هوامش على دفتر "قمة الفرنكوفونية" تونس 2022

يبدو المشهد قاتماً على مستوى التعاون الاقتصادي بين الدول الفرنكوفونية، إلا بالنسبة لفرنسا المستفيدة الأكبر. ثم كيف يمكن الحديث عن فضاء مشترك وثقافة جامعة وروابط تاريخية في حين أن أغلب مواطني الجزء الأعظم من الدول الفرنكوفونية لا يمكنه الحصول على تأشيرة دخول لفرنسا؟ تكلّموا الفرنسية، لكن ابقوا في بلدانكم!
2022-12-06

شارك

"التحدي الحقيقي للفرنكوفونية اليوم هو أن تحمل مشروعاً لاسترجاع مكانتها، بل للمقاومة والصمود، حتى تجعل من الفرنسية لغة تحتضن الجميع كما كانت سابقاً، وتبرهن على إمكانية التحدث بالفرنسية - ليس بالضرورة في صيغتها الأكاديمية - في أي بلد من العالم، خاصة في القارة الافريقية التي تمثّل الفرنسية لغتها الجامعة". هكذا تحدث إيمانويل ماكرون أمام جمع من "سفراء الفرنكوفونية الشبان" التقاهم في جزيرة "جربة" التونسية بمناسبة انعقاد القمة 18 للمنظمة الدولية للفرنكوفونية في 19 تشرين الثاني/ نوفمبر الفائت. زيارة الرئيس الفرنسي دامت بضع ساعات فقط، لم يُلقِ خطاباً لكنه تحرك خلالها كثيراً والتقى بعدة شخصيات مشارِكة في القمة، أبرزها الرئيس التونسي قيس سعيّد. وككل "ضيف" (وإن كان يتصرف كمضيف بحكم طبيعة القمة وأهدافها) يفهم في أصول الضيافة، لم ينسَ عند المغادرة أن يُعلن منح فرنسا قرضاً لتونس بقيمة 200 مليون يورو.

تأتي قمة "جربة" في ظرف معقد عالمياً (آثار الكوفيد والأزمة الروسية - الأوكرانية) ومحلياً (الوضع السياسي في تونس). كما أن "الفرنكوفونية" لا تعيش أزهى أيامها، بل تعاني من انحسار وتهديدات جدية حتى في معاقلها، والدولة المضيفة للقمة خير مثال. كل هذه التعقيدات والهواجس ألقت بظلالها وحضرت بشكل مباشر أو ضمنياً ضمن أشغال القمة وبياناتها.

القمة التي تأجلت مرتين

كان من المفترض أن تحتضن تونس قمة الفرنكوفونية 18 في 2020 وأن تكون حدثاً متميزاً نظراً لتزامنها مع الاحتفال بخمسينية المنظمة الدولية الفرنكوفونية (تأسست سنة 1970). لكن مفسد البهجة، كوفيد-19، حال دون انعقادها في موعدها فتم تأجيلها للسنة الموالية. إلا أن "الزلزال" السياسي الذي عاشته تونس مساء 25 تموز/يوليو 2021 جعل قادة المنظمة يفضّلون التريث، فأعلنوا عن تأجيل القمة مرة أخرى وذلك "حتى يتاح لتونس أن تقوم بالتحضيرات اللازمة لهذا اللقاء الهام في أحسن الظروف".. كانت صيغة ديبلوماسية مهذبة للقول بأن هناك اعتراضات على احتضان تونس للقمة في ظل الوضع السياسي الجديد. ويبدو أن كندا ودولاً أخرى، وحتى شخصيات فرنكوفونية بارزة، ضغطت لسحب التكليف من تونس. لكن تونس، أو بالأحرى سلطة قيس سعيّد، تحركت ديبلوماسياً بشكل مكثّف في الأشهر الأولى من سنة 2022 وحظيت كذلك بدعم من فرنسا، الدولة الأكثر نفوذاً في المنظمة، فمُنحت فرصة ثانية خاصة بعد أن أعلن قيس سعيّد عن خارطة طريق للخروج من الوضع الاستثنائي الذي تعيشه البلاد.

تشبث سعيّد باحتضان تونس للقمة ليس تمسكاً بالفرنكوفونية بحد ذاتها أو سعياً لمنافع قد تدرها على البلاد، بل في الأساس بحثاً عن انتصار "ديبلوماسي" يبرهن لخصومه في الداخل أن الرجل ليس معزولاً دولياً وأن لا نية للدول الغربية الكبرى بأن تسعى لإضعافه أو الإطاحة به. والملاحظ أن رئيس الجمهورية ورئيسة حكومته وأنصارهما كانوا في الأشهر الأخيرة يحتفون بأي مشاركة لتونس في اجتماع دولي، حتى لو كان عادياً ودورياً غير ذي أهمية.. وبلغ هذا الانتشاء ذروته عند احتضان تونس لمؤتمر "تيكاد 8" (ندوة طوكيو الدولية للتنمية في إفريقيا) في آب/أغسطس 2022.

استمرت التحضيرات لمدة طويلة حتى تكون جزيرة "جربة" (محافظة مَدْنين، في الجنوب الشرقي للبلاد) جاهزة لاستقبال وفود 88 دولة وحكومة. لا نعرف حتى الآن كم أنفقت تونس بالضبط على تحضيرات القمة التي اعتبرت ناجحة من الناحية التنظيمية. المعروف هو رقمٌ عن تكلفة جزءٍ منها، حيث أكد المدير الجهوي للتجهيز والإسكان بمحافظة "مَدنين" أن الدولة رصدت حوالي 18 مليون دينار (ما يعادل 6 مليون دولار) فقط لتهيئة وتعبيد الطرقات وعمليات التنظيف والتشجير وإصلاح التنوير العمومي استعداداً للقمة. لا نعرف كم كلّف بناء "القرية الفرنكوفونية" ونفقات الإعاشة والإسكان والنقل واستئجار القاعات التي احتضنت اجتماعات وفعاليات القمة. لكن لا يهم، المهم أن تونس نجحت في تنظيم قمة لا طائل منها تقريباً.

"الزلزال" السياسي الذي عاشته تونس مساء 25 تموز/يوليو 2021 جعل قادة منظمة الفرنكوفونية يفضّلون التريث، فأعلنوا عن تأجيل القمة مرة أخرى وذلك "حتى يتاح لتونس أن تقوم بالتحضيرات اللازمة لهذا اللقاء الهام في أحسن الظروف".. كانت صيغة ديبلوماسية مهذبة للقول بأن هناك اعتراضات على احتضان تونس للقمة في ظل الوضع السياسي الجديد.

وركزت القمة على مسائل مثل الرقمنة واستغلالها في دعم الحضور الفرنكوفوني، ودور المرأة والشباب كدعائم للسلم والتنمية، وكذلك مسألة المواطنة والديمقراطية والحريات. وفي ختامها صادقت على جملة من النصوص السياسية والقانونية والتقنية تتعلق بالتعاون بين الدول الفرنكوفونية وشروط انضمام أعضاء جدد للمنظمة ودعم حضور الفرنسية في الدول الأعضاء واستراتيجية التعامل مع حالات الأزمة والخروج منها وتعزيز الأمن والسلم في الفضاء الفرنكوفوني. 

لم تغب الأزمة الروسية-الأوكرانية عن القمة ونقاشاتها، وتضمن البيان الختامي ("إعلان جربة")، إدانة لروسيا على الرغم من أن هذا الموقف لا يحظى بموافقة عدة دول أفريقية تربطها علاقات جيدة بروسيا، أو لا تريد أن يتم الزجّ بها في هذا الصراع الذي ما انفكت آثاره الاقتصادية تُثقل هموم القارة المنكوبة، حتى أنّ بعض القادة الأفارقة الحاضرين عبروا عن استهجانهم من التفاعل الغربي السريع مع النزاع في أوكرانيا مقابل تباطئهم ولا مبالاتهم عندما يتعلق الأمر بنزاعات وحروب في دول أفريقية. ولم يكن هذا "الحضور" الوحيد لروسيا في القمة، فخلال وجوده في "جربة"، أجرى الرئيس الفرنسي مقابلة مع قناة TV5 MONDE ردّ فيها على الاتهامات الموجهة لفرنسا حول استغلالها لصلاتها الاقتصادية والتاريخية بمستعمراتها السابقة لخدمة مصالحها، فقال: "هذا التمثل هو نتاج لحملات يغذيها الآخرون، وهي تندرج ضمن مشروع سياسي. لست ساذجاً. الكثير من المؤثرين وبعضهم يمر عبر شاشاتكم، يتلقون أجوراً من روسيا. نحن نعرفهم".

تشبث سعيّد باحتضان تونس للقمة ليس تمسكاً بالفرنكوفونية بحد ذاتها أو سعياً لمنافع قد تدرها على البلاد، بل في الأساس بحثاً عن انتصار "ديبلوماسي" يبرهن لخصومه في الداخل أن الرجل ليس معزولاً دولياً وأن لا نية للدول الغربية الكبرى بأن تسعى لإضعافه أو الإطاحة به.

انتهت قمة تونس بتثبيت الأمينة العامة الحالية، الرواندية لويز موشيكيوأبو، في منصبها لأربع سنوات قادمة وكذلك اختيار فرنسا لاحتضان القمة 19 سنة 2024.

الفرنكوفونية في العالم: فضاء ثقافي جامع أم أداة سياسية؟

ظهر مصطلح الفرنكوفونية أواخر القرن التاسع مع توسع رقعة الاستعمار الفرنسي في عدة مناطق من أفريقيا وآسيا والكارايبي والمحيط الأطلسي. ويرجع "الفضل" في صياغة هذا المصطلح للعسكري والجغرافي الفرنسي "أونسيم روكلو" Onesime Reclus الذي أورده في كتابه "فرنسا، الجزائر والمستعمرات" الصادر سنة 1886. لم يحظ مصطلح الفرنكوفونية برواج كبير وظل شبه مهمل تماماً إلى أن بُعث من جديد بعد نهاية حقبة الاستعمار الفرنسي المباشر، أي في ستينيات القرن الماضي. وهذه المرة كان أبناء المستعمرات هم من منحوا المصطلح حياة جديدة.. وتحديداً المفكر والشاعر "ليوبولد سيدار سنغور"، أول رئيس لدولة السنغال بعد استقلالها، من خلال مقاله "الفرنسية لغة ثقافة"، الذي نشرته مجلة Esprit المرموقة سنة 1962 في عددها المعنون "الفرنسية لغة حية"، حيث اعتبر أنّ "الفرنكوفونية هي هذه الإنسانوية الشاملة التي تنسج خيوطها عبر العالم"، ونظّر لفكرة "فرنكوفونية كونية" تحترم التنوع الثقافي وتَكون فضاءً للتعاون. "سنغور" كان من أول دعاة تأسيس هيكل يجمع الدول التي تعتمد الفرنسية كلغة رسمية أو ثانية وعبّر عن هذه الرغبة منذ سنة 1960. وحظيت دعوته آنذاك بدعم كبير من ثلاثة قادة لمستعمرات فرنسية سابقة: الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة ورئيس النيجر حماني ديوري وأمير كمبوديا نورودوم سيهانوك.

من المفارقات أنّ الدولة المعنية أكثر من غيرها بهذه الدعوة، أي فرنسا، لم تكن متحمسة كثيراً، على الأقل حسب موقف رئيسها آنذاك الجنرال شارل ديغول. هذا الأخير كانت لديه تحفظات على مأسسة الفرنكوفونية، فلقد ارتبط اسمه بفترة استقلال أغلب المستعمرات الفرنسية وكان يخشى أن يُنظر إلى مشاركة فرنسا في تأسيس منظمة للفرنكوفونية كمناورة استعمارية فرنسية جديدة، وكان يفضل دعم الفرنكوفونية بشكل غير مباشر وعبر اتفاقيات ثنائية. ويُذكر هنا أن تأسيس "منظمة الفرنكوفونية" في آذار/مارس 1970 أتى بعد أشهر قليلة من خروج "ديغول" من السلطة نهائياً (نيسان/ابريل 1969).

ركزت القمة على مسائل مثل الرقمنة واستغلالها في دعم الحضور الفرنكوفوني، ودور المرأة والشباب كدعائم للسلم والتنمية، ومسألة المواطَنة والديمقراطية والحريات. وفي ختامها صادقت على جملة من النصوص السياسية والقانونية والتقنية تتعلق بالتعاون بين الدول الفرنكوفونية، وشروط انضمام أعضاء جدد للمنظمة، ودعم حضور الفرنسية في الدول الأعضاء، واستراتيجية التعامل مع حالات الأزمة والخروج منها، وتعزيز الأمن والسلم في الفضاء الفرنكوفوني.

طيلة فترة السبعينات وحتى بداية الثمانينات لم تتطور كثيراً "المنظمة الدولية للفرنكوفونية" - التي كانت تسمى في البداية "وكالة التعاون الثقافي والتقني" ثم أصبحت في 1998 "الوكالة الحكومية الدولية للفرنكوفونية"، قبل أن تكتسب اسمها الحالي سنة 2005 - وبقيت أساساً ذات طابع ثقافي/تعليمي. لكن منذ قدوم الرئيس الفرنسي الأسبق "فرانسوا ميتران" إلى السلطة سنة 1981، بدأت المنظمة تشهد زخماً كبيراً وصارت إحدى روافع السياسة الخارجية لفرنسا، وتم دعمها بهياكل و"أسلحة" جديدة. في سنة 1984 وبإيعاز من وزارة الخارجية الفرنسية تمّ إحداث قناة TV5 التي ستتناسل لتصبح باقة من القنوات الموجهة لجمهور فرنكوفوني في القارات الخمس، وأعلن في 1987 عن تنظيم حدث رياضي دوري كبير "الألعاب الفرنكوفونية". أما الأهم فهو قرار المنظمة عقد قمة دورية لقادة الدول والحكومات الفرنكوفونية، احتضنت فرنسا نسختها الأولى في سنة 1986 وقد مثلت بداية التسييس المعلن والمهيكل للفرنكوفونية.

هذا التسييس سيأخذ أبعاداً أكبر بدءاً من أواسط التسعينيات، أي بعد تفكك الاتحاد السوفياتي والمعسكر الشرقي وحرب الخليج الثانية ودخول العالم عصر أحادية القطبية الأمريكية. كان لدى فرنسا ميتران ثم شيراك مخاوف كبيرة من التغول الأمريكي ليس فقط في أوروبا، بل في كامل أرجاء العالم بما في ذلك "حدائقها الخلفية" الأفريقية، وباتت ترى أن نفوذها في العالم مهددٌ، لذا أحدثت تغييرات هائلة في منظمة/منظومة الفرنكوفونية. وكانت الخطوة الأولى استقدام "لاعب محترف" ليعيد ترتيب الأمور ويحول المنظمة إلى كيان سياسي/ديبلوماسي بامتياز، يخدم بالدرجة الأولى المصالح الفرنسية: وزير الخارجية المصري والأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة الأسبق، بطرس بطرس غالي. انتخاب "غالي" في 1997 كأول أمين عام للفرنكوفونية لمدة خمس سنوات كان كافياً لإعطاء هوية جديدة للمنظمة. طغيان البعد السياسي على الأبعاد اللغوية والثقافية والتربوية سيظهر أكثر مع دخول الألفية الثالثة حيث انفتحت شهية المنظمة للانتشار في كل أصقاع الأرض، فراحت تسعى لاكتساب أعضاء وشركاء لا علاقة لهم تاريخياً بالفرنكوفونية. وهكذا أصبحت المنظمة التي انطلقت بمشاركة 21 دولة وحكومة تضم اليوم 54 عضواً و7 شركاء و27 مراقباً.

وحسب البيانات التي توردها "منظمة الفرنكوفونية"، نجد أن الفرنسية هي اللغة الخامسة الأكثر استعمالاً في العالم برصيد من المتحدثين يتجاوز الـ 300 مليون شخص بقليل. لكن هذه الأرقام والمراتب لا تحظى بالإجماع، وهناك تشكيك في صحة منهجية الإحصاء. فالأرقام المقدمة تشمل كل شخص يتقن حتى بضع كلمات وعبارات فرنسية ولا يستعملها أبداً في حياته اليومية. فلو تم إحصاء "الفرنكوفونيين" الذين يستعملون الفرنسية كلغة أم أو لغة ثانية بشكل يومي سنجد أنّ العدد سينخفض كثيراً.

لم يحظ مصطلح الفرنكوفونية برواج كبير وظل شبه مهمل تماماً إلى أن بُعث من جديد بعد نهاية حقبة الاستعمار الفرنسي المباشر، أي في ستينيات القرن الماضي. وهذه المرة كان أبناء المستعمرات هم مَن منحوا المصطلح حياة جديدة.. تحديداً المفكر والشاعر "ليوبولد سيدار سنغور"، أول رئيس لدولة السنغال بعد استقلالها

"جاذبية" فرنسا ووزنها السياسي-الاقتصادي في العالم يتناقصان باستمرار، وهي تعي ذلك جيداً وتحاول استنفار كل "أذرعتها" لوقف التقهقر واستعادة مكانتها. على المستوى اللغوي، لم تعد هيمنة الإنجليزية تحتاج لبراهين. على المستوى العسكري تتراجع قوة التأثير والفعل الفرنسيين في منطقة أفريقية استراتيجية، ألا وهي "الساحل وجنوب الصحراء". ففضلاً عن النفوذ الأمريكي، دخل الروس أيضاً على الخط بشكل مباشر أو عبر مرتزقة "فاغنر" في مناخ من الكره الشعبي لفرنسا والافتتان بروسيا ورئيسها. على المستوى الاقتصادي تعاني فرنسا منذ عقدين من دخول منافسين جدد إلى السوق الأفريقية: الصين وتركيا ودول خليجية. الجامعات الفرنسية والفرنكوفونية فقدت الكثير من ألقها. مثلا في ترتيب "شانغهاي" لأفضل 100 جامعة في سنة 2022 نجد 6 جامعات فرنكوفونية فقط ضمن القائمة: أربعة منها في فرنسا وواحدة في سويسرا وأخرى في كندا. أما على مستوى التعاون الاقتصادي بين الدول الفرنكوفونية فيبدو المشهد قاتماً إلا بالنسبة لفرنسا المستفيدة الأكبر. ثم كيف يمكن الحديث عن فضاء مشترك وثقافة جامعة وروابط تاريخية في حين أن أغلب مواطني الجزء الأعظم من الدول الفرنكوفونية لا يمكنه الحصول على تأشيرة دخول لفرنسا، وكذلك إلى سويسرا وبلجيكا وكندا؟ تكلموا الفرنسية، لكن ابقوا في بلدانكم!

"فرنكفونية" تونس ليست بأفضل حال..

تونس من الدول المؤسِّسة لمنظمة الفرنكوفونية، وكانت تُعتبر أحد أعضائها المؤثرين نسبياً خاصة في فترة حكم الرئيس الحبيب بورقيبة أحد آبائها المؤسِّسين الأربعة.

حسب مرصد الفرنكوفونية، تحتل تونس المركز الرابع عشر في ترتيب الدول التي تضم أكبر عدد من المتحدثين بالفرنسية، إذ يقدر عدد الفرنكوفونيين التونسيين بـ 6.1 مليون شخص. لكن يجب التعامل بحذر مع هذا الرقم، فهناك تفاوت كبير في مستوى اتقانهم للفرنسية ومدى استعمالهم لها، ويمكن أن نقول إنه في تونس هناك فرنكوفونية "العامةّ" وفرنكوفونية "الخاصّة" وفرنكوفونية "خاصة الخاصة". المستوى الأول يشمل الملايين من التونسيين الذين تلقوا حظاً من التعليم لا يتجاوز التعليم الثانوي في أقصى حد، درسوا الفرنسية لعدة سنوات ويستعملون بعض مفرداتها وعباراتها القصيرة في حديثهم اليومي لكنهم لا يستعملونها كلغة تواصل أو حتى كلغة وسيطة في "استهلاكهم" الثقافي والإعلامي. المستوى الثاني يشمل مئات آلاف الفرنكوفونيين "الجزئيين" الذين تلقوا تعليماً جامعياً ويشغلون وظائف تستعمل فيها الفرنسية بشكل كبير ولديهم تمكّن أكبر من اللغة نطقاً وكتابة وفهماً مما يعني استعمالها بشكل أكبر في حياتهم اليومية. أما المستوى الثالث فيشمل بضعة آلاف من التونسيين "الفرنكوفونيين" "الفرنكوفيليين"، المحبين للغة الفرنسية ولفرنسا وثقافتها والمدافعين بشدة عن مكانة الفرنسية في التعليم التونسي وضرورة حمايتها. عددهم قليل لكنّ تأثيرهم - وإن تراجع في العقدين الأخيرين – ما زال كبيراً بحكم المناصب السياسية والإدارية الرفيعة التي يشغلونها أو نظراً لمكانتهم في المشهدين الثقافي- الفني والإعلامي.

بعد استقلال البلاد في 1956، أصبحت العربية اللغة الرسمية الوحيدة (الفصل الأول من دستور 1957)، لكن الفرنسية لم تفقد الكثير من مكانتها في التعليم والإدارة والسياسة. كان أغلب حكام الدولة المستقلة الحديثة فرنكوفونيين أو مزدوجي التكوين، خاصة وأن بورقيبة عمل جاهداً على إزاحة النخب التقليدية ذات التكوين الديني القائم على اللغة العربية (خريجي التعليم "الزيتوني"- نسبة لجامع الزيتونة) باعتبارهم عائقاً أمام مشروعه "التحريري" و"التنويري". وإلى حدود أواخر سبعينيات القرن الفائت، ظلت الفرنسية قوية الحضور في التعليم الابتدائي ومهيمنة في التعليم الثانوي وشبه محتكِرة للتعليم العالي. لكن منذ ثمانينيات القرن العشرين، بدأت الدولة التونسية بتعديل الكفة قليلاً لصالح العربية، وتسارَع هذا المسار بعد ذلك، إضافةً إلى فسح مجال جديد للغة ثالثة وهي الإنجليزية.

كان لدى فرنسا ميتران ثم شيراك مخاوف كبيرة من التغول الأمريكي ليس فقط في أوروبا، بل في كامل أرجاء العالم بما في ذلك "حدائقها الخلفية" الأفريقية، وباتت ترى أن نفوذها في العالم مهددٌ، لذا أحدثت تغييرات هائلة في منظمة/منظومة الفرنكوفونية...

طغيان البعد السياسي على الأبعاد اللغوية والثقافية والتربوية سيظهر أكثر مع دخول الألفية الثالثة حيث انفتحت شهية المنظمة للانتشار في كل أصقاع الأرض، فراحت تسعى لاكتساب أعضاء وشركاء لا علاقة لهم تاريخياً بالفرنكوفونية. وهكذا أصبحت المنظمة التي انطلقت بمشاركة 21 دولة وحكومة تضم اليوم 54 عضواً و7 شركاء و27 مراقباً.  

الثورة التونسية في 2011 لم تكتف بإسقاط الديكتاتورية ومساءلة الاختيارات الاقتصادية-الاجتماعية الاستراتيجية للدولة التونسية، بل "نبشت" أيضاً مسألة العلاقات الخارجية وموقع تونس في العالم وهويتها وثقافتها الوطنية. بعد الثورة في 2011، أصبحت الفرنكوفونية محل جدل سياسي كبير بين الإسلاميين والعروبيين من جهة والحداثيين العلمانيين من جهة أخرى. ينعت المعادون للفرنسية المدافعين عنها بـ "أيتام فرنسا"، ويرون أنه قد حان الوقت إما لتعريب التعليم كلياً أو للاستعاضة عن الفرنسية بالإنجليزية، في حين يعتبر "الفرنكوفونوفيليون" أن الفرنسية هي أكثر من لغة، فهي حمالة لعدة قيم تنويرية وتحررية وأن التخلي عنها سيعود بالبلاد ونخبها إلى الوراء.

أصبحت الإنجليزية/الأنغلوفونية عموماً تمثّل تهديداً جدياً لثقل اللغة الفرنسية وللفرنكوفونية في تونس. هذه اللغة التي كانت تدرَّس في الثانوي خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الفائت، أصبحت تدرّس في الإعداديات منذ التسعينات تناسقاً مع سياق السيطرة الأمريكية على العالم وعصر "العولمة". بعد الثورة، كسبت الإنجليزية نقاطاً جديدة اذ أصبحت تدرّس في السنة السادسة الابتدائي ثم الخامسة، وحالياً ابتداءً من السنة الرابعة. كما أن بعض المؤسسات الجامعية المهمة مثل كليات الطب والهندسة بدأت في السنتين الأخيرتين تمنح طلبة بعض الأقسام الاختيار بين الدراسة بالفرنسية أو الإنجليزية.

اللغة الألمانية دخلت هي الأخرى على الخط، ليس للمنافسة كلغة ثالثة ذات انتشار واسع، بل استقطاباً للكفاءات، خاصة لخريجي مدارس المهندسين وكليات الطب والتمريض ورعاية المسنين، وبعض الحرفيين في الاختصاصات النادرة. ولوحظ في السنوات الأخيرة إقبال كبير من شباب تونسيين - وحتى كهول - على مراكز تعليم اللغة الألمانية للحصول على شهادات تكوين استعداداً للهجرة إلى ألمانيا. كما لعبت ألمانيا دوراً كبيراً في مرافقة "مسار الانتقال الديمقراطي" في تونس واستطاعت استقطاب عدد كبير من الناشطين الشباب في المشاريع والمنظمات التي ترعاها.

الألمانية ليست دخيلة تماماً على تونس، فمن جهة هناك أكثر من مئة ألف تونسي يعيشون في ألمانيا، ومن جهة أخرى شكل الألمان لسنوات طويلة أحد أهم محركات السياحة التونسية، إذ كانت البلاد تستقبل في بداية الألفية الثالثة قرابة مليون سائح ألماني سنوياً. كما أن الألمانية تدرّس كمادة اختيارية في السنوات الأخيرة من التعليم الثانوي، وتوفر عدة جامعات تكويناً أكاديمياً في اللغة والأدب الألمانيين. كل هذا يعني أنّ هناك عشرات - وربما مئات - آلاف التونسيين الذين يتقنون الألمانية بمستويات متفاوتة، لكن حضورها شبه معدوم في مجالات الإعلام والثقافة والسياسة، أي أنه ليس لها ثقل فعلي حتى الآن على الأقل.

هذه الظرفية من تراجع التأثير الفرنكوفوني في تونس وتنامي العداء الشعبي لفرنسا وسياساتها الهجرية، وكذلك الجدل العلمي/التقني المغلف بالأيديولوجيا - أو العكس - حول دور الفرنسية في التعليم التونسي، ربما كانت هي الأسباب التي شجعت منظمة الفرنكوفونية - وبالتالي فرنسا - على تكليف تونس - خلال قمة مدغشقر 2016 - باحتضان قمة الفرنكوفونية لعام 2020، كما أعلنت في العام 2018 عن قرارها فتح مكتب إقليمي للمنظمة في العاصمة التونسية.

***

الرابح الأول من قمة الفرنكوفونية ("جربة 2022") هو الرئيس التونسي الذي استطاع من جهة كسر العزلة "النسبية" والضغط الدولي بالعلاقة مع الوضع السياسي لتونس، مما يعزز سلطته ويسحب البساط من بعض معارضيه المراهنين على الخارج. طبعاً فرنسا تبقى دائماً وأبداً الرابح الأكبر من أي اشعاع للفرنكوفونية. لكن الوضع الحالي لا يمكن أن يدوم للأبد، فإما أن تصبح الفرنكوفونية السياسية فضاء للشراكة وتبادل المنافع القائم على الندية وفق قاعدة "الكل رابح" أو أنها آيلة إلى انحسار شديد فأفول. 

مقالات من تونس

للكاتب نفسه