بنت الريف تغادر قسراً حلم "الطبيبة"

تنازلت "ملك" وصديقاتها، ككثيرات غيرهنّ، عن الحلم، وتعلقنَ بحلمٍ آخر فيه كثير من البهجة والإجلال. ولكن تبقى الغَصّة المتعلقة بالاضطرار والذي تأتي في مقدمة أسبابه الظروف الاقتصادية. ففي البلد الذي لا يزيد الحد الأدنى للأجور فيه عن 3000 جنيه (125 دولار)، والذي تدهورت فيه منظومة التعليم، لا تقل تكلفة الالتحاق بالتعليم الثانوي عن 1000 جنيه شهرياً لتلقي الدروس الخصوصية التي لم يعد من الممكن تجنبها.
2022-11-24

منى سليم

كاتبة وصحافية من مصر


شارك
وقفة احتجاجية لطلاب تمريض كفر الشيخ

"ملك" وصديقاتها، ثلاث صبايا جميلات، تكبر أحلامهنّ وتتبدل داخل ثلاث قرى صغيرة تتبع مدينة "قلين" التي يغلب عليها الطابع الريفي بمحافظة كفر الشيخ في دلتا مصر. لم تغادر أيٌّ منهنّ المحافظة أبداً، لكنّ الأحلام تبّدلت ثم تجددت على الرغم من قلة سنوات أعمارهنّ التي لم تتخطَ الـ 17 عاماً بعد.

تحلم "ملك" بالعيش في القاهرة والعمل تحديداً في مستشفى 57357 لعلاج الأطفال من مرض السرطان، لكن ليس كطبيبة كما كان حلم الطفولة المتكرر الذي طالما رددته عليها الأسرة فأحبّته وارتبطت به، وإنما كـ"ممرضة" مميزة. يأتي ذلك بعد أن قررت على الرغم من حصولها على مجموع عالٍ جداً قبل عامين بنهاية المرحلة الإعدادية (279 /280) ، أن تتبنى وجهة نظر والدتها وأن تُشفِق على ظروف والدها وتحاول تأمين مصيرها بمهنة شبه مضمونة وثابتة. وقالت: "مبسوطة إني هاعرف أساعد طفل جميل مريض".

في زيارة خاصة للمدينة، وعلى مدار أيام، رافقتهنّ على طول الطريق الصباحي الأخضر إلى مدرستهنّ، والتقينا تحت ضوء القمر على طرف أرض زراعية، وفي حضرة المقرمشات والتسالي. كانت لقاءات قصيرة لا تعرف التكلف ولا يفارقها الخوف، تضم القليل الكافي من مخزون الشغف والكثير القاسي من انعكاسات الصلف. قيودٌ ضاغطةٌ هناك وهناك، عليهنّ وعلى أخريات رغم اختلاف السن والمستوى الاقتصادي والاهتمامات... مشانق متدلية تدركها صاحباتها حيناً وتغفل عنها أحياناً كثيرة، وكأنّ الأقدار تدير معادلاتها معهنّ بما يخفف وزر كل حرمان ويسمح بمرور الفرح، فتتشكل حياة.

المرور بين الحلم والمشنقة

الفقر مشنقة، جهل الأهل مشنقة، العرْف كوصايةٍٍ ضاغطةٍ أكثر منها حاضنة مشنقة، سطوة التدين وما يفرضه من إلزامٍ مشنقة، مقاييس الجمال مشنقة، انحسار منابع الثقافة وتآكل الرغبة في الاطلاع مشنقة، الوقوع في براثن السطحية ومسخ الطموح مشنقة، شبح العنوسة مشنقة... مشانق تتدلى، لا تدرك كثيرات منهنّ أثرها الصعب على واقعهنّ وما فعلته بأرواحهنّ طالما أن الأيام تمرّ، خاصةً إذا منحتهنّ الحياة أشخاصاً كراماً، سواء في بيت الأهل أو الزوج. ثم تتجسد المعاناة كاملة، معاناة الإدراك، حين يحضر الألم وتضطر إحداهنّ للمرور بتجربة قاسية تتجلى فيها أشكالٌ متعددةٌ من الحرمان والاستغلال والاستهانة دون قدرة حقيقية على درء الضرر.

إحدى تلك التجارب بكل تأكيد هي اضطرار فتاةٍ صغيرةٍ متفوقة دراسياً للتنازل عن حلم الخروج للنهار، الشب عن الطوق، والحصول على فرصة عادلة في الالتحاق بالمدرسة الثانوية ومن بعدها بإحدى الكليات ـ التي يتم وصفها في مصر بـ "كليات القمة" ـ ومن بينها بكل تأكيد "كلية الطب" التي تتلاقى مع حلم السنوات الأولى حين كان يدللها جميع الأقارب بكلمة "دَكتورة" ونطقها باللهجة "الفلاّحي".

تنازلت "ملك" وصديقاتها، ككثيراتٍ غيرهنّ على مدار السنوات العشر الأخيرة ـ وفق أقل تقدير ـ عن الحلم مستبدلاتