الرقص الشرقي.. استشراق محلي أم فنّ شعبي؟

هناك معضلة في التعامل مع التراث المحلي المشتبك في تاريخه مع الإمبريالية والاستعمار. فهل يمكن لنا أن نحافظ عليه وفي الوقت نفسه نفصله عن ذلك التاريخ المشوه؟
2022-12-29

شارك

أثارت أغنية "توكو توكا" جدلاً واسعاً. جمع "تريو" مغنية الراب الأمريكية نيكي ميناج والفنان الكولومبي مالومو والفنانة اللبنانية ميريام فارس، لإطلاق مهرجان المشجعين الخاص ببطولة كأس العالم لكرة القدم في قطر. تنوعت الأراء والردود حول الأغنية التي أرادتها "الفيفا" مزيجاً ثقافياً يعكس "عالمية الحدث" من خلال الجمع بين ثلاث لغات.

الذائقة الفنية الشخصية ليست واحدة، بل تختلف من شخصٍ لآخر لعدة عوامل، وتنوعها هو انعكاس لاختلاف أمزجتنا، حِسّنا الموسيقي، خلفياتنا الاجتماعية والثقافية، أعمارنا، الخ.. وكما يقول المثل الدارج: "لولا اختلاف الأذواق لبارت السلع". كما أنني لا أود أن أقدم تقييما فنياً للأغنية، هذا ليس ضمن نطاق مجالي البحثي، ولا أرغب أن أشغل القارئ بوجهة نظري الشخصية في الأغنية، فلا أعتقد أنها تهمه.

ما أود نقاشه وتحليله هو تلك المقاربة التي أجمعت عليها شريحة كبيرة من الجمهور العربي للمقطع العربي، من زاوية النظرية الاستشراقية لرائدها المفكر الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد. إذ رأى كثر بأن الشقّ العربي في الفيديو، المتمثل بالأزياء والرقص الشرقي، قدم مثالاً صارخاً على أن النظرة الاستشراقية للآخر أو "الشرق" بوصفه دونياً ومتخلفاً وشهوانياً ومنحلاً إزاء الغرب المتحضر والعقلاني والمتطور، لا زالت حاضرة بقوة، بل ويساهم في إعادة إنتاجها وتدويرها أفراد محليون ينتمون للثقافة المستهدفة ذاتها بدل محاربتها ومحاولة تصحيحها وتغييرها.

انتشرت العديد من التعليقات على مواقع التواصل الإجتماعي تتهم ميريام فارس تحديداً بتهمة "الاستشراق المحلي". لعل أبرزها كان تغريدة المصرية ميار التي علقت فيها على الأغنية قائلة: "بعيداً عن موضوع تقليد شاكيرا، مش مصدقة أنه يجي فرصة لمطربة عربية سنة 2022 في أغنية عالمية فتقرر تطلع بإرادتها رقاصة بصاجات في الصحرا وحواليها رجالة مغطية وشها وجواري! " post colonialism يعني الصورة النمطية عن العرب للغرب من أيام ال بقينا أحنا اللي بنعملها بنفسنا! هو ايه ده؟!"

ربما لم يكن اختيار ميريام للأزياء دقيقاً على اعتبار أن البطولة تستضيفها قطر وهي لها تراثها وزيها الفني الخاص بها، ولكن إذا اعتبرنا أن ما بات يُعرف اليوم بالرقص الشرقي، بنسخته المصرية تحديداً، وزيه والآلات الموسيقية الشعبية المرتبطة به، ما هو إلا تكريساً لصورة واحدة رسمها الكثير من المستشرقين إبان القرن التاسع عشر عن هذا الفن، وبالتالي عنّا، وذلك بربطه بالغواية والإغراء والشهوانية وغيرها من الرمزيات الجنسية الإيروتيكية، فهل ذلك يعني أننا نعلن تبرُّئنا الجمعي منه؟ أي من الرقص الشعبي باعتباره فناً ذا حضور ثقافي واجتماعي عربي راسخ. إذ ما عسانا نفعل حينها بوجداننا المتشرب بالأفلام السينمائية والأعمال المسرحية الاستعراضية المليئة باللوحات الراقصة لأيقونات في هذا الفن؟ هل ننبذه ونشطبه من ذاكرتنا؟

ولماذا نذهب بعيداً؟ يكفي أن نستذكر مشاعر الفرح والانتشاء الجمعي بفوز فرقة مياس اللبنانية الاستعراضية بلقب برنامج المواهب بنسخته الأمريكية، على الرغم من أن عروض الفرقة الساحرة والمبهرة "غارقة في الاستشراق" كما يصفها مصطفى شلش في نقدٍ فني نادر لعروضها، وتمثلاته الرمزية التي تظهر جلية من خلال رموزٍ مختلفة كالخمار والثعابين والريش. والأخير تحديداً يمثل، بحسب شلش، اقتباساً عن "لوحة «غراند أوداليسك»، المعروفة أيضاً باسم «الجارية، حيث توحي الجارية من خلال استخدام الريش ونظرات العيون بإيحاءات ترتبط بـ"المتعة والجنس".

غابت الرؤية الاستشراقية أيضا حين احتفت قطر بتراثها الثقافي المحلي من خلال توظيف رمز الخمار بالنسبة للمرأة، وغطاء الوجه بالنسبة للرجل وتبرير ارتدائه لحماية الوجوه من شمس الصحراء الحارقة؟ لمَ قرأنا تلك الرموز بطريقة مختلفة تماماً عنها في أغنية "توكا تاكا"؟

ليس غرضي هنا هو أن أفند القراءة الاستشراقية لأداء ميريام فارس والجزء العربي المصور. بل على العكس، أتخذها هنا مدخلاً لأبين.

هناك معضلة في التعامل مع هذا التراث المحلي المشتبك في تاريخه مع الإمبريالية والاستعمار. فهل يمكن لنا أن نحافظ عليه وفي نفس الوقت نفصله عن ذلك التاريخ المشوه؟ أم أنها مهمة مستحيلة؟ ربما لا أملك الأن إجابة شافية على هذا السؤال. لكنني أود طرح الموضوع للنقاش ودعوة القارئات والقرّاء إلى النظر إليه من زوايا متعددة، بغية التفكير بإمكانية الوصول إلى نقد بناءٍ وموضوعي لا يساهم في الإمعان في تشويهه ووصمه أو الحكم على ممتهنيه أو هواته أخلاقياً. البداية تكون مع عرضٍ مختصر لذلك التاريخ وتحولاته عبر الزمن. ورغم أنني سأركز على الرقص المصري، إلا أنني سأشير هنا وهناك إلى الرقص العراقي أيضاً، وهو فن عريق بحد ذاته ويحتاج لدراسات ومقالات منفصلة حوله في المستقبل.

الرقص الشرقي وأصالة جذوره المحلية

الرقص هو لغة حالها حال أي لغة أخرى تترجم ما يختلج النفس من أحاسيس ومشاعر الى حركاتٍ جسدية. هو "فطرة، مثله مثل الكلام"، يؤكد الكاتب ورئيس تحرير مجلة ميريتا الثقافية في مقالته الإفتتاحية لعددها التاسع والثلاثين لهذا العام مؤكداً على تجذر الرقص المصري في الحضارة الفرعونية القديمة كما تُظهر أثارها من رسومٍ وصور، شأنها في ذلك شأن حضاراتٍ أخرى، فلا توجد حضارة لم تكن قد عرفت الرقص. حضارة بلاد وادي الرافدين، مثلاً، هي الأخرى من أولى الحضارات التي عرفت الرقص والعزف على آلات موسيقية عديدة أبرزها العود والربابة والمزمار والطبلة، كما تُظهر ذلك أثارها من رسومٍ ونقوش.

وعلى الرغم من ذلك، فإن مهمة البحث في تاريخ الرقص الشرقي لم تكن مهمة يسيرة أبداً. إذ تفتقر المكتبة العربية الى الدراسات والكتب والأبحاث التي تتناوله. ربما العدد المذكور أعلاه وكتاب الباحثة المصرية شذى يحيى "الإمبريالية والهِشِّك بشِّك.. تاريخ الرقص الشرقي" والصادر عن دار إبن رشد عام 2019 هما الإستثناء، إذ تقدم الكاتبة عرضاً تاريخياً للرقص الشرقي بنسخته المصرية، والذي كانت قد تناولته في عدة أبحاث ومقالاتٍ أخرى.

في بحثها الموسوم "فجر الرقص الشرقي: الرقصة التي واكبت العالم"، تُذكرنا يحيى بقِدم هذا الفن وجذوره التي تمتد الى فجر الحضارات الإنسانية والتغييرات والتحولات التي مر بها عبر الزمن بإختلاف السياقات السياسية والإجتماعية والثقافية. تقتبس الكاتبة تعريفاً للباحثين الأمريكيين أنتوني شاي وباربرا سيللر يونج تراه الأكثر دقة وشمولية لتعريف الرقص الشرقي، بكونه "منظومة من الرقصات" موطنها الأصلي شمال أفريقيا والشرق الأوسط ولها أصول وجذور في وسط آسيا ". وعليه وخلافاً للصورة الشائعة، فإن عبارة الرقص الشرقي لا تشير إلى الرقص المصري حصراً المتنوع بأشكاله، بل هي تعبير شامل لعدة أنواع مختلفة من الرقص في منطقة الشرق الأوسط. فمثلاً الرقص العراقي هو أحد أنواع الرقص الشرقي، وهو غني بأنماط متنوعة تختلف بحسب البقعة الجغرافية وتنوع مكوناته، فهناك رقصة الهجع والخشابة والمربعات والهوسات والجوبي الشمالي والجنوبي بألوانه المنوعة.

ومن وجهة نظر الأنثروبولوجين، فإن الرقص الشرقي بكافة أنماطه هو "ما يُمارس في المناسبات الإجتماعية والإحتفالات، وتعود جذوره إلى رقصات طقوسية كانت تقام في معابد الإلهات الإناث، وعلى الأخص حتحور وعشتار وإنانا، يعتمد بالدرجة الأولى على حركة الجذع والبطن واهتزاز الأرداف" كما تردف يحيى في كتابها. تتطلب تلك الحركات الجسدية مهارةً وخفة ودفئاً في ترجمة الموسيقى من خلال الجسد المرتبط بالأرض، وكأنما يريد فرض سيطرته عليه.

وبخلاف الرقص المصري الذي يتطلب حفظ المسافة بين قدمي الراقصة وسطح الأرض (1)، فإن علاقة الجسد بالأرض هي أكثر إلتحاماً وعنفاً في حالة الرقص العراقي، خصوصاً رقصة الهجع الجنوبية التي تعود جذورها إلى رقص السومريات، إذ تسدل الراقصة شعرها على الأرض وتمسحه بها وهي تثني ركبتيها بعد عدة حركات دائرية في الهواء، وقبل أن تقف تركل الأرض بقوة مكررةً ذلك عدة مرات، في محاكاةٍ لطقوس الرقص الأولى المرتبطة بخصب الأرض.

أما بالنسبة للرقص الشرقي المصري فقد تم "تهجينه وتطويره في الولايات المتحدة وأماكن أخرى من العالم، وأصبح جزءاً من الأداة الراقصة العامة والخاصة في القرى والمدن والحواضر والمجتمعات المدينية والملاهي والمسارح والإنترنت على مستوى العالم" (2).

تميز النمط المصري من الرقص الشرقي بإستخدام الصاجات، وهي من أقدم الآلات الموسيقية الشعبية المصنوعة من النحاس المستخدمة في بلدانٍ وحضاراتٍ مختلفة، والمعروفة بأسماءٍ متعددة تبعاً للبلد المعني وثقافته وتراثه. وهي الأخرى، شهد استعمالها تطوراتٍ مختلفة في مصر، فتحولت من أداةٍ تعبر عن الحزن أو الطقس الديني في الحضارات القديمة، إلى أداةٍ للبهجة والفرح بعد أن أصبحت جزءاً من الرقص الشرقي، وأخذت تُعرف بـ"آلة الإيقاع"، إذ كانت احترافية الراقصة تُقاس بمقدار تمكنها من استخدام الصاجات.

ظل الرقص ملازماً لكل العصور والحقب في مصر وبصمته موجودة في العديد من الشواهد والرسوم الحية على الأنسجة والأواني والحلي والزخارف وأسقف القصور. ولأن كل الفنون تتطور وتتلون بفعل عوامل مختلفة منها التفاعل مع الأمم والحضارات والمختلفة، كذلك كان الحال مع الرقص المصري، فتحول عبر الزمن من مجرد خطواتٍ بسيطة وبدائية إلى "حركات وأوضاع حرة" ومرنة (3).

يذكر الكاتب إدوارد ويليام لاين في كتابه "عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم"، أنه في مطلع القرن التاسع عشر، شكلت فئتان رئيسيتان طبقة الرقص في مصر: فئة "العوالم" وفئة "الغوازي". أشارت الأولى إلى النساء "العالمات" بفنون الغناء والعزف والرقص وكن يلتزمن البيوت ويحجبن أنفسهن عن الرجال حين "يحيين الحفلات التي تقام في حريم أحد الأغنياء" (4). أما الثانية فضمت "نساء ينتمين لقبيلة تحمل اسم الغازي، وأحيانا يطلق عليهن البرامكة... وكن يرقصن سافرات الوجوه في الشوارع لتسلية الرعاع"، واتصف أسلوبهن "بالخلاعة والتهتك". فيما لم تختلف ملابسهن عن طبقة العوالم، فكانت "عبارة عن تنورة أو سروال يسمى شنتيان، وقميص حريري وصدرية، ومنهن من ترتدي قميص من التيل وطرحة من الكريب والملوسلين مع الكثير من الحلي" (5).

أخذت الفروق بين الطبقتين بالتلاشي بعد أن أصدر والي مصر محمد علي باشا "فرماناً" في العام 1834 يقضي بمعاقبة من تمتهن هذه المهنة ونفيها خارج القاهرة. تصف يحيى ذلك القرار بأول قمع سياسي ورقابي على هذا الفن الإبداعي، والذي أتى بعواقب إجتماعية وإقتصادية وخيمة على الراقصات وساهم في زيادة ولع الأجانب بهن. ولعل أبرز تلك العواقب هو تشابك هذا الفن بالسياسة وأصحاب السلطة وإستغلال السياسيين للراقصات من جهة، ونمو بذرة الوصمة المحلية التي طمغت الرقص الشرقي حتى هذه اللحظة، وربما إلى الأبد، من جهةٍ أخرى. وفي الوقت ذاته، تمت قولبة الرقص وحصره بالنساء فقط رغم أن الرقص لم يكن حكراً على النساء، بل عرفت تلك الفترة راقصين شعبيين من الرجال ، كما يذكر لاين في كتابه (6). ولكن بالطبع، هذا الأمر تغير عبر الزمن، فاليوم وعلى الرغم من وجود راقصيين شرقيين أو مدربي رقص كسروا تلك القولبة وتحرروا من الصور النمطية والأدوار الجندرية التقليدية، إلا أن وجودهم يظل حالة نادرة بسبب تحدياتٍ جمة تعترض طريقهم، لعل أهمها هوالرفض المجتمعي النابع من نظرة دونية راسخة تُعير الراقص بذكورته ورجولته.

الرقص الشرقي المصري عابراً للحدود دونياً في عيون المستشرقين

منذ حملة نابليون على مصر، سعى الكثير من المستشرقين إلى تأسيس حجر أساس لرؤيتهم حول الشرق، وكان الرقص والراقصة الشرقية إحدى الأدوات التي ارتكزوا عليها. ولكن النظرة التحقيرية للرقص سبقت ذلك العصر، إذ أنها أُستلهمت من مصدرين رئيسيين: نبع الأول من التراث الديني، الكتاب المقدس وقصة سالومي الراقصة على وجه الخصوص. ورغم وجود أكثر من قراءة وتفسير لها، إلا أن القراءة الأكثر شيوعاً قدمت سالومي، تحديداً خصرها، على أنه المحراب الذي نُحرعليه يوحنا المعمدان، بعد أن أدت رقصتها المثيرة وهي تخلع الأوشحة واحداً بعد الأخر حتى تتعرى بشكلٍ كامل أمام الحاكم هيرودس أنتيباس بغية غوايته حتى يلبي طلبها بقتل يوحنا. وبهذا ساهم الإرث الديني في تحقير الرقص وتشويهه (7). أما المصدر الثاني الذي عزز تلك الفكرة المغلوطة في الذهنية الغربية فكان ترجمات قصص ألف ليلة وليلة "براقصاتها وجواريها وحريمها وسلاطينها"، رغم أنه بحسب الباحث المصري عزت القمحاوي، فإن الرقص كان نادراً ما يُذكر في تلك القصص. وبهذا تَكَون منظورمسيء حول الرقص ظل صداه يتردد في "روايات وأساطير الأدباء والرحالة وأعمال الفنانين التي امتلأت بالخيال لاستثارة شعور المتلقي حتى لو لم يجد الشخص شيئاً مما قرأه على أرض الواقع"، كما تشير يحيى.

لاحقاً، لعبت المعارض العالمية التي شاركت فيها مصر في عهد الخديوي توفيق في نهايات القرن التاسع عشر دوراً كبيراً في إنتشار الرقص الشرقي في الغرب. وكان عام 1893 لحظةً فاصلة في تاريخ الرقص الشرقي وإنتشاره خارج حدود مصر والشرق الأوسط، بعد أن شاركت الراقصة فريدة مظهر ذات الأصول الشامية في تمثيل القاهرة في معرض شيكاغو العالمي، حيث احتك بهذا الفن أكثر من مليوني شخص زاروا الجناح المصري، وإنبهروا بـ"مسرح شوارع القاهرة" وراقصاته، خصوصاً فريدة، وأطلقوا عليها لاحقاً لقب "مصر الصغيرة"، وهم الذين لم يألفوا شكل جسدها الممتليء والخارج عن سياق مقاييس الجمال الجسدية في أمريكا آنذاك.

