اليوم العالمي للكتاب يحل في 23 نيسان/ إبريل من كل عام. فرصة لإعادة طرح قضايا الكتاب في العالم العربي ومناقشتها، من غياب ثقافة القراءة بوجه عام والقراءة الجادة على وجه الخصوص، وغياب الحرية الفكرية في ظل رقابة ذاتية وحكومية وجماهيرية، إلى مشكلات النشر الحكومي، أو مسؤولية الناشر ودوره، وافتقادنا للناشر الذي يكون على درجة كبيرة من الوعي والثقافة بحيث يشعر أن عمله رسالة وليس مجرد مشروع تجاري هدفه الربح والتسويق والقرصنة، وغياب جهة جامعة تنسق بين جهود الترجمة في العالم العربي، وعدم قيام وسائل الإعلام العربية بدورها في الترويج للكتاب ونشر ثقافة القراءة، وغياب سياسة واضحة المعالم للتزويد والاقتناء لدى المكتبات العامة في الدول العربية، وقلة ميزانيتها مما يؤثر بالسلب على قدرتها على جذب الجمهور.. إلخ.
لكن الأهم من كل ذلك، أو القضية التي تأتي في المقدمة، تتعلق بإنتاج المعرفة في العالم العربي. المشكلات الكبيرة والمستعصية السائدة تجعل الإنتاج المعرفي العربي ضعيفاً وفقيراً مقارنة بالدول الأخرى المتقدمة علمياً، أو تلك الآخذة بأسباب النهوض، وذلك على مستوى الكم والكيف أيضاً. في مصر، على سبيل المثال، بلغ عدد العناوين التي تم إيداعها في دار الكتب خلال عام 2014، وفقا لما ذكره وزير الثقافة المصري، 23 ألف عنوان، أغلبها دواوين شعرية وروايات ومجموعات قصصية. هذا الاختلال الكبير في إنتاج المعرفة لدينا ليس مفاجئاً ومدعاة للتعجب، بل النتيجة الطبيعية والمتوقعة لواقع نظام التعليم المدرسي والجامعي، والبحث العلمي، بكل آفاته وفوضويته وميزانيته الضئيلة، بينما تستحوذ البنود الأمنية والعسكرية على موارد ضخمة.
خلال شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، عُقِدت بمكتبة الإسكندرية، القمة العالمية الرابعة للكتاب (وهي اجتماع سنوي عالمي أطلقته مكتبة الكونغرس في عام 2012 لمناقشة قضايا الكتاب) تحت عنوان "الكتب والقراءة والتكنولوجيا"، بمشاركة عربية وإفريقية، كما شارك عدد من الباحثين والمختصين من الولايات المتحدة ودول أوروبية، مما أتاح احتكاكاً واطلاعاً على جوانب من واقع الكتاب والمكتبات في هذه الدول، وهو ما كشف مدى اتساع الفجوة بيننا وبينهم في هذا المجال.
عن هذه الفجوة وجهتُ سؤالاً للسيدة جنيفر نيكلسون، أمين عام الاتحاد الدولي لجمعيات المكتبات IFLA، فقالت: "سؤال صعب للغاية، ففي العالم العربي مكتبات ذات مستوى جيد وأخرى تنقصها الموارد. ولكن من أهم الأشياء التي يفتقدها العالم العربي في هذا الإطار تعريف الجمهور بأهمية المكتبة، وأيضاً الاستثمار في قطاع المكتبات، وهذا على الرغم من وجود أمثلة جيدة جدا لهذا الاستثمار في عدد من الدول العربية، منها مكتبة الإسكندرية ومكتبات في دول الخليج، ولكن علينا أن ننتبه إلى أن التكنولوجيا ليست أهم شيء. فليس المهم وجود خدمات تكنولوجية عالية المستوى، ولكن أن تكون هذه الخدمات مفيدة للمجتمع وملبية لاحتياجاته. من الممكن أن تقوم المكتبة بدور فعّال دون أن تمتلك مستوى عاليا من التكنولوجيا، في المقابل يمكن أن تتوفر التكنولوجيا ولكن لا يستخدمها أحد. فالنقطة المحورية هي احتياجات المجتمع وكيف يمكن تلبية هذه الاحتياجات".
.. إذاً، وجود مكتبات محدَّثة تكنولوجيّا بدرجة عالية في عالمنا العربي ليس بالضرورة أمراً إيجابياً، والتركيز على التحديث التكنولوجي لمكتباتنا وإعطاء الأولوية للجوانب التقنية لا يعني بحال أننا حققنا النجاح المطلوب، والأموال الكثيرة التي تنفق على التكنولوجيا يمكن أن تُوجّه إلى أمور أخرى أكثر أهمية وإلحاحا. فعلى سبيل المثال، إذا نظرنا إلى مكتبة الإسكندرية بمبانيها الفخمة وتقنياتها العالية، سنجد أن تأثيرها في محيطها محدود مقارنة بالإمكانيات الكبيرة المتوفرة لها والتي تؤهلها لإحداث تأثير ثقافي أقوى وأوسع مدى بكثير من تأثيرها الحالي، ولكن للأسف يكون الاهتمام في أحيان كثيرة منصباً على الأنشطة المظهرية والدعائية التي يحتل فيها "المدير" المكان الأبرز. وثمة معوقات كثيرة يلقاها جمهور المكتبة من القرّاء والباحثين، منها عدم كفاية عدد ساعات العمل، ونقص المراجع خاصة في التخصصات العلمية، واقتصار الاستعارة على موظفي المكتبة فقط دون الجمهور. حتى إصدارات المكتبة تخرج في معظمها في طبعات فاخرة وباهظة الثمن بدلاً من إصدار طبعات شعبية تكون في متناول الجميع. وقد يمثل التحديث التكنولوجي ــ في مجتمعات ينتشر فيها الفقر والأمية ــ عقبة نفسية أمام البعض تجعله يشعر بأن هذا المكان ليس له وإنما لطبقات وفئات معينة. خاصة أن المكتبة لا تبذل الجهد الكافي لجذب الجمهور أو الدعاية الكافية للتعريف بأنشطتها، وهي لدى البعض ليست أكثر من مزار سياحي. ولا يمكن إغفال التأثير السلبي للإجراءات الأمنية التي تتم أثناء الدخول والتي تجري في بعض الأحيان بصورة منفرة.
منذ فترة جرى حديث بيني وبين مدرس جامعيّ كان عائداً لتوه من ألمانيا بعد الحصول على درجة الدكتوراه في النقد الأدبي من جامعة برلين، حول الفروق التي وجدها بيننا وبينهم. وبخصوص المكتبات قال: "فتنتني المكتبات هناك فتنة كبرى. يكفي أن نعرف أنها تفتح أبوابها للجمهور من التاسعة صباحاً حتى العاشرة ليلاً، وهي مزودة بكل ما يكفل راحة الباحث، ويتميز نظام الاستعارة بمرونة كبيرة حيث يمكن للباحث استعارة 30 كتاباً أو أكثر لمدة أربعة أسابيع قابلة للتجديد". كل هذا نفتقده في مكتباتنا، بما فيها تلك المحدَّثة تكنولوجيا بصورة "جيدة جدا".
بالعودة إلى حديثي مع السيدة نيكلسون، فقد سألتُها عما إذا كان الكتاب الإلكتروني قد أزاح الكتب الورقية وحل محلها، فأشارت إلى أن استخدام الكتب الورقية ما يزال كبيراً، وأن ثمة حاجة للتواصل مع خبراء وباحثين من خارج قطاع المكتبات، لاسيما في تخصص علم نفس القراءة لمعرفة ما يناسب القرّاء في هذا الصدد.
وعلى ذكر الكتب المطبوعة والإلكترونية، فقد جاءت إحدى جلسات القمة بعنوان "الكتاب الإلكتروني أم الكتاب المطبوع؟" كان من بين المتحدثين فيها آن ماجنين أستاذة مساعدة بالمركز الوطني لتعليم القراءة والبحث بجامعة ستافنغر بالنرويج، وهي عرضت لبعض الأبحاث التي أجريت على مجموعتين من طلاب المدارس بالنرويج أولاهما تعاملت مع كتب ورقية والأخرى مع كتب إلكترونية (لابتوب، آي باد، كِندل) وقد أظهرت النتائج تفوق المجموعة الأولى على الثانية على مستوى تحصيل النص، والتأثر الوجداني بالقصة والتعاطف مع شخصياتها والقدرة على استدعاء الروابط الزمنية بين الأحداث. ولا شك في أن القضية تحتاج إلى مزيد من الدراسات، لاسيما مع دخول الكتب المسموعة على الخط وهي تثير اهتمام الباحثين، لمعرفة مدى أفضليتها بالنسبة لتلك المطبوعة أو الإلكترونية.
على أية حال، من المفترض ألا يكون الحديث عن الكتب والمكتبات وتناول قضايا الكتاب في العالم العربي موسميّاً، أي مرتبطاً باليوم العالمي للكتاب أو بعقد مؤتمر دولي أو محلي أو بموعد إقامة معرض للكتاب في دولة عربية أو أخرى. فالقضية من الأهمية بمكان يجعلها جديرة بالطرح والتناول المستمرين.. وهل هناك قضايا أكثر أهمية من تلك المرتبطة بالوعي والعلم والثقافة؟