حظي إصلاح منظومة التربية الوطنية بالجزائر خلال الآونة الأخيرة بنقاش واسع في أوساط فكرية ونقابية. فقد ثارت الخلافات حوله وما زالت منذ إطلاق الوزارة المعنية ل"الجلسات الوطنية للتربية" في مطلع صيف 2014، التي صاغ فيها مختصون وفاعلون في القطاع ورقة طريق لإصلاح المنظومة التربوية.
ركزت جل توصيات ومقترحات الجلسات الوطنية للتربية (التي تُوّجت بطرح 850 مقترح) على إعادة النظر في المناهج والبرامج والتكوين المدرسي فضلاً عن التوجيه و"الأخلاق المدرسية". وقد اعتبر قطاع واسع من النقابات وجمعيات أولياء التلاميذ أن سياسة الإصلاح المنتهجة في قطاع التربية الوطنية لم تحقق منذ إطلاقها رسميا سنة 2002 النتائج المرجوة والمنشودة، إذ ما زالت المدرسة الجزائرية تعاني من غياب واضح لمرجعية تعليمية فعالة على مستوى التكوين والتسيير المنهجي لطرائق التدريس.
إصلاح تربوي يواجهه غضب الأستاذ
يرى متابعون أن قطاع التربية الوطنية لم يعرف على مدار أكثر من عشر سنوات حالة استقرار شجعت على قطع أشواط هامة في تجسيد مقترحات إصلاح تربوي يمس جوانب هامة في تسيير المؤسسات التربوية بأطوارها التعليمية الثلاث ويطرح مقاربة تدريس جديدة للمناهج التربوية.
فقد اصطدم برنامج الإصلاح في منظومة التربية الوطنية بحالة احتقان واضطراب عرفها القطاع الذي واجه على مدار السنوات الثلاث الأخيرة موجة إضرابات كثيفة شنتها نقابات مستقلة طالبت بتحسين وضعية الأستاذ الاجتماعية والمهنية. وإن عبّرت وزيرة التربية الوطنية (الوافدة حديثاً على القطاع) عن ارتياحها من مصادقة جل نقابات التربية على ميثاق أخلاقي يلزم المهنيين والوزارة ب"ضمان الاستقرار وحل الانشغالات المطروحة في كنف الحوار الهادئ"، إلا أنّ مسيرة الأساتذة المتعاقدين أعادت إلى القطاع شبح الإضرابات والاحتجاجات مجدداً، في ظل تمسك الوزيرة بموقفها، وبدعوتها إيّاهم إلى المشاركة في مسابقة التوظيف، ونسيان مطلب الإدماج الذي كان ولا زال مطلب الآلاف من الأساتذة المتعاقدين عبر مختلف الولايات.
خلال هذه الأيام، وفي الوقت الذي تسعى فيه الوزيرة إلى امتصاص حالة الاحتجاج التي حركها مؤخرا إضراب المساعدين التربويين والأساتذة المتعاقدين، يسعى طرح إصلاح المنظومة لإعادة النظر في حجم ساعات التدريس وفي التنظيم الصارم لعمليتي الدخول المدرسي وجدول العطل المدرسية، فيما لم يلقَ مقترح التدريس باللهجة الدارجة القبول إذ رفضه قطاع واسع من المثقفين، وحذرت نقابات من إقدام الوزارة على هذه الخطوة "دون جس نبض الشريك الاجتماعي". وقد حسم النقاش تصريح إعلامي لرئيس الوزراء بشان التدريس باللهجة الدارجة إذ أكّد من مدينة قسنطينة على مرجعية التدريس باللغة العربية واعتبار ذالك خياراً لا نقاش فيه له بعد هويّاتي ودستوري في كيان الدولة الجزائرية والمجتمع.
أولياء التلاميذ وهاجس البكالوريا
ولا يخفي أولياء التلاميذ، الممثَلين في فيدرالية وطنية، تخوفهم من هاجس البكالوريا الذي يرافق تلاميذ الطور النهائي في الثانوي، الممتعضين أصلاً من طبيعة برامج التدريس وكثافتها وضغط الإضرابات الذي يحيلهم باكراً في الموسم الدراسي إلى "دروس الدعم" خارج المؤسسات التربوية .
ويدافع أولياء التلاميذ عن مطلب التقليل من كثافة المناهج والمواد المدرّسة وتحسين ظروف التمدرس بالمناطق النائية المعزولة وإلحاقها بسياسة إصلاح ترى بعمق ظروف التمدرس ووضعية الأستاذ المهنية والاجتماعية التي ما زالت عالقة. ومن رهانات وزارة التربية تحسين مستويات النجاح في امتحانات نهاية السنة الدراسية، وأشارت إلى ارتفاع نسب النجاح في امتحانات شهادة التعليم الابتدائي، فاقت 80 في المئة في دورة حزيران / يونيو 2014 وبقت في مستويات معقولة سنة 2015، فيما يشكل حضور البكالوريا في يوميات التلاميذ وأسرهم هاجس آخر يؤرق الهيئة الوصية التي تسعى إلى رفع نسب النجاح التي تبقى ضعيفة للغاية ببعض الولايات، رغم امتلاك هذه الأخيرة ظروف تكوين ملائمة ومنشآت تربوية هامة.
.. وعنف مدرسي
من جهة أخرى، تدق هيئات بحث مختصة ناقوس الخطر تجاه الارتفاع الواضح خلال السنوات الأخيرة للعنف المدرسي، حيث سبق أن كشفت دراسة أعدتها وزارة التربية عن تسجيل أكثر من 25 ألف حالة عنف في الوسط المدرسي خلال السنة الدراسية 2010-2011، وارتفعت لتصل سنة 2014 إلى أكثر من 71 ألف حالة. وأسباب العنف ذاك متعددة، أهمها افتقار المؤسسات التربوية لفضاء الاتصال الرسمي بين المعلم والتلميذ وأوليائهم. إضافة إلى ذلك، تسجل هيئات الإشراف الإداري بالمؤسسات التربوية تركز نمو السلوك العنيف لدى الشباب المراهق تجاه الأستاذ بوجه خاص. ويبدو أن الوزارة تحاول استدراك النقص المسجل في منظومة الاتصال والإعلام داخل الفضاء التربوي، سواء بإعادة تفعيل نشاط مصالح التوجيه المدرسي أو توظيف مستشارين تربويين، في مقاربة جديدة لتجسيد مفهوم الوسيط التربوي. كما تعمل على إطلاق "عملية وطنية استنطاقية" للمسببات ودواعي ذلك الانتشار. وقد تم تنظيم عدد من الملتقيات والأيام الدراسية لشرح الظاهرة. وذكرت النقابة الوطنية لعمال قطاع التربية أنه يجب التفريق بين العنف داخل المؤسسات التربوية والعنف الناتج عن ظروف اجتماعية واقتصادية صعبة وهو يغذي نمو عنف مدرسي يمكن احتوائه بإيجاد آليات متابعة حقيقية للوضعيات الاجتماعية لأسر التلاميذ التي يضطر أبناؤها إلى مغادرة مقاعد الدراسة ليس بسبب الفشل الدراسي بل بسبب الفقر والعجز الاجتماعي رغم مجانية التعليم.