وعلى الرغم من هذا الإستقبال الحافل، لم يكن طريق هذا الفن معبداً بالورود، إذ شنت الطبقة المحافظة في أمريكا هجوماً عليه وإستهجنت ما أسمته "شفرة وثنية شيطانية" مصدرها رقصة الأوشحة السبعة لسالومي. وتخبرنا يحيى عن الدورالسلبي للإعلام والصحف الأمريكية وقتها في إزدراء هذا الفن، مع شيوع مصطلح "رقص البطن" المنقول من خلال الترجمة من الصحف الفرنسية وتحميله دلالات أخلاقية لا علاقة لها بالمعايير الفنية. ولأن مصائب قوم عند قومٍ فوائدُ، فقد استغلت بعدها راقصات أمريكيات هذا الهجوم منتحلات لقب "مصر الصغيرة" بنسخةٍ جديدة تنحصر في الحانات و"الفنادق الرخيصة" وتقترب من الخلاعة والتعري، على حد تعبير يحيى. وبموت فريدة التي لم تكن لها طاقة على ملاحقة كل مدعية جديدة، أسدل الستار على النسخة الأصلية من "مصر الجديدة"، وظهرت نسخة مختلفة تماماً تكرست بعدها في الكثير من الأفلام الهولوودية.

أما بالنسبة لتاريخ زي بدلة الرقص الشرقي فهو الآخر ذا تاريخ إشكالي لتداخل جذوره بالحضارات الفرعونية القديمة من جهة، وبالغرب ورساميه ومصمميه من جهةٍ أخرى. وكانت البداية مع الرسام الشهير ليون باكست وتصاميمه ذات الطابع الإستشراقي لأزياء الرقص إبان الثورة على عصر المشد الكورسية، إذ كان لتصاميمه ورسوماته أيما تأثير على أزياء الرقص في الأعمال الفنية المسرحية والسينمائية. إستخدم باكست الألوان الجريئة البراقة معتمداً على التطريز، كما طوّر تصميم البنطال المنتفخ والعمامات الملونة للرأس مع الإكثار من الحلي والقصات، فكانت جذوع ممثلات شهرزاد العارية (كما عكستها تصاميمه المخصصة لعروض فرقة الباليه الروسي في بالية شهرزاد) بداية الثورة على عصر المشد الكورسية، هي أيضاً التي حددت المميز الرئيسي لبدلة الرقص الشرقي" وفقاً لدراسة يحيى.

تطورت بدلة الرقص الشرقي بعد إدخال تعديلات عليها خصوصاً إبان الإحتلال الإنجليزي لمصر وإنتشار الصالونات وكازينوهات الرقص في أوائل القرن العشرين. وكانت بديعة مصباني من الأوائل الذين قاموا بتحوير شكل البدلة، مستلهمةً إياها من "البيئة الشعبية المصرية" والأفلام الهوليودية، ومن ثم أضفت أيقونات الرقص الشرقي، أمثال تحية كاريوكا ونعيمة عاكف وسامية جمال وسهير زكي ونجوى فؤاد، لمساتهن وبصماتهن الخاصة على الزي وأداء الرقص.

الرقص الشرقي ملعوناً في موطنه

"عندما يقترب الحديث عن الرقص الشرقي، فإن غالبية سكان ومناطق دول "الغبار البشري" تتحسس "سيوفها" في العلن وتمتشق "أعضائها في السر"، هكذا عبّر الباحث أشرف الصباغ في مقدمة مقالته حول نجوى فؤاد (8)، مختصراً بكل وضوح وجرأة وصراحة واحدة من أزمات مجتمعاتنا العربية الأخلاقية، ألا وهي الإزدواجية والنفاق الإجتماعي والتي تجعل تناول مثل هذه المواضيع أمراً إشكالياً ومربكاً ومعقداً في آن (9). من جانبها، فقد إختارت الباحثة شذى يحيى متعمدة العبارة الشعبية المصرية " الهِشِّك بشِّك" عنواناً لكتابها لتذكرنا بالكيفية التي تُستخدم للطعن بهذا الفن؛ فالمفردة الأولى تشير إلى "الهز" والثانية إلى "سوء العمل". بمعنى أن الراقصة هي ليست إلا إمرأةً سيئة الصيت والسمعة، منحلة الأخلاق، فاسدة وماجنة، وغيرها من الصفات الذميمة.

لم تشفع للراقصات الأوائل إسهماتهن في المجتمع لتغيير تلك الصورة، بل رسخها ودعمها بعض المثقفين العرب، لعل أبرزهم الكاتب المصري سلامة موسى الذي وسم بكونه "أحد أعمدة الثقافة المصرية المعاصرة"، واصفاً الرقص الشرقي بأنه "شناعة من الشناعات"، مستثنياً تحية كاريوكا (10). كان ذلك إستثناءاً أتفق عليه مثقفون أخرون، على رأسهم إدوارد سعيد الذي لقبها بـ"الست تحية" و"رمز من رموز الثقافة المصرية"، في مقالة كتبها تكريماً لها عنونها بـ"تكريم راقصة بطن". وكما هو جلي من العنوان، فسعيد وقع في إشكالية إستخدام ذات المصطلحات الإستشراقية، موضوع النقد في إطروحته، من ضمن جملة من الإشكالات والتناقضات الأخرى. فعلى سبيل المثال، إستثنى سعيد تحية بوصفها النموذج الأوحد لما يجب أن يكون عليه الرقص والراقصة الشرقية مقابل أخريات وصفهن أوصافاً دونية. ليس ذلك فحسب، بل إنه عندما حاول أن يصف تحية بالمرأة "التقدمية"، ذمها بطريقة غير مباشرة في مواقع أخرى خصوصاً عندما نعتها بلقب العالمة، معرفاً الأخيرة على أنها "محظية من المحظيات". وكما تذكر يحيى في كتابها أعلاه مستندةً الى رأي الباحثة فاليري كينيدي في نقدها لسعيد أنه رغم إنصافه لتحية إلا أنه ظل أسيراً لمفاهيم المنظومة الذكورية عن الشرقيات عندما نظر اليها كرمزٍ من رموز الإثارة الحسية والجنسية من جهة، والى إمرأة "ورعة ومطيعة" من جهةٍ أخرى.

أما السينما المصرية ورغم ما يبدو ظاهراً على أنه إحتفاء بالرقص الشرقي، إذ كانت أفلام القرن العشرين تكاد لا تخلو من مشهد أو وصلة رقص أو لوحة إستعراضية، إلا أنها كانت قد ساهمت هي الأخرى في تكريس الصور النمطية المغلوطة عن الرقص الشرقي في العديد من تلك الأفلام. تحية كاريكوكا، مثلاً، لعبت أدوار الراقصة الشريرة أو المغرية على النقيض من حياتها الواقعية. فيما ترى الكاتبة هدير حسن في مقالٍ لها عن تاريخ وجذور الرقص الشرقي أن تناول الراقصة الشرقية في السينما المصرية، كان قد مر بتحولات وتغييرات عديدة وتستشهد بمثالٍ عن هذا التحول من خلال مقارنتها لفيليمين سينمائيين تم إنتاجهما في حقبٍ مختلفة. ففي فيلم "الزوجة 13" لعام 1962، تتساءل زينات علوي بإستغراب إن كان الرقص الشرقي عيباً:"وهو عيب أن بنت خالتك تبقى رقاصة؟". تضع حسن هذه الجملة في مقارنةٍ مع جملةٍ قالتها سعاد حسني في الفيلم الشهير "خلي بالك من زوزو" تعبر عن الوصمة المجتمعية التي أخذت تلاحق هذا الفن منذ بداية السبعينات وحتى يومنا هذا: "زينب ماشية شايلة وصمة نعيمة ألماظية أمها، ونعيمة ماشية شايلة وصمة الشارع اللي هي منه (شارع محمد علي)، والشارع مسكين شايل وصمة زمن راح وانقضى، زمن متخلف". ويُحسب لهذا الفيلم أنه كان من الأعمال القليلة التي حاولت أن تعالج الوصمة المجتمعية حول الرقص من دون إدانة الراقصة الشرقية بدون أن تفلح.

فعلى مر السنين، ومع تصاعد التيارات الدينية المتشددة والأجواء المشحونة بالإستقطابات العقائدية والأيديولجية والسياسية، تعالت الأصوات المناهضة للرقص، في مصر والعراق ودول أخرى في المنطقة، ولعل شحة وفقر المصادر الموجودة حول هذه الفنون تدل على ذلك. وفي عصر مواقع السوشل ميديا، شُهرت السيوف الألكترونية ضد نساءٍ عديدات بتهمة الرقص. يكفي أن نذكرالمشانق التي نُصبت لمعلمة الدهلقية أو لأستاذة الأدب الإنجليزي في جامعة السويس، ومن خارج مصر، يكفي أن نستذكر الإدانات الأخلاقية المتكررة ضد مشاهد الرقص المصاحبة لحفلات التخرج في العراق، والعواقب المادية المترتبة عليها والتي قد تصل الى تدمير حياة إنسانة كاملة.

وعليه لم يعد مستغرباً أن ينحسر عدد الراقصات العربيات أو المصريات لحساب الراقصات الأجنبيات من مختلف الدول. وبالفعل، في الوقت الذي نستمر فيه بإزدراء وتحقير الرقص الشرقي، تزداد شعبيته عالمياً وتتزايد أعداد الورش والصفوف والمعاهد التي تدرسه في دول كثيرة، كما يظهر أي بحث سريع على اليوتيوب.

صور متعددة، رؤى جديدة

في الأونة الأخيرة، بدأ بعض الباحثات والباحثين الغربيين إعادة إكتشاف الرقص الشرقي من خلال وجهة نظر من يمارسنه، سواءأ كراقصات محترفات أو هاويات. وفي بحثٍ للأكاديمية أنجيلا مو (11)، نتعرف على وجهات نظر نساءٍ من خلفيات مختلفة في أمريكا يمارسن الرقص الشرقي ويعرفونه من زاويتهن ووجهة نظرهن الشخصية متغلبات على الرؤية الأستشراقية التي طالما وضعت الأغلال حول هذا الفن التعبيري. فبالنسبة لهن، له فوائد جمة جسدياً وعاطفياً، ومن خلاله أعدن إكتشاف أجسادهن واستعدن زمام السيطرة عليها بعد تحريرها من القبضة الذكورية. هؤلاء النسوة لسن مهتمات بإغواء الرجال، كما أنهن لا يسعين إلى تسليع أجسادهن كما هو التصور السائد، مع إدراكهن بأنه ليس بإمكانهن فعل شيءٍ إزاء تلك النظرة المغلوطة، فتصحيحها خارج عن نطاق سيطرتهن وإرادتهن. تستنتج الباحثة أن الرقص الشرقي ممكن أن يُنظر إليه على أنه أسلوب مقاومة ضد الأعراف المجتمعية الطاغية والبالية. كانت الممثلة هند صبري قد حاولت إعادة مقاربة الرقص الشرقي بطريقة مشابهة في مشهد جمعها بالراقصة دينا في إحدى حلقات مسلسل "رحلة البحث عن علا" الذي عرضته نيتفلكس العام الماضي. فيحاول صديقا علا، نسرين (ندى موسى) و منتصر الزيات (محمود الليثي)، تحقيق إحدى أحلامها البسيطة في مشاركة الرقص مع الراقصة المصرية دينا وهي تطفئ شمعة عيد ميلادها الأربعين. وقبل مشهد الرقص، تناقش كل من علا ودينا ماذا يعني الرقص بالنسبة للمرأة وفوائده الصحية والنفسية، ومن ثم ترتديان بدلة الرقص الشرقي وتبدأ دينا بتعليم علا خطوات الرقص على أنغام موسيقى محمد عبد الوهاب، في إلتفاته مهمة الى أن هذا الفن يحتاج بالإضافة للموهبة إلى حس موسيقي عالي ومهارة وتدريب مكثف لضبط السيطرة على تحريك أجزاء الجسد بمعزل عن بعضها أو سوياً، فيما يشاركهما الصديقان الرقص في الخلفية، ويظهر الليثي مرتدياً الصاجات في يديه، في محاولةٍ أخرى لكسر الصور النمطية حول هذا الفن وحصره بالمرأة فقط، والأهم إستعادته كإرثٍ محلي وثقافي يُعتز ويحُتفى به. لم يكن أمراً مستغرباً أن يثير هذا المشهد جدلاً كبيراً بعد عرضه.

 وبالفعل، هناك اليوم خوف حقيقي من إندثار هذا الفن، ولذا هناك محاولاتٍ جادة للحفاظ على الرقص الشرقي بوصفه تراثاً إنسانياً، كمشروع طرب بإدارة إيمي سلطان، مهندسة الديكور والراقصة المصرية أو "الراقصة المهندسة" كما يُطلق عليها في الأوساط الفنية المصرية، عن طريق إعادة تعريفه وتخليصه المفاهيم المحلية المغلوطة والمشوهة عنه بتسجيله وتوثيقه "كتراث ثقافي مصري" في منظمة اليونسكو.

وعلى صعيد الرقص العراقي، يحاول الفنان مهند هواز من محافظة نينوى الذي تتلمذ على يد الفرقة القومية للفنون الشعبية، خصوصاً الراقصة هناء عبد الله، الحفاظ على تراث الرقص الشرقي العراقي وإحياءه بعد أن اضطر إلى المغادرة إلى السويد، بسبب تدهور الأوضاع الأمنية والتهديدات التي تلقاها هو وفنانين أخرين في العراق إبان أعوام الصراع الطائفي. وبعد أن إستقر في السويد، قام بتأسيس فرقة أنكيدو للرقص الشعبي الفولكلوري العراقي هناك.

