعو الشاي والقهوة الجوّالون مشاريبهم مجاناً

استقبالهم لضيوف بطولة الخليج لكرة القدم بكل هذا الترحيب وهذه الحفاوة هو فعلُ مقاومةٍ وطني آخر، وإعلانٌ بأن الوقت قد حان لإنهاء هذه العزلة التي طالما مورست ظُلماً ضد العراق بحجج مختلفة. صار واضحاً أنّ الرهان على شعب العراق المُحب للحياة والمُنفتح على العالم لا بدَّ أن يَكسب، فقد سجَّل التاريخ أكثر من مرة بأنّ الرهان ضد هذا الشعب وضد مصالحه وراحته، أدى وسيؤدي إلى خسارات عظيمة ولو بعد حين.  

______________________

1 - جمع دربونة وتعني في اللهجة العراقية الدارجة "حارة" أو زقاق ضيق.   
2 - إستمرت الحرب بين العراق و ايران من 1980-1988 انعزل فيها العراق عن العالم ومنعت الحكومة العراقية السفر تماماً خوفاً من هرب الشباب من الخدمة العسكرية الإلزامية، خاصة إن معظم العراقيين كانوا ضد الحرب.
3 - فرضت الأمم المتحدة الحصار الإقتصادي والجغرافي على العراق 1991- 2003 بعد إحتلال النظام العراقي السابق للكويت والذي أدى إلى حرب الخليج الأولى التي شنتها "قوات التحالف الدولية" ضد العراق.
4 -https://www.youtube.com/watch?v=bSDlibwJAlQ
5 -2016 https://www.youtube.com/watch?v=k9LEfVpbPs4
   -   2019 https://cnn.it/3X3GSlX
6 - https://www.youtube.com/watch?v=qGKYjikd1l8 

مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

نخلات غزة تشبه نخلات العراق

ديمة ياسين 2024-02-09

يمسك الميكرفون رجل ستيني يتحدث بإنجليزية مثقلة بلكنة عربية واضحة، تشبه ثقل عناقيد التمر في نخل بلادنا، بطيئة، بل متمهلة، مثل ثمار الزيتون وهي تكبر وتعمّر في أرض فلسطين "لا...

جيل الفراق

ديمة ياسين 2023-09-14

أنا من جيل احتفل بنهاية الحرب صيف عام 1988، في شوارع ضجت بالناس والأغاني والرقص لثلاثة أيام كاملة، بعد إعلان وقف إطلاق النار. مارسنا احتفالاً آشورياً قديماً برش الماء على...