حكاية شارع الثورة و"محمد" و"أحمد" و"محمود"

قتلوهم ثم ألقوا بهم قرب صناديق القمامة بميدان التحرير.. رأيتُ ذلك فقط عند عودتي للبيت.. وتأكدتُ أن هناك تفاصيلاً لم تنقلها حتى الصورة، وأنه في كل مذبحة شهادة ناقصة استعاض عنها الشهيد بدمه وحملها معه إلى رحلته الأخيرة. قالت أمه: "انتو الباقيين من ريحة أحمد.. هو كان شبهكم أنتم".
2022-12-01

منى سليم

كاتبة وصحافية من مصر


شارك
هدنة برعاية مشايخ الازهر الشباب

"ولكن الهزيمة لا تَنزع البطولة عن الثوار".

 ..
لا زالت "فيولا" تردد السطر نفسه داخل رواية "واحة الغروب" لبهاء طاهر التي لم أنسَ حملها يوماً ضمن مستلزماتي قبل النزول إلى الميدان خلال أيام المواجهة بشارع "محمد محمود" (1).
كانت الثورة التونسية قد علمتني ـ كغيري ـ أن أحمل في حقيبتي زجاجة خل، كمامات وعبوة من البيبسي لتخفيف أثر الغاز المسيل للدموع. وخلال أشهر قليلة تلت لحظة الفرح الاستثنائية، أورثتني الثورةُ المصرية الخوفَ.
ولهذا، لم أجد ما يساندني مثل قولك يا فيولا، وحاولت أن أنقله عنك للجميع. 

(2)
"كنت هناك ولم أرً بعيني كل ما حدث ولكنني الآن أحفظه عن ظهر قلب"

..
كلمة انتقلتْ هي الأخرى معي من مواجهة إلى أخرى، فمذبحة تفضي بنا إلى مذبحة، وإلى الآن لم أحضر المذبحة التي يمكن أن أقول إني رأيتها بالشكل الكافي، وغالباً ـ ومهما رأيت ـ لن أقولها إلا إذا كان الثمن هو الموت.. فعندها تسبق ضغطة القاتل على الزناد ضغطتك أنت على الكيبورد لتسجل كل ما رأيت.
لم أكن هناك في الليلة الأولى بينما سقط عشرات "الأسود" في محاولة منع "الدِيابة" (2) من اقتحام الميدان من جديد، ولكنني كنت أدرك من أنا وما لم تدركه عيني وأنا أسمع في كل مرة هتاف "اثبتْ" يأتي من بعيد من الصفوف الأمامية في الأيام التالية.

في منتصف اليوم الثاني، توقفنا عن تكسير الطوب من أجل الشباب وأمسكنا بأيدي بعضنا ونحن نجري بينما تصم آذاننا أصوات بيادات عساكر الجيش والرصاص من خلفنا.
لم أتمكن من الالتفات لأراهم كيف يحملون أجساداً لا زالت ساخنة لخمسة شهداء قتلوهم ثم ألقوا بهم قرب صناديق القمامة بميدان التحرير.. رأيتُ ذلك فقط عند عودتي للبيت، وتأكدتُ أن هناك تفاصيلاً لم تنقلها حتى الصورة، وأنه في كل مذبحة شهادة ناقصة استعاض عنها الشهيد بدمه وحملها معه إلى رحلته الأخيرة.

(3)
"اوعوا تنسوا أحمد يا منى"

..
لم يتوقف تواصلي مع تلك السيدة الجميلة التي آنست أمومتها منذ اللحظة الأولى لرؤيتي لها أمام عنبر 5 بمستشفى القصر العيني. كنت أسجل أسماء المصابين وهي تمرّ بجواري ملتاعة.. تهتف "أحمد".
مر عشرون يوماً قبل أن تتوقف أجهزة التنفس الصناعي وقياس النبض لتعلن الحياة رحيل "أحمد صالح" الذي كانت علاقتي بوالدته قد امتلأت بعشرات الحكايات الجميلة عنه، أسمعتني إياها خلال انتظاري معها على البلاط أمام العنبر كل صباح. أمام ثلاجة الموت كانت تحتضن كفي وكف سيدات وبنات لم تعرف كثيراً عنهنّ ولكن عرفت أنهنّ جميعاً يحملنَ داخل أرواحهنّ شارة "محمد محمود".
طلبت مني أن أخبر الشباب ألا يغضبوا من رفض أهل زوجها زفّ ابنها إلى ميدان التحرير وأن يبقوا معها لأن.. "انتو الباقيين من ريحة أحمد.. هو كان شبهكم أنتم".
مرت الأيام وجعلتنا غير متشابهين، نزلنا نجمع تواقيعاً تطالب برحيل "محمد مرسي" تحت اسم "تمرد"، فاتصلتْ بي مبكراً وقالت "أنا عارفة نيتكم بس بحق من أمات أحمد أوعوا تأمنوا للعسكر.. أوعوا تنسوا أحمد يا منى".
قالتها كثيراً، وفي يوم فضّ رابعة اتصلت بها وبكيتُ خجلاً، فقالت بقلب أمٍ وبثقةِ من تحمل نبوءةً: "القاتل واحد والدم واحد واحنا لسه ماخصلناش.. ما تقلقيش، ربنا كبير".
مات أحمد ـ الشهيد الـ 46 بأحداث محمد محمود ـ متأثراً برصاصة قسمت عموده الفقري، قال شهود العيان أنه كان هناك من يحدد علامة "ليزر" خضراء على أجساد الشباب ثم يُطلق النار.. هناك من قال الرصاصة جاءت من قوات الشرطة وهناك من قال الرصاصة جاءت من قوات الجيش.. كل ذلك تمت كتابته في بلاغ رسمي وحفظ لعدم كفاية الأدلة بتاريخ 14 كانون الثاني / يناير 2012.

(4)
"حائط الدم: 33 ورقة بيضاء تضم أسماء 416 مصاباً بينهما مجنّد واحد بجرح قطعي في الرأس!!"

..
هكذا لم أتمكن من الالتزام بتعليمات هيئة التحرير واختصار عنوان تقرير صحافي حول الإصابات التي تصل مستشفى القصر العيني مباشرة من شارع محمد محمود. لم يكن من الممكن أن يكون غير ذلك، حتى لا تُجرح الحقيقة.. حتى لا يسيل الزيف من الورق الأبيض.
حقيقة تم تعليقها ـ كجداول إعلان نتيجة الثانوية العامة ـ على مدخل باب الطوارئ بـ "القصر العيني" أثبتت أن جرحاً واحداً في رأس مجنّد الأمن المركزي "رامز مجدى يوسف" قابله 415 إصابة بصفوف الثوار.
"الاسم ـ السن ـ نوع الإصابة ـ تاريخ الإصابة" هكذا تم تقسيم البيان الإحصائي المعنون بـ"كشف استقبال الحالات خلال الأحداث من يوم 19- 22 نوفمبر". ووفقاً له، وصل في اليوم الأول 67 مصاباً وارتفعت الأعداد في اليوم الثاني إلى 139 مصاباً، ثم 205 مصابين في اليومين الثالث والرابع.
الإصابات أغلبها بطلق حي (ناري وخرطوش) في العين والرأس، فضمت عنابر 12، 14، 16 الخاصة بالرمد 40 مريضاً في كل منها، واستقبل عنبر 5 (استقبال جراحة) ما يقارب 30 حالة.
ازدادت في اليوم الثاني حالات الاختناق الشديد التي انتهت باستقرار 10 حالات داخل "مركز السموم" بالمستشفى في حالة تشنج وهياج أعصاب.

 وفي اليوم الثاني نفسه، سجل البيان 5 حالات تهشم بالجمجمة وكسر بالعظام نتيجة الضرب المبرِح الذى تمّ على يد مجندي الشرطة العسكرية خلال المحاولة الفاشلة لفض الاعتصام.
حسب البيان جاء اليوم الرابع أكثر دموية (وهو اليوم الذي أطلقت فيه الشرطة وابلاً من الرصاص بعد خداعها للثوار بعقد هدنة وهمية لمدة ساعتين كانت حتى وصول مدد جديد من الذخيرة)، فكانت الحصيلة مع أذان المغرب 13 إصابة حرجة بالرأس والصدر بطلق ناري.
لم يشمل الكشف إصابات اليوم الخامس (الأربعاء 23 تشرين الثاني/ نوفمبر)، لكن سجلته البيانات الرسمية للأحزاب التي أثنت على نجاح دعوة شيوخ الأزهر إلى عقد هدنة وعمل حائط بشري بين الشرطة والثوار حوالي الساعة الثانية عشر ظهراً. ولكن كانت الساعات القليلة السابقة لهذه اللحظة كافية لإسقاط 13 شهيداً.

حائط دم "القصر العيني" هو واحد من عشرات شملتها المستشفيات المصرية، فأعلنت وزارة الصحة رسمياً وصول عدد المصابين إلى 1760 جريحاً، بينما حملت أوراق "مشرحة زينهم" اسم 46 شهيداً.

(5)
"الشرطة انسحبت.. ع الميدان".

..
لا زلت أذكر الهتاف، بعدما تعززتْ الهدنة الأزهرية بوصول قوات من الجيش ووضع حواجز وأسلكة شائكة. كانوا عائدين على الرغم من الموت والنزف، بكبرياءٍ مقاتل وفرحة المنتصر.
ولكن لم يمر أكثر من شهر حتى تجدد القتل في محيط مجلس الوزراء برصاص الجيش هذه المرة. ومن يومها لم يتوقف القتل عن التجدد.

كان الشهيد الأول بشارع محمد محمود هو الشاب "أحمد محمود" (23 سنة)، ولا يزال شاب صغير اسمه "محمود محمد" معتقلاً بتهمة ارتداء تي شيرت مكتوب عليه "وطن بلا تعذيب".
وهكذا ما بين كل من "محمد" و"أحمد" و"محمود" لا زالت مئات القصص يقترفها الظلم يومياً لتُحكى بأيام أخرى.. علًه يأتي ـ يوماً ما ـ يومٌ سعيد.

(6)

"اضرب في غاز.. اضرب رصاص.. جلينا م الموت ما بقاش بنخاف خلاص"
19 تشرين الثاني/ نوفمبر
إنه يوم الذكرى.. فدعنا نُحيّيها وتبكينا.

______________________

نشر هذا المقال أول مرة في جريدة "البداية" الإلكترونية بتاريخ 19 تشرين الثاني/ نوفمبر 2015
http://albedaiah.com/articles/2015/11/18/100749 

______________________

1- الشارع على اسم رئيس للوزراء لمرات عديدة في العهد الملكي. يقع بالقرب من "ميدان التحرير" ووزارة الداخلية ومباني الجامعة الامريكية في القاهرة. شهد مواجهات دموية وقمع عنيف في انتفاضة 2011 سقط جراءها آلاف الضحايا على امتداد عدة أيام.   
2- جذرها "ديب" 
    

مقالات من مصر

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

في مصر يمكنك فقط الاختيار بين سجن صغير وآخر أكبر

إيمان عوف 2024-12-09

تحوّل القانون رقم (73) لسنة 2021، الذي يتيح فصل الموظفين المتعاطين للمخدرات، إلى أداة لملاحقة العمال والنشطاء النقابيين العماليين، والنشطاء السياسيين والصحافيين. وعلى الرغم من اعتراض النقابات والجهات الحقوقية على...

للكاتب نفسه

عيش.. حرية.. إلغاء الاتفاقية!

منى سليم 2024-03-29

هل يستقيم ألا تغيِّر الحرب على غزة موازين الأرض؟ أو لا يصير الى صياغة برنامج سياسي مصري ينطلق من إلغاء هذه معاهدة كامب ديفيد، وأن يكون ذلك ركيزة للتغيير الجذري...