إعادة قراءة مقطع ميريام فارس

وبالعودة الى المقطع العربي من أغنية كأس العالم وردود الفعل حوله، وفي ضوء ما سبق، فإن المشكلة ليست في القراءة الإستشراقية بحد ذاتها، بل في إختزالها والتأكيد عليها كما لو كانت نصاً دينياً مقدساً لا يجوز الخروج عنه وتوظيفها في سياق القرن التاسع عشر لا في سياق القرن الواحد والعشرين، إذ تكتسب النصوص والصور معانيها من السياق الزماني والمكاني الذي تُولد فيه، وتتعدد بحسب وجهات نظر منتجيها. فالفنان أيضاً له وجهة نظره الخاصة في كيفية تمثيل نفسه والتعبير عنها وعن جسده. وهذا التمثيل الذاتي لا يمثلني أنا شخصياً، ولا يمكن أن يمثل جميع النساء العربيات أو من البلدان ذات الأغلبية العربية والمسلمة. ومطالبت ميريام فارس أو أي فنان أخر بتمثيلنا جميعاً هو مطلب غير منطقي، بل ويرسخ نفس النظرة الجوهرانية التي تحيلنا جميعاً إلى "عرب" دون خصوصيات تتعلق بالسياق المتنوعة التي تميزنا، وهي نظرة يدّعي كثر رفضها ومحاربتها.

واليوم، لم تعد صورة واحدة ومتجانسة تمثل شعوباً وثقافات متنوعة في زمنٍ تعددت فيه الصور وهي تتناقل في إتجاهاتٍ مختلفة بشكلٍ تزامني ومتسارع لا في إتجاهٍ واحد، زمنٍ تمازجت فيه الفنون وتأثرت بعضها ببعض، زمن أصبح فيه التعبير الجسدي وحتى الغرائزي مرتبطاً بأنماط فنية كثيرة ولم يعد مقتصراً على الرقص الشرقي، وهو حاضر في معظم الإنتاج الغنائي والفني الغربي. ليس هناك فن يتفوق على فنٍ آخر، وإن أدعينا ذلك، كما يفعل البعض عند مقارنتهم بين الرقص الشرقي والبالية، بشكلٍ يعطي الأفضلية للأخير،(12)  فإننا نعزز ونعيد إنتاج نفس الثنائيات المتناقضة عن الغرب المتحضر والشرق المتخلف التي يُفترض أننا نحاول تفكيكها وتغييرها.

المشكلة الأكبر في اعتقادي، هي الأحكام القطعية التي نصدرها ونتعالى بها على ونزدري بل وحتى نمحي فيها جزءاً من تراثنا وثقافتنا. قد لا يعبر المقطع العربي عن ثقافاتنا المتنوعة، ولا أعرف إن كان هذا ممكناً أساساً، ولكنها لا "تشطب الثقافة العربية"، كما غرد أحدهم. فهل هناك ثقافة عربية واحدة بالنهاية؟ قطعاً لا. ولكن الرقص الشرقي والصاجات والصحراء وعبارة "السلام عليكم" هي جزء من تراثنا. أن نزدري بعضها شيء، وأن ننقد توظيفها نقداً موضوعياً شيء آخر، فهل يمكننا أن نفعل ذلك وننعتق أخيراً من الثنائيات الضيقة؟ 

______________________

ينشر هذا المقال بالتلازم بين السفير العربي وجمّار

______________________

1- أشرف الصباغ، "نجوى فؤاد..الرقاصة التي تشبه إبتسامتها شروق الشمس"، مجلة ميريتا الثقافية، العدد 39، 2022.
2- شذى يحيى، "فجر الرقص الشرقي..الرقصة التي واكبت العالم"، مجلة ميريتا الثقافية، العدد 39، 2022.
3- يحيى، 2022، ص 210.
4- إدوارد ويليم لاين، "عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم.. مصر ما بين 1833 – 1835م"، ترجمة سهير دسوم، الطبعة الثانية، القاهرة، مكتبة مدبولي، 1999، ص 367.
5- شذى يحيى، "الإمبريالية والهِشِّك بشِّك.. تاريخ الرقص الشرقي"، الطبعة الأولى، مصر، دار إبن رشد، 2019،ص 211.
6- لاين، 1999.
7- عزت القمحاوي، "سالومي" أشهر ضحاياه في التاريخ..هذا الفن المحتقر"، مجلة ميريتا الثقافية، العدد 39، 2022، ص 200.
8- الصباغ، 2022، ص 191.
9- الصباغ، 2022، ص 192.
10- يحيى، 2022، ص 208.
11- Moe, Angela M. "Beyond the belly: An appraisal of middle eastern dance (aka belly dance) as leisure." Journal of Leisure Research 44, no. 2 (2012): 201-233.
12- الصباغ، 2022. 

مقالات من العالم العربي

"شنكَال"؟

فؤاد الحسن 2024-12-23

لا يقبل الدين الإيزيدي الراغبين في الانتماء إليه، الذين لم يولدوا لأبوَين إيزيديين. وهو بذلك، كديانة، ليست تبشيرية، ولا نبي أو رسول للإيزيديين، وهذا ما يجعل علاقتهم مباشِرة مع خالقهم،...

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.