شجرة معرفة على كوبري قصر النيل

خلال سنوات عمله في هذه المكتبة الفريدة، صار زبائنه يعرفونه باسم "خالد قصر النيل"، نسبة إلى الجسر الذي تقع بجانبه المكتبة. فرادتها تكمن في هيئتها وموقعها وصمودها الطويل، حيث ترتص مئات الكتب حول جذع شجرة "فيكس" معمرة.
2022-11-24

لطف الصَّرَاري

قاص وصحافي من اليمن


شارك
"شجرة المعرفة"، تصوير محمد الصراري

بدأ خالد منذ تسعينيات القرن العشرين الفائت بإدارة مكتبته الرابضة حول جذع شجرة. كان لا يزال طالباً في الجامعة، أحب الكتب كما يليق بشاب متطلع للمعرفة صادف أن أباه كُتبياً. بحث عن الجديد والقديم منها وشكّل قاعدة زبائن من فئات قُرّائية مختلفة، لكنه ليس راضياً اليوم عما آلت إليه حاله.

خلال سنوات عمله في هذه المكتبة الفريدة، صار زبائنه يعرفونه باسم "خالد قصر النيل"، نسبة إلى الجسر الذي تقع بجانبه المكتبة. فرادتها تكمن في هيئتها وموقعها وصمودها الطويل، حيث ترتص مئات الكتب حول جذع شجرة "فيكس" معمرة. لا يألو خالد جهداً في توفير أي كتاب يطلبه زبون مما لا يتوفر حول الجذع الذي نجا من التحول إلى ورق أو خشب وقود منذ ما يقارب خمسين سنة. لقد رعى والده هذه الشجرة منذ أن كانت غضة، وبعد أن مدّت جذورها في النيل، لم تعد بحاجة لمن يمدها بالماء بقدر حاجتها للكتب. وهكذا صارت أقرب إلى أن تكون شجرة معرفة منها إلى شجرة زينة. في الواقع، هي ليست شجرة واحدة بل ثلاث وليس بينهن أنثى كما يقول خالد، وكما تدل أوراقها العريضة. جذوعها بالكاد تفصل بينها سنتيمترات قليلة، ولتوفير مساحة أكبر للكتب، اضطر خالد لقص جذع إحداهن من مستوى التربة المعبأة في مستوعب من أحجارالجرانيت الصقيل.

لا يعرف خالد من الذي زرع هذا الثلاثي العنيد من شجر الفيكس، لكن موقعها عند طرف الجسر يفيد بأن عاملاً مجهولاً في مجلس تحسين المدينة هو من فعل ذلك في أواخر سبعينيات القرن العشرين أو مطلع الثمانينيات على أكثر تقدير. عمرها بذلك يقترب من عمر تمثال سعد زغلول المنتصب على ارتفاع يتجاوز العشرة أمتار، متوسطاً المسافة بينها وبين البوابة الشرقية لدار الأوبرا. ليس بعيداً عن ذلك زمنياً، بداية حكم الرئيس محمد حسني مبارك. لكن اللوحتين التعريفيتين بالجسر لا تتضمنان اسم الرئيس الذي أطاحت به ثورة 25 كانون الأول/ يناير 2011. إحدى اللوحتين المغروستين على أرضية من الجرانيت الصقيل أيضاً، تتضمن إعلاناً عن "مشروع تطوير وتجميل" الجسر، تمّ وضعها في آذار/ مارس 2017.

"شجرة المعرفة"، تصوير محمد الصراري

 تاريخ الجسر بتفاصيله مثير للاهتمام، لكن هذه قصة خالد قصر النيل وليست قصة الأميرة نازلي هانم- ابنة محمد علي الكبير- وقصرها الذي صار مكانه مبنى جامعة الدول العربية. قصة واحد من المصريين الذين أسهموا في تشكيل الحياة الثقافية في مصر من موقعهم في الهامش غير المثير لفضول الاستكشاف، وهو الموقع الذي يحزّ في نفس خالد أن يعتبره الجهاز الإداري للدولة ضمن فئة الباعة المتجوّلين. يقول بنبرة صوته الهادئ: "لي طلب من وزارة الثقافة، أن تنظر إلينا وتدعمنا لنشكّل نقابة مهنية تؤمّن علينا، لأننا يُنظر إلينا بنظرة دونية من الدولة".

كان نجيب محفوظ يأتي كل جمعة إلى زاويته في "كازينو قصر النيل" المجاور لشجرة خالد المعرفية: "كان يشرّفنا كل جمعة ويطّمن عليّ وعلى أحدث الإصدارات"، وارتسم على وجهه ارتياح من ذلك النوع الذي يبقي الحياة ذات معنى وجديرة بالعيش.

 ورث خالد هذه المكتبة عن والده، وبعد "عشرة عُمر" مع الكتب والمكان، يتفادى توريثها لأحد من أولاده. قال إنه لا يحب لأحد منهم أن يذوق "البهدلة" التي لاقاها في حياته كبائع كتب. هل أخطأ خالد في اختيار المهنة المناسبة لقدراته وشغفه، أم أن حياة الكتب ليست كما تبدو في الأغلفة الأنيقة والجاذبة أو في العبارات المكتوبة بعذوبة مياه منابع النيل؟ لا يحب خالد التحدث كثيراً، ومؤخراً صار أكثر عزوفاً عن الكلام في المشهد الثقافي وفي الشأن العام. توقف عن قراءة الكتب منذ أن داهمته جلطة دماغية في العام 2019، ما زال إلى اليوم يعاني آثارها. الكتاب الوحيد الذي يداوم على قراءته هو "كتاب الله"، وهو يختمه كل عشرة أيام، ملتمساً الطمأنينة من إعادة قراءته ثلاث مرات في الشهر. هكذا تمضي حياته في زمن تزداد صعوبته عليه مع استمرار آثار الجلطة التي تجعل الرجل الخمسيني يقترب من شيخوخة مبكّرة. مع ذلك، لم تغب ابتسامة خالد، وما ناله منه المرض ومشقة الحياة لم يصل إلى درجة إقعاده بدنياً، والأهم من ذلك، احتفاظه بروح قوية تُمكّنه من مقارعة صروف الدهر.

ما من شك في كون هذا الكُتبي المحتفظ بعزيمته قادراً على التعرف على وجوه المئات من زبائنه. فبعد سبعة عشر عاماً من لقائي الأول به سنة 2005، لم يجد صعوبة في التعرّف عليّ شكلاً، وإن كان ينسى الأسماء، فليس جميع الناس لديهم هذه الموهبة على أية حال. في هذا السياق، يتذكر خالد أبرز الشخصيات الأدبية والفكرية الذين مروا على مكتبته. "هذا المكان جعلني أتعرف على أشخاص من جنسيات جميع الدول العربية ومعظم الدول الأجنبية." قال في رسالة استدراكية لحديثنا وهي خالية من الأخطاء الإملائية بما يعكس خبرته الطويلة مع الكتب. عندما تذكّر أن نجيب محفوظ كان يأتي كل جمعة إلى زاويته في كازينو قصر النيل المجاور لشجرة خالد المعرفية، ارتسم على وجهه ارتياح من ذلك النوع الذي يبقي الحياة ذات معنى وجديرة بالعيش. "كان يشرّفنا كل جمعة ويطّمن عليّ وعلى أحدث الإصدارات". واستدعت ذاكرته عصريات الجمعة في زمن نجيب محفوظ، وأوقات أخرى كان يزور مكتبته فيها محمد حسنين هيكل وجابر عصفور وجمال الغيطاني وفرج فودة وأنيس منصور وأشرف العشماوي ويوسف القعيد. "لا زال مفكرين يتابعونني من البلاد العربية والمصرية"، أضاف بروح من عركته حياة الثقافة والأدب ليصبح مواطناً كونياً دون أن يفقد انتماءه وحبه لوطنه الأم - "أم الدنيا" - مثله مثل أولئك الكبار الذين عرفهم وتعامل معهم.

ورث خالد عن والده المكتبة، الذي رعى قبله هذه الشجرة منذ أن كانت غضة. وبعد أن مدّت جذورها في النيل، لم تعد بحاجة لمن يمدها بالماء بقدر حاجتها للكتب. وهكذا صارت أقرب إلى أن تكون شجرة معرفة منها إلى شجرة زينة.

هي قصة واحد من المصريين الذين أسهموا في تشكيل الحياة الثقافية في مصر من موقعهم في الهامش غير المثير لفضول الاستكشاف، وهو الموقع الذي يحزّ في نفس خالد أن يعتبره الجهاز الإداري للدولة ضمن فئة الباعة المتجوّلين.

لا يزال خالد قصر النيل يذهب كل صباح إلى شجرة المعرفة خاصته، يزيل الأغطية الواقية من المطر والشمس، مفسحاً للكتب التنفس في الهواء الطلق واجتذاب قرائها، ثم يستعد للدخول وسط الأمواج التي يصارعها المشهد الثقافي في مصر والبلدان العربية. مكابدته للمشهد مرتبطة بلقمة العيش، وأي ارتباط أكثر من هذا يجعل المرء في وسط العواصف! لذلك يلوذ بائع الكتب المثقف بالتعبّد والعمل، في تناوب يحفظ له توازنه في يومه وليلته. يستقبل الظهر بربع ساعة، ثم يؤذن في المصلى الذي يجتمع فيه المصلون من رواد المكان في التوقيت نفسه وبعض عمال الكازينو الذي يجري تجديده. عند الساعة السابعة مساءً، يعيد خالد الأغطية الواقية على كتبه ويأوي إلى عائلته، ملتمساً الطمأنينة من قضاء الوقت معها ومع برنامجه التعبّدي اليومي. ولم يكن هذا برنامجه اليومي قبل المرض، حيث كانت المكتبة تبقى مفتوحة للزوار طيلة 24 ساعة. 

مقالات من مصر

للكاتب نفسه

حلم أمريكا المتجدد: إضافة سقطرى إلى سلسلتها النارية العابرة للمحيطات

تمضي المواجهة العسكرية في المياه البحرية لليمن بوتيرة بطيئة نوعاً ما، لكن إيقاعها غير المتسارع، ينذر بتحوّلات جذرية لصراع القوى الإقليمية والدولية المتنافسة على النفوذ في مضيق باب المندب، الذي...