شمَّاعة داعش هي واحدة من "الشمَّاعات" الأكثر استخداماً من قبل الأحزاب المستحوِذة على السلطة في العراق. إنها في قائمة الـ Top Five بالنسبة لوسائل ترهيب الرأي العام، الذي يعاني بالأساس من صدمة الحرب الطائفية والحصار وحزب البعث، ومن قبلها "تروما" تأسيس الدولة العراقية الحديثة في عشرينيات القرن العشرين، عندما كان العراق فكرةً في أوراق وزارة المستعمرات البريطانية، وخيالاً في رأس السير بيرسي كوكس، ومس بيل، وعوائل الطبقة الغنية في بغداد.
ومن المفارقات المثيرة في النقاش عن العراق الحالي، أن الأحاديث في السياسة والاقتصاد والاجتماع والأمن لم تتطور منذ مئة سنة، إذ ما يزال العراق "مهدداً" بهويته، ووجوده، ووحدة شعبه، وأراضيه. وهذا التهديد تلوّح به المكونات الرئيسية (1): العرب الشيعة والسنة، والأكراد، التي لم تتفق حتى الآن على السمات الأساسية للوطن أو الشعب: حقوق المواطنة المتساوية، وحدة الأرض وحرية الحركة، وهيكل اقتصادي موحد، وذاكرة جماعية وثقافية مشتركة تضمن درجة عالية من التواصل الاجتماعي ضمن الجماعة أو المجتمع.
لكن ما تغيَّر عبر المئة سنة الفائتة هي الموارد، وبشكل أساسي النفط، وتوافق هذه المكونات (توافقاً طائفياً وقومياً) على تقاسمها، بصرف النظر عن الاتفاق على تحقيق التعايش السلمي، وفقاً لمفهوم الوطن الواحد، والشعب الواحد. وهذا ينطبق حتى على المحاولات التي أدّت إلى سقوط الملَكية وقيام الجمهورية كفكرة "أسمى" لبناء شعب أو دولة، والتي كانت قاصرةً الى حد وصل معه العراق الى هذا الوضع الريعي والفاسد والمتأخر في كل شيء، ما هيئه ليقع بسهولة في براثن الهجمة الاستعمارية المدمرة...
... التوافق المشوّه يغري أقطابه - الممثلين لهذه المكونات - بالتمادي للحصول على "غنيمة الموارد" القائمة على اقتصاد ريعي عموده النفط، وهيكله متعفن بالفساد. ولا أفضل من هذه البيئة لازدهار العنف، والتطرف، والخوف من الآخر المنافس، لا باعتباره جزءاً من الهوية الأكبر، بل باعتباره خصماً. والخصومة هنا تتفشى في كل النسيج، الذي بدلاً عن تواؤمه من خلال التقاربات الاعتبارية والواقعية، تكون سبباً في التنافر والتشظي، ومن ثمَّ اللجوء إلى العنف كوسيلة لفرض الوجود، والدفاع، وتحقيق المكاسب.
الولاء العابر لمفهوم الوطن
ما يحدث في العراق الحالي هو صراع هرمي بيروقراطي فاسد على تحقيق المكاسب، يبدأ من عامل الحانوت وينتهي برئيس الجمهورية، في تصنيف ولائي معقّد: شخصي وحزبي وقبلي وديني وطائفي. ويتجاوز هذا الولاء الحدود (الشكلية) لمفهوم الوطن والشعب، إلى مثيلاتها في جزئيات الولاء المماثلة خارجياً.
في آذار/مارس 2022، قصفت إيران منزل رجل الأعمال الكردي "باز كريم برزنجي" بصواريخ باليستية. وبرزنجي هو مدير شركة "كار" الكردية، ومنزله المقصوف يقع في مصيّف صلاح الدين في مدينة أربيل. إيران قالت إن القصف كان "حازماً" وأنه استهدف "مقراً للكيان الصهيوني" الذي "أصبح ذليلاً بينما كان يرفع شعار من النيل الى الفرات في يوم من الأيام"، كما صرح العمید اسماعیل قاآني، قائد "فيلق القدس" في الحرس الثوري.
قال وزير النفط السابق إحسان عبد الجبار أن السبب وراء امتناع العراق التعاقد مع "شركة الأقصى التركية"، هو رفض إقليم كردستان عبور الكهرباء التركية إلى بغداد من خلال أراضيه، وأن أربيل فرضت على بغداد ابرام العقد مع شركة "كار" الكردية، وبالمعادلة السعرية نفسها المعتمدة في عقود الكهرباء مع إيران، ما جعل الشركة منافساً قوياً لسوق الكهرباء الإيراني في العراق.
هلّلت لهذا القصف المجاميع العراقية الموالية لإيران، واعتبرته عملاً بطولياً من أعمال المقاومة ضد أمريكا والكيان الصهيوني، ودافعت عنه بشراسة، وأيدت تكراره، مثلما فعل رجل الدين الموالي لإيران "جبار المعموري" الذي أيد حق الجمهورية الإسلامية الإيرانية في قصف مقار الكيان الصهيوني في أربيل. وكذلك فعل "محمود الربيعي"، عضو المكتب السياسي لميليشيا "عصائب أهل الحق"، الذي قال إن العراق هو من اعتدى على إيران انطلاقاً من أربيل، وإيران ردت دفاعاً عن النفس.
الاقتصاد وسلاح الأمن
في جلسة استضافة لوزير النفط السابق إحسان عبد الجبار في البرلمان العراقي، أجاب عن سؤال يتعلق بعقود الكهرباء مع "شركة الأقصى" التركية، وأن السبب وراء امتناع العراق التعاقد معها هو رفض إقليم كردستان أن تعبر الكهرباء التركية إلى بغداد من خلال أراضيه. وفرضت أربيل على بغداد ابرام العقد مع شركة "كار" التي يديرها رجل الأعمال الكردي "باز كريم برزنجي"، وبالمعادلة السعرية نفسها المعتمدة في عقود الكهرباء مع إيران. وهذا يفسر قصف بيت "برزنجي" الذي أصبحت شركته منافساً قوياً لسوق الكهرباء الإيراني في العراق.
بالطبع ليس هذا هو السبب الوحيد الذي يجعل إيران تقصف شمال العراق (كردستان)، فهي تمارس عمليات عسكرية شبه منتظمة على الحدود، وتقصف بين الحين والآخر مواقع في مناطق الحكم الذاتي الكردية. ودوافع هذا العنف سياسيةً واقتصاديةً وأمنيةً، وكذلك قومية تتعلق بارتباط الهوية والدم بين أكراد إيران والعراق، ووجود جماعات كردية إيرانية مسلحة لديها ملاذات في جبال "غارا" الحدودية مع إيران، مثل "الحزب الديمقراطي الكردي" الإيراني.
لكي تحافظ إيران على وجودها العسكري في ديالى وصلاح الدين والأنبار ونينوى.. المختلفة عنها مذهبياً، فهي بحاجة إلى ذريعة. وحتى تكون الذريعة مبرَّرة فلا بد من وجود تهديد، وإن لم يكن هنالك تهديد فيُصنع واحداً من خليط من النصوص الدينية والفقر والفوضى. وهذا ما أحسنتْ إيران فعله منذ حرب الولايات المتحدة على العراق واحتلاله عام 2003.
ما هو أهم بالنسبة لإيران (وأتباعها في العراق) في الوقت الحالي، هو اللعب بسلاح الأمن من أجل أهداف إستراتيجية اقتصادية، ضرورية لبقاء الجمهورية الإسلامية قوية في المنطقة. ومن أهم أهدافها في المنطقة، الوصول البري إلى موانئ البحر الأبيض المتوسط، وهذا لن يتحقق إلا بالسيطرة على مناطق في العراق وسوريا ولبنان، لتأمين الطريق.
الطريق إلى البحر الأبيض المتوسط
تريد إيران الوصول إلى البحر المتوسط من طريقين: الأول عبر ديالى مروراً بمحافظة "صلاح الدين" ثم "تلعفر" عبوراً إلى سوريا ثم لبنان، والطريق الثاني من مدينة "القائم" العراقية فسوريا (ميناء طرطوس) وكذلك لبنان. ومن أجل هذا فهي حريصة على بقاء الميليشيات الموالية لها في تلك المناطق العراقية لتأمين أهدافها الاقتصادية التي بدأت بتنفيذها بالفعل، عندما أعلنت في مطلع 2022 البدء بتنفيذ مشروع الربط السككي بين إيران والعراق وسوريا، وأُوكلت مهمة تنفيذه لشركة "مقر خاتم الأنبياء"، الذراع الاقتصادية لحرس الثورة الإيرانية.
ولكي تحافظ إيران على وجودها العسكري في تلك المناطق (ديالى، صلاح الدين، الأنبار، نينوى) فهي بحاجة إلى ذريعة. وحتى تكون الذريعة مبرَّرة في تلك المناطق المختلفة (مذهبياً) فلا بد من وجود تهديد، وإن لم يكن هنالك تهديد فهيّا نصنع واحداً من النصوص الدينية والفقر والفوضى الكفيلة بخلق هذا العدو. وهذا ما أحسنتْ إيران فعله منذ فوضى حرب الولايات المتحدة على العراق واحتلاله عام 2003.
الوصول البري إلى موانئ البحر الأبيض المتوسط هو من أهم أهداف إيران في المنطقة، وهذا لن يتحقق إلا بالسيطرة على مناطق في العراق وسوريا ولبنان، لتأمين الطريق. وقد أعلنت طهران في مطلع 2022 البدء بتنفيذ مشروع الربط السككي بين إيران والعراق وسوريا، وأُوكلت مهمة تنفيذه لشركة "مقر خاتم الأنبياء"، الذراع الاقتصادية لحرس الثورة الإيرانية.
التدخل الإيراني العنيف في العراق، وما سبقه من احتلال أمريكي - وقبله تفكيك بنية الدولة العراقية على يد حزب البعث ونظام صدام حسين - شظّى النسيج الاجتماعي العراقي، وسيّد نسيجاً طائفياً يقوم على الرمزية الدينية المستحوِذة على الدين الشعبي لطائفة ما، والرمزية الدينية المعاكسة لطائفة أخرى، مثلما يحصل مع رواية قتل الحسين عند الشيعة والسنة. وهذه الرمزية واحدة من مسببات العنف الاجتماعي، وكذلك هي من أهم روافد انغلاق الجماعة (الطائفة) على نفسها، وبالتالي تعظيم الخطر الخارجي على تلك الطائفة، والتي ما إن يزول أو يخف، تبدأ صراعاً آخر على من يمثّلها. وهذا يعني صراعاً على السلطة، والموارد.
الصراع والتفكك
في آب/ أغسطس 2022 كان اتباع رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر يسيطرون على المنطقة الخضراء، بعد اقتحام المنطقة المحصنة، وكان الموالون للصدر يقيمون المواكب الحسينية في داخل البرلمان العراقي، ويلهون ويأكلون وينامون في قاعة البرلمان، ومجاميع أخرى منهم تهتف باسم الصدر ووالده الصدر الأكبر في مقر رئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء.
بينما يضع اتباع "الإطار التنسيقي" - على الجهة الشيعية الأخرى – أصابعهم على الزناد، ويهددون باستعداد مقاتلي ميليشيا "الحشد الشعبي" لأي معركة قد تحدث. وبالفعل حدثت المعركة داخل المنطقة الخضراء، وقُتل في المواجهات المسلحة بين أنصار مقتدى الصدر ومجاميع الميليشيات الموالية لإيران 23 شخصاً، وأصيب أكثر من 300.
ما تغيَّر عبر المئة سنة الفائتة هي الموارد، وبشكل أساسي النفط، وتوافُق هذه المكونات (توافقاً طائفياً وقومياً) على تقاسمها، بصرف النظر عن الاتفاق على تحقيق التعايش السلمي، وفقاً لمفهوم الوطن الواحد، والشعب الواحد.
التوافق المشوّه بين "المكونات" يغري أقطابه بالتمادي للحصول على "غنيمة الموارد" القائمة على اقتصاد ريعي عموده النفط، وهيكله متعفن بالفساد. ولا يوجد أفضل من هذه البيئة لازدهار العنف، والتطرف، والخوف من الآخر المنافس، لا باعتباره جزءاً من الهوية الأكبر، بل باعتباره خصماً.
انسحب على إثر ذلك مقتدى الصدر (وهو الفائز بالانتخابات) من العملية السياسية برمتها، وقرر "اعتزال السياسة إلى الأبد"، وأمر أعضاء البرلمان التابعين له بتقديم استقالتهم، وخسر رمزاً من مرجعيته الدينية بعد اعتزال كاظم الحائري لـ "العمل المرجعي". والحائري هو المرجع الذي يقلّده الصدر وأتباعه بناءً على ما أوصى به والده، "محمد محمد صادق الصدر".
انسحب مقتدى من السياسة لكنه لم ينسحب من تقاسم الموارد، فما يزال أتباعه يسيطرون على وزارات مثل الصحة، ومؤسسات حكومية ودينية، وله محافظين يمثلونه في المناطق الجنوبية، وينتظرون أن يغيِّر زعيمهم رأيه ويعود إلى السياسة كما كان يفعل في كل مرة.
العراق بلا حلول وتحت رحمة حرب ممتدة
30-08-2022
بينما شكّل "الإطار التنسيقي" بالتحالف مع "الخصوم" السنة والأكراد (الذين لديهم صراعاتهم الداخلية كذلك) حكومة هي وبشكل دقيق اتفاق بين أحزاب وميليشيات على تقاسم مناصب الدولة وفق الحصص الطائفية والعِرقية. وإلا فماذا يعني أن ميليشيا مسلحة تستحوذ على وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في العراق.
وزير التعليم العالي هو النائب عن كتلة "صادقون" في البرلمان العراقي. وهذه الكتلة البرلمانية ممثلة لميليشيا "عصائب أهل الحق" التي يتزعمها رجل الدين قيس الخزعلي الموالي لإيران، والمدعوم بشكل مباشر من الحرس الثوري الإيراني، وهي مع ميليشيا "كتائب حزب الله" العراقية تسيطران على منطقة "جرف الصخر" التي تحولت إلى معسكرات وسجون سرية، بعد تهجير أهلها منها، ومنعهم حتى كتابة هذه السطور من العودة إلى منازلهم (مضت 8 سنوات على التهجير).
انسحب مقتدى الصدر من السياسة لكنه لم ينسحب من تقاسم الموارد، فما يزال أتباعه يسيطرون على وزارات مثل الصحة، ومؤسسات حكومية ودينية، وله محافظين يمثلونه في المناطق الجنوبية، وينتظرون أن يغيِّر زعيمهم رأيه ويعود إلى السياسة كما كان يفعل في كل مرة.
الوزير نعيم العبودي حاصل على شهادتي الماجستير في حقوق الإنسان، والدكتوراه في اللغة العربية من الجامعة الإسلامية في بيروت التي تزوّر "شهادات عليا" وتمنحها لمسؤولين في الدولة العراقية، وقد علَّقت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في العراق الدراسة في هذه الجامعة بعد انكشاف الأمر.
دولة اللصوص
04-12-2022
مِثلُ هذا الوزير كثيرون في المناصب العليا للدولة العراقية، من السُّنة والشيعة، واللغة السائدة الآن في تشكيل الوزارات هي "نصيب المكوِّن"، بمعنى وجوب أن يحصل السنُّة على تمثيلهم الحقيقي في المناصب الحكومية والمؤسسات، ومثلهم الكورد، ومثلهم كذلك الشيعة. والانتماء الطائفي ومن ثُمَّ الولاء الحزبي هو من يحدد الحصص والنسب في المناصب والوظائف، وليس الكفاءة.
1- هناك ما لا يقل عن 18 طائفة دينية أو اثنية في العراق، وإن كانت التقديرات تشير الى أنها جميعها لا تتجاوز 5 في المئة من مجموع السكان، وهناك تقاطعات بين الديني والاثني، فأن تكون سنياً أو شيعياً مثلاً لا ينفي انك قد تكون أيضاً تركمانياً أو كردياً فيلياً...