اليوم الأول لوصولي إلى محبسي في سجن وادي النطرون، بعد رحلة التيه في أقسام الشرطة ومعسكرات الاعتقال على خلفية اتهامي بالدفاع عن مصرية جزيرتي تيران وصنافير، كانت مصر كلها تتحدث عن تلك الإصابة الجسيمة التي حدثت لمحمد صلاح في نهائي دوري أبطال أوروبا عام 2018.
انخلعت قلوب المصريين على لاعبهم الموهوب وتحوّل "سيرجيو راموس" الذي أحدث الإصابة بصلاح إلى عدو المصريين الأول.
على طول الطريق الطويل إلى السجن، كان الجنود والأمناء المكلفون بحراستنا لا حديث لهم إلا عن تلك الإصابة وما يمكن أن يترتب عليها من توقف صلاح عن اللعب لفترة تطول أو تقصر. وبدا أن حديث الأمناء والجنود هو انعكاس حقيقي لكل الأحاديث التي دارت في مصر في تلك الأيام والتي لم أكن أعلم عنها إلا أقل القليل لندرة المعلومات التي كانت تأتينا من الخارج بطبيعة الحال.
كنت بدوري أحب صلاح وفخوراً للغاية بما يحققه من مجد كروي باللعب في فريق "ليفربول" الإنجليزي. وكنت مدركاً أن وطناً بحجم مصر يمضي قدماً صيرورة أيامه المليئة بالمتناقضات، وأنه من غير المعقول أو المعتاد أن يعبأ ذلك الوطن العريض بتلك الأحزان الصغيرة التي يطؤها كل يوم.
ربما كانت أقسى أوقاتنا جميعاً تلك التي يعود فيها أحدنا من الزيارة إلى الزنزانة من جديد. كنا نراه وهو يذهب متهللاً وسعيداً ومجتهداً أن يبدو في أفضل صورة ممكنة، ثم وهو يعود وقد حمل هموم العالم على كتفيه.
كنت أعلم أن هذه هي طبائع الأشياء، وأن الأيام سوف تمضي في طريقها لا محالة وأن ألمي الخاص وحزني العاصر سوف يقتصر على الدائرة الصغيرة للغاية من الأهل والأحباء.. أما في تلك الدائرة الكبيرة للغاية فيظل الوطن أكبر وأكثر تعقيداً وتناقضاً وأكثر بُعداً عن كل ما يخصنا كأفراد طالتهم يد البطش، مهما كثرت نقاط التماس بين أحزاننا الخاصة وأحزان وهموم الوطن الجامعة.
تجارب السجن بين المقروء والمُعاش
لا أدري لماذا فتنتني منذ وقت مبكر من حياتي قراءة تلك الكتب والروايات التي تتحدث عن السجون! كل مرة كنت أصل في قراءتي إلى ذلك الجزء المشترك بينها جميعاً، تلك اللحظة التي يتم فيها إغلاق الأبواب على السجين الذي انتُزع من عالمه وحريته وتُرك بين تلك الجدران الصماء يكابد محنة مرور الوقت الذي تتغير قوانينه تماماً في السجن. في كل مرة كنت أضع نفسي مكان ذلك السجين وأتصور ما يمكن أن أفعله حينها. وفي كل مرة كنت أغلق الكتاب وأتنفس الصعداء لأنني ما زلت هنا، أتمتع بحريتي ونشاطي وخصوصيتي. ثم أرثو لحال هؤلاء السجناء الذين ألقاهم الحظ العاثر إلى حيث يكابدون الوجع وحدهم. لكنني في كل مرة كنت ألمح أيضاً ذلك الجزء المشترك بينهم جميعاً. الجزء الذي يجعل من تلك المحنة على مرارتها وألمها ثمناً واجباً لكل ما ندّعي أننا نحمله من مبادئ وقيم، واختباراً لقوة معادننا التي لا بد أن تعركها النار ذات يوم كي نطل على ذواتنا بعيداً عن الادعاء أو طنطنات البطولة.
عندما كنت ألمح ذلك الجزء في قصص هؤلاء كنت أرى في كل مرة أنهم يدفعون الثمن وحدهم.. وطواعية. وحدهم لأنهم لا ينتظرون أبداً أن تتوقف حركة العالم من أجلهم مهما بدا واضحاً للعيان نبل غاياتهم، ومهما بدا أنهم قد دفعوا ثمناً فادحاً يجب أن "يستفز" أو يستنهض همم المجتمع المحيط.
قليلون فقط من سقطوا في ذلك الوهم الساذج وتحولوا إلى مادة للتندر والسخرية، مثلما حدث مع الصحافي "عبد الستار الطويلة" عندما تم اعتقاله في منتصف الستينات الفائتة مع عدد كبير من رموز اليسار المصري. ظل الرجل طوال فترة اعتقاله يؤكد بثقة شديدة أن "الزحف الجماهيري" سوف يحطم أسوار المعتقل ويحملهم فوق الأعناق إلى الحرية وإلى السلطة وإلى حيث (يجب) أن يكونوا! (1)
في الأسابيع التي سبقت سجني، كانت حركة الاعتقالات في مصر على أشدها وقد طالت الكثير من الأسماء التي كنت أعرفها، وكانت ساحات التواصل الاجتماعي تضج بموجات التعاطف مع المعتقلين، وكنت واحداً من هؤلاء المتعاطفين الذين يطالبون بالحرية لهؤلاء الذين دهستهم الأقدام الغليظة.
ولكنّ منشوراً واحداً من بين عشرات المنشورات التي كُتبت تعاطفاً مع المعتقلين استوقفني بشدة. كان صاحبه معتقلاً سابقاً، تجاوز بخبرته كل مراحل الصدمة والحزن والغضب، وبدأ يفكر في كيفية معاونة السجناء في محبسهم، وتلبية طلباتهم التي لا تتجاوز إيصال احتياجاتهم الملحة والحرجة إليهم: نظارات القراءة، أدوية السكر والضغط والحموضة ونقط الأنف، بدلة الحبس الاحتياطي البيضاء، الملابس الداخلية، فوط نظيفة، فراشي ومعجون للأسنان. هذه المطالب التي سوف تعين السجين على معاودة الحياة ضمن ظروفه الجديدة والتأقلم معها والدفع بأقصى قدرته على تحملها، وقد عرفت أهميتها القصوى فيما بعد. أما تلك الأسئلة الكبيرة عن أسباب سجنه، عن كيف ولماذا وإلى متى، فهذه سيتسع الوقت لها فيما بعد.
محطة التأقلم الأولى
في "إيراد" (2) السجن، كان علينا التحلي بالصبر لمدة عشرة أيام كاملة في تلك الحجرة المقْبِضة بغير أن يكون لنا الحق في التريض أو الزيارة أو شراء الطعام من "الكانتين". فقط الانتظار من أجل "التأقلم". تلك هي رسالة السجن في الأيام الأولى: عليك التخلي عن كل ما يمت إلى الحرية بصلة، عن خصوصيتك وعاداتك القديمة ونمط حياتك السابق وأشيائك التي تحيط بك حيثما وجدت. عن تلك الاستهلالات التي تصنعها في بداية كل يوم وأنت تستنشق بخار القهوة وتشم رائحة الخبز.
يدفعون الثمن وحدهم.. وطواعية. وحدهم لأنهم لا ينتظرون أبداً أن تتوقف حركة العالم من أجلهم مهما بدا واضحاً للعيان نبل غاياتهم، ومهما بدا أنهم قد دفعوا ثمناً فادحاً يجب أن "يستفز" أو يستنهض همم المجتمع المحيط.
في إيراد السجن لا يوجد أمامك إلّا الانتظار، ليس من أجل الخروج إلى الحرية، بل من أجل الخروج إلى غرف "التسكين"، وهي الزنازين التي يمكن أن يتوافر فيها الحد الأدنى الضروري للبقاء.
أتذكر أنني وضعت فراشي متكوماً في ركن من الحجرة وأخذت أجيل النظر في هؤلاء الذين جمعتني بهم الأقدار. كانت وجوههم تبدو شاحبة ومرهقة تحت الإضاءة الواهنة للغرفة الفقيرة فيما يدور الحديث بينهم همساً خافتاً.. ثم فهمت أنّ الغرفة تمتلك قوانينها الخاصة. فسرعان ما جاءني أحدهم وساعدني بسرعة على ترتيب فراشي في مكان محدد، في الوقت الذي وجدت أن بعضهم بدأ في إعداد الطعام "الميري" (3) في أحد الأركان التي تم تخصيصها كمطبخ للغرفة. ثم وجدت نفسي بعدها بقليل منهمكاً في الحديث مع مجموعة من السجناء حضروا معاً من سجن الزقازيق العمومي ودخلوا غرفة الإيراد قبل مجيئي بساعة واحدة. تعرفنا على قوانين الغرفة التي تمثل "ترانزيت" السجن وتواصينا بتقطيع الوقت في الحديث والمؤانسة ومحاولة استجماع شجاعتنا المبعثرة ريثما تنقضي تلك الأيام.. التي انقضت بالفعل، على الرغم من ترهلها وبطء سريانها وعلى الرغم من حالة الكآبة الجامعة التي خلقتها تلك المصابيح الواهنة المضاءة ليل نهار.
السجون المصرية تعمّق جراح الفقراء
29-08-2021
أتذكر الآن "فرحتنا" وهم ينادون على أسمائنا كي نصطف تمهيداً لتسكيننا في حجرات السجن بعيداً عن مقبرة الإيراد التي لا ترى الشمس. وفي ضوء النهار المبكر، كنت أنظر إلى وجوه هؤلاء الرفاق من جديد بعيداً عن الضوء المريض للحجرة المقْبضة لأرى ألوان بشرتهم الحقيقية وتفاصيل ملامحهم التي غابت عني في الداخل. حتى أصواتهم بدت جديدة وصادحة في ذلك الصباح.
قواعد الحياة في السجن
منذ اللحظة الأولى لدخول زنزانتي الدائمة التي سأمكث فيها عاماً كاملاً، الغرفة الثانية في الدور الثالث، تذكرت مقولة المناضل النبيل "محمد يسري سلامة" من أنّ "ما تفرّقه السياسة سوف تجمعه الزنازين". فبعد التعارف السريع على كل أفراد الغرفة وكان عددهم ساعتها 22 فرداً، وبدا أنهم يمثّلون كل تيارات الإسلام السياسي في مصر، ولا يوجد بينهم من هو "مختلف" عن هذا المجال، ارتفع صوت أحدهم من آخر الزنزانة وهو يقول: أخيراً يجتمع "الميدان" في الزنزانة. ابتسمتُ بدوري وكنت أعلم أننا سنخوض سجالات صعبة في الأيام والأشهر المقبلة.
كانت مصر ساعتها لا تزال في حالة احتقان وتشنج من تداعيات "30 يونيو" (4) وما تلاها التي أحدثت شرخاً عميقاً امتدّ على طول الوطن وقطع وشائج اجتماعية كانت متينة، وأحال صداقات عميقة ومتجذرة إلى بغضاء كاملة. تقاذف الجميع حينها كرات النار وهم يُحمِّلون بعضهم البعض نتيجة ما جرى من إراقة للدماء وضياع للثورة التي أظلّتنا كسحابة عابرة، فيما ينظرون إلى واقعهم الذي تحول بالتدريج إلى كابوس خانق: نخبتهم السياسية تحللت وتوارت، كما أحلامهم في وطن عزيز يحتكم إلى الديمقراطية والحرية، ولُحمة الميدان التي انبثقت منها إحدى أعظم الثورات الشعبية.
أبى كل فريق أن يعترف بجزء من المسؤولية عما جرى، بعيداً عن سطوة الاستبداد التي داهمت الجميع كظلٍ أسود. تمترسوا خلف قناعاتهم المستقرة دون أن يتزحزح أيّ منهم خطوة واحدة، في الوقت الذي كان مفيداً للغاية أن تجرى مراجعات منصفة يحمل معها كل منهم ما يخصه من تبعات كي يدرك بجلاء وبغير خداع للنفس ما الذي جرى ولماذا..
قصة السجين مع الصراصير
19-08-2016
"حاوِلْ مرة تبطّل هرشْ" - شهادة
24-03-2016
في السجن حالةٌ من الاستقرار لا يعرفها المحبوسون احتياطياً. فهنا يقضي الجميع فترة عقوبة معروفة ومحددة بعيداً عن متاهة تجديدات النيابة أو الأمل في الخروج قبل كل تجديد. في غرفتنا تباينت الأحكام بين سنة وخمس عشرة سنة، فكان علينا ترتيب أوضاعنا للمكوث الطويل بلا أي أمل في الإفراج الشرطي عند منتصف مدة العقوبة، والذي كان يستفيد منه المسجونون الجنائيون.
كانت هناك في الغرفة "لائحة" شديدة الإحكام تمّ وضعها بين الجميع بالتراضي، تشمل انتخاب مسؤول للغرفة لمدة ثلاثة أشهر قابلة للتجديد لمرة واحدة، يعاونه أربعة آخرون، وتكون مسؤوليته هي نقل طلبات السجناء إلى إدارة السجن ومحاولة تلبيتها قدر المستطاع، للحد من أي مشكلات يمكن أن تتفاقم. كما يجري أيضاً انتخاب مسؤول لفض المنازعات بين السجناء أنفسهم، والتي كانت تندلع بدون أسباب فعلية وتكون في الغالب حول تلك الأشياء الصغيرة التي ربما لا نلتفت إليها بأي حال خارج السجن.
في الأسابيع التي سبقت سجني، كانت حركة الاعتقالات في مصر على أشدها وقد طالت الكثير من الأسماء التي كنت أعرفها، وكانت ساحات التواصل الاجتماعي تضج بموجات التعاطف مع المعتقلين، وكنت واحداً من هؤلاء المتعاطفين الذين يطالبون بالحرية لهؤلاء الذين دهستهم الأقدام الغليظة.
أبى كل فريق أن يعترف بجزء من المسؤولية عما جرى، بعيداً عن سطوة الاستبداد التي داهمت الجميع كظلٍ أسود. تمترسوا خلف قناعاتهم المستقرة دون أن يتزحزح أيٌّ منهم خطوة واحدة، في الوقت الذي كان مفيداً للغاية أن تُجرَى مراجعات منصفة يحمل معها كل منهم ما يخصه من تبعات كي يدرك بجلاء وبغير خداع للنفس ما الذي جرى ولماذا..
كان أكثر ما يعنيني في الأيام الاولى هو تجنب كافة المناقشات التي يمكن أن تقود إلى خلافات حادة تجعل اﻹقامة مستحيلة مع فرقاء سياسيين أُغلقت بينهم منافذ الحوار. ولكنّ حدثاً ذي دلالة جرى في مساء اليوم الرابع لدخولي الزنزانة، وضع ميثاقاً محدداً لتلك العلاقة ظل مستمراً حتى نهاية فترة وجودي هنا. تعرض أحدنا لأزمة قلبية حادة أدت إلى فقدانه الوعي بلا حركة بعد أكثر من ساعتين على إغلاق أبواب الزنازين. لم تفلح محاولاتنا في إسعافه فبدأنا بالطرق على الأبواب بكل ما طالته أيدينا من أدوات صلبة ،وبدا أن القانون العام الذي يحكم السجن في تلك الحالة يقتضي بأن تقوم جميع الزنازين بالطرق على الأبواب بدورها كي يستطيع العسكري "النوبتجي" أن يسمع الصوت، حيث يكون مكانه بعيداً عن عنبر الزنازين.
تخطّي الحزن
أخبرني مسؤول الغرفة أن الأمر يقتضي عدة اتصالات معقدة من "النوبتجي" برؤسائه كي يتمكن في النهاية من فتح الأبواب، وأن الأمر يمكن أن يستغرق ساعة كاملة. أخبرني برفق أن أتحلى بالصبر فلا يصيبني الملل من الطرق على الباب لأن الأمر سيطول.
كان المشهد ساعتها غرائبياً وحزيناً إلى الحد الذي دفع بعضنا للبكاء. ففيما عكف البعض على محاولة إسعاف المريض، كنا نتناوب على الطرق الشديد على الباب والذي تجاوبت معه كل غرف السجن. بالفعل، وأخيراً، حضر العسكري بعد أن كلّت أيدينا وأصابنا اليأس، ونُقل المريض إلى مستشفى السجن حيث جرى إسعافه بإمكانيات المستشفى المتواضعة.
جعلتني تلك الحادثة أفكر من جديد في كون خلافاتنا السياسية ليست هي أسوأ ما يقابلنا هنا، وأن الدخول في سجالات غير نافعة هو محض عبث في الوقت الذي نواجه فيه واحدة من أسواً المحن التي يمكن أن يتعرض لها إنسان، وهي محنة السجن.
جرى تفادي الصدامات بالالتفاف حولها والانهماك بتدبير أمور الحياة اليومية التي استغرقتنا تماماً، فيما كنا نحاول طوال الوقت أن نصنع دفاعاتنا النفسية التي تقينا من السقوط في فخاخ الحزن المقيم، فتحايلنا على الوقت بكل سبيل وتشاركنا في دفعه كي يمر بأقل قدر من الأزمات الممكنة.
ربما كانت أقسى أوقاتنا جميعاً تلك التي يعود فيها أحدنا من الزيارة إلى الزنزانة من جديد. كنا نراه وهو يذهب متهللاً وسعيداً ومجتهداً لكي يبدو في أفضل صورة ممكنة، ثم كيف يعود وقد حمل هموم العالم على كتفيه.
كنا ندرك ما يحدث تماماً إذ كنا نمر بتلك التجربة القاسية في فترات متقاربة. نذهب، يدفعنا الحنين والشوق إلى رؤية الأحباب الذين تكبدوا عناء السفر الطويل والانتظار الأطول في ساحات السجن الموحشة والتفتيش المتتالي المهين والممل، ثم تأتي مدة الزيارة بعد ذلك أقصر من أن نملأ أعيننا بهم أو أن نعرف أحوالهم وكيف تمضي بهم الأيام "هناك".
في تلك الزيارات الخاطفة عرفنا لعنة الوقت وقوانينه الغريبة. ففي حين يأبى إلا أن يمر في الزنزانة متجمداً من فرط تراخيه وترهله، يَمْضِي الوقت ذاته أثناء الزيارة وكأنه أوهام أحلام خاطفة، وسرعان ما يطرق العساكر فوق الأبواب الحديدية بغضبٍ وتشفٍّ معلنين انتهاء وقت الزيارة. ذلك الصوت المقْبض الكئيب الذي ارتبط لدينا جميعاً بأصوات العواء والذي كان علينا بعده مباشرة أن نودِّع أحبابنا بسرعة ونعود إلى الزنزانة من جديد.
كنا نحمل أكياس الزيارة بما تحتويه من طعام وأغراض مختلفة، نعلم أن إعدادها استغرق أياماً عدة وأموالاً جمة. وفي الوقت الذي يكون من المفترض أن نفرح بتلك الزيارات العزيزة، إلا أن جزعنا لما يتكبده هؤلاء الأحباب من المشقة والغُرم كان يذهب بذلك الفرح. وبعد عدة زيارات طلبتُ منهم أن تتباعد مواعيد الزيارات كي أخفف عنهم بقدر المستطاع بعض ما يلاقونه من مشقة.
منشورٌ واحدٌ من بين تلك التي كُتبت تعاطفاً مع المعتقلين استوقفني بشدة. كان صاحبه معتقلاً سابقاً، تجاوز بخبرته كل مراحل الصدمة والحزن والغضب، وبدأ يفكر في كيفية معاونة السجناء، وتلبية طلباتهم التي لا تتجاوز إيصال احتياجاتهم الملحة والحرجة إليهم: نظارات القراءة، أدوية السكر والضغط والحموضة ونقط الأنف، بدلة الحبس الاحتياطي البيضاء، الملابس الداخلية، فوط نظيفة، فراشي ومعجون للأسنان...
في تلك العتمة التي أحاطتنا من كل ناحية بدا أنّ ثمة أبواباً يمكن أن ينفذ منها الضوء، وكان أوسع تلك الأبواب بالنسبة لي هو إمكانية الكتابة. كان الورق متوفراً ويباع في "كانتين" السجن، علاوة على الأقلام. بدأت في التدوين بعد دخولي الزنزانة ببضعة أيام. كان أكثر ما يهمني ألّا أتوقف عن الكتابة مهما حدث، لسببين: الأول إني أصبحت مديناً للغاية لكل تلك الأوقات التي كنت أستغرقها في الكتابة، حيث كانت تمنحني إحساساً بالحرية والانطلاق والقدرة على التحليق وتجاوز كل تلك القضبان المحدقة من كل ناحية. والسبب الثاني أنني كنت موقناً بأهمية شهادتي على تلك الأيام العصيبة مهما بدت تلك الشهادة متواضعة وبسيطة. ربما يعود ذلك بشكل كبير لشغفي بالتاريخ وأهمية الشهادات التي يكتبها الناس في أوقات المحن والنكبات، وربما ذات يوم تصير تلك الشهادات وما يشبهها واحدة من المراجع التي تعيننا على كتابة وفهم ما جرى في تلك الأيام العسيرة.
ثم نفذ ضوء جديد من قلب العتمة عندما اكتشفتُ أنه يوجد ما يشبه المكتبة في بعض الحجرات قام السجناء بجمعها بشكل سري ثم قاموا بأرشفتها وعمل سجل استعارة لها. ومن بين ركام كتب التنمية البشرية التي لا أدري لماذا كانت هي أكثر الكتب عدداً، وجدت بعض روايات رضوى عاشور وخالد حسيني وأيمن العتوم الذي اكتشفت أنه يحظى بجماهيرية كبيرة بين نزلاء السجن رغم تواضع رواياته.
كان المشهد ساعتها غرائبياً وحزيناً إلى الحد الذي دفع بعضنا للبكاء. ففيما عكف البعض على محاولة إسعاف المريض، كنا نتناوب في الطرق الشديد على الباب والذي تجاوبت معه كل غرف السجن. بالفعل، وأخيراً، حضر العسكري بعد أن كلّت أيدينا وأصابنا اليأس، ونُقل المريض إلى مستشفى السجن حيث جرى إسعافه بإمكانيات المستشفى المتواضعة..
طلبتُ من أحبابي في كل زيارة إحضار الكتب، وجاؤوا بها في كل مرة، وفي كل مرة كانت تعود معهم لأن إدارة السجن رفضت مرورها. وعندما قمت بمكاتبة مأمور السجن عن طريق مسؤول الغرفة للاحتجاج على منع الكتب بدون مبرر قانوني أو أمني جاءني رده مقتضباً ومبهماً بأنهم يمنعون دخول الكتب لمنع "المشاكل"، وعندما استفسرت مرة أخرى عن طبيعة تلك المشاكل التي يمكن أن تسببها كتب الأدب أو دواوين الشعر أو السير الذاتية لم يأتني الرد.
ياسين يملأ السجن زهوراً
07-07-2022
ولكن في واحدة من أيام السجن السعيدة، استطاعت سارة وعمر، فيما يشبه المعجزة أن يحضرا لي المجموعة الكاملة لـ "دوستويفسكي" بعد أن أقنعت سارة الحارسَ بأنني أقوم بعمل دراسة أكاديمية في الأدب الروسي. تلك الهدية الثمينة صنعت لي خمائل من الورود، حيثما قُرئَت، كما أنها طافت على كل حجرات السجن بعد ذلك لتضيء عتمتها الشاملة.
1 - من كتاب "الطريق إلى زمش" للكاتب المصري الساخر محمود السعدني. صدرت طبعته الاولى في العام 1993 عن دار "أخبار اليوم". و"زمش" هي اختصار لجملة "زي ما أنت شايف".
2 - من "لغة" السجن ومفرداتها: "الايراد" هو غرفة الاحتجاز الأولى في السجن، وال"كانتين" هي دكان السجن.
3 - الطعام الميري هو ما تقوم ادارة السجن بتقديمه للمسجونين.
4 - جرت مظاهرات "30 يونيو 2013" في مصر في محافظات عدة، نظمتها أحزاب وحركات معارضة للرئيس محمد مرسي. توقيت المظاهرات كان محدداً مسبقاً وقبل أسابيع. طالب المتظاهرون برحيل الرئيس محمد مرسي، الذي أمضى عاماً واحداً في الحكم. بعدها، في يوم 3 تموز/ يوليو، أعلن وزير الدفاع وقتها الفريق أول عبد الفتاح السيسي انهاء حكم محمد مرسي، وتسليم السلطة لرئيس المحكمة الدستورية العليا، المستشار عدلي منصور الذي رقَّى السيسي إلى رتبة مشير بعد ثمانية أشهر.