يصل هواء جنيف إلى دمشق محنّطاً تماماً، بعدما عبّدت المفاوضات الطويلة الطريق بين المدينتين بالبرد وبالأسئلة. السوريّون لا ينتظرون بِذار حياةٍ جديدة يستخلصونها من ذِمَم الدول صاحبة القرار باستمرار مأساتهم. يفهمون إذاً كيف تعْبر الجولة الثالثة من المفاوضات بخفّة السراب وبمكائد وهمه من أمام أعينهم الساهمة، كما عبَرت سابقاتها مثل الهباء. ربما ملّوا تسطيح انتظارهم لخلاصٍ لا يجيء، في كل مرّةٍ يلتقي فيها وفد النظام مع وفود المعارضة. تعلّموا كيف لا يحتسبون من وراء ذلك فرجاً يُذكر. بات أكثرهم متيقّناً من أن الجميع يراوغهم.. من يدعم النظام، ومن يدعم المعارضة على السواء، فغسلوا أيديهم من الإثنين، وكأنهم يريدون اشتقاق طرفٍ ثالثٍ من تلك الحسبة السياسية ليس موجوداً بعد، وليس لديهم توصيف له، سوى أنه ليس النظام ولا المعارضة. يعلّقون خلاصهم بعلومِ الغيب، وقد نزفَ الواقع من بين أصابعهم حدَّ الكفاية، بينما هم يحاولون إمساكه من دون جدوى.
حريق "العصرونيّة" أهم من جنيف
أزاحَ حريق سوق "العصرونيّة" انتباه سكان دمشق إليه، جذبتهم سحابةُ الدخان التي تطاولت فوق أسواق المدينة القديمة، ولم تجذبهم سُحب جنيف وهي تظلّل الإخفاق الدولي في تقرير مصيرهم. جلس السوق سبع ساعاتٍ على مأدبة النار لتلتهم نصف محالّه التاريخيّة، فيما تلقّف الناس الحادثة بأسى، تعاطفوا مع السوق التاريخي المنكوب، وتناسوا مصير بلادهم الذي تركله أقدام المتحاورين في سويسرا، وكأنَّ تقصّي أخبار المفاوضات صار أشبهَ "بموضة" انتهى بريقها، فلم تَعُد تُغري أحداً بملاحقة أخبارها.
لم تُغيِّر جولات التفاوض في نيسان/ أبريل شيئاً من معادلة التقنين القاسية التي ينتمون إليها. التقنين طال ملامحهم أيضاً، وهم يتحرّكون في دوائر متداخلة يلوبون فيها. يخرجون ظهراً من وظائفهم وكأنهم مخدّرون باللّاجدوى، ثم يسرعون ليلحقوا بوسائل النقل العامة فينحشرون فيها، والوجوم يتلقّط سحناتهم ولا يفارقها مطلقاً. ينسحبون من دائرة العمل إلى دائرة البيت، وأيديهم تحمل أكياساً زهيدة المحتويات. أحياناً يحاربون القسوة بابتساماتٍ يلصقونها فوق أفواههم مثل الطوابع البريديّة، لكنّهم سرعان ما يتراجعون قبل النوم.
الدولار عملة الانتظار الصعبة
الوجوه التي ترتاد المقاهي في سوريا تبدو متبرمةً من نشرات الأخبار، وكأنها تحفظُ مسار الحدث قبل معاينته واقعيّاً، فيشيحون بأعينهم عن لقاءات "دي مستورا" بالأطراف "المتعارضة" في منتصف الأسبوع قبل أن يقصد روما، أو يطالبون النادل بقنواتٍ تعرضُ أغانيَ فحسب. تعنيهم أخبار الدولار أكثر، يستفهمون كل صباحٍ عن سعره الجديد، ثم يعودون ويسألون عن سعره في الظهيرة، وكأنهم يديرون شركاتٍ للاستيراد والتصدير يخافون عليها من أن تُفلس فجأة.
بات سعر الحياة عندهم متورّط بسعر صرف الدولار في كل لحظة الذي تجاوز عتبة الخمسمئة ليرة خلال جولة مفاوضات جنيف الأخيرة. يفرحون إذاً بهبوط أسعار بعض صنوف الخضار في سوق "الهال" أو في منافذ البيع لمؤسسات الخزن والتسويق التابعة للدولة، أكثر من فرحهم بالإطلال على الصور المتثائبة لأبطال جنيف من الطرفين. بذلك يبحثون عن مصلٍ يغذّي أوردتهم، يكون بإمكانهم إمساك مكوناته واقعياً. بموازاته يرفضون شراء الوهم كسلعٍ تصنّعها الدول الراعية لجنيف، وتعيد تصديرها إليهم كلَّ حين.
البحث عن الظلال لم يتغيّر
يُحيّر شهر نيسان / أبريل رؤوس السوريين بطقسه المتقلّب، تارةً يبحثون عن الظلال الواهية المرتسمة فوق الأرصفة ليتّقوا بها حرارة شمسه، وتارةً يعودون لارتداء الملابس الثقيلة لطرد لسعات برده الصباحيّ المفاجئ.. ولا تحيّرهم مفاوضات جنيف بنبضها الثابت، يعاينوها من خلال جدول إنفاقهم المعدّل مراراً خلال الشهر، ليتجاوزوا بخفّة إعلانات التخفيضات التي تلتصق بواجهات محالّ الثياب في أسواق "الصالحيّة" و "الحمراء". لم يعد اقتناء الثياب الموسميّة بذي أهميّة، لقد طرحوها خارج قائمة أولوياتهم، وسيرتدون الثياب الصيفيّة التي لبسوها العام الماضي.
يتألمون في أحاديثهم المحشورة داخل مقاعد سيّارات الأجرة، أو داخل باصات النقل العام البيضاء على أخبار حلب وهي خارج الهدنة. تُقصف كلّ يوم، ويموت الناس فيها بالمجان، فيما تتعارك كلمات الوفود التي لا تزال تلعب لعبة التفاوض المرير في العاصمة السويسريّة الباردة، ولا يصلهم من هناك سوى تبادل الاتهامات، ولا تصل إلى جنيف من هنا أصوات من ماتوا، أو ينتظرون. لا أحد ينظر إلى سوريا على أنّها حقل تجارب مخبريّة.. وهي كذلك.
الأرياف المحاصرة تلوبُ في خاصرة الجوع، والنازحون يرتحلون كلّ يوم من فجٍّ إلى آخر، يتركون تدمر وريف دمشق الشرقي، ويهجسون بطريقٍ تقودهم مؤقتاً إلى الجنوب، لم يعد يعنيهم أن تنسحب "الهيئة العليا للمفاوضات السورية" من مفاوضات جنيف حتى ولو طالبت بإيصال المساعدات الإنسانية، ورفع الحصار، وإطلاق سراح المعتقلين، ووقف القصف كشروطٍ لعودتها. من يأبه بذلك؟ إذ ليست "معارضة الرياض" وحدها من يفاوض النظام الحاكم، ثمة أيضاً وفدان يمثّل الأول معارضة "موسكو ـ القاهرة"، والثاني "معارضة الداخل". لكلًّ رؤيته حول "المرحلة الانتقالية"، بمن فيهم وفد النظام.
تأجلت المفاوضات إلى أيّار / مايو مبدئياً، وعادت الوفود هانئةً إلى مدنها. الناس خارج حساباتهم، وإن ادّعوا خلاف ذلك. وحدها الدول الراعية للحرب تقرر مصير السوريين، في العاصمة أو في سواها من المدن المنكوبة.. في الداخل، أو في دول اللجوء.
طالع السوريين ليس في جنيف
يتوكأ السوريون على عُضُدِ بعضهم البعض من دون خجل، علّهم يواصلون سباق التتابع في مضمار الحياة الضيّق. يبحثون عن الخطوة التالية، عن موضع القدم التالي، يريدونه آمناً كي لا ينزلقوا إلى جبّة الموت. ملّوا مِن أن يظلّوا تسليةَ العالم الأثيرة في الصباح وفي المساء. من خرج منهم إلى دول اللجوء، بدأ فيها حياة جديدة واكتفى، وستكون "جنيف" بالنسبة إليه ترفاً، يحلل مكوّناته بجدية بالغة، أو ربما بسطحيةٍ رثّة. الأهم هم الباقون في الداخل، كيف لم يملّوا بعد من عجن بدائل جديدةٍ للحياة تكفيهم يومهم فحسب؟ بماذا تتعلّق أعينهم فجأة فيتوقفون عن السير، ويعاينون بقعةً مضجرة في السماء، أو يتفحّصون بشرود بلاطةً عائمة وقد نزعتها أقدام المارّة من مكانها على الرصيف، تتخدّر أبصارهم بلا سابقِ إنذار، ربما يخدّرها أكثر اللون الأخضر الذي تسكبهُ حديقتَا "السبكي" و "تشرين" بغزارة في قلب العاصمة، يجلسون مستسلمين إلى خشب المقاعد، وكأنهم يعاتبونه على صمته، تتبدّل سحناتهم فجأة، يتذكرون قريباً في البعيد فيعاجلون إلى مهاتفته وكأنهم سيفقدون صوته للتو. أمامهم تتدحرج ضحكات أطفالٍ بجزل، فلا ينقطع شرودهم.
يغادرون روائح الحدائق العامة وزجاج الأسواق التجارية، يعلنون بذلك انتهاء فرجتهم اليومية، فلا يسألون بعضهم بعضاً وهم عائدون إلى منازلهم مساءً عن أخبار الطقس في جنيف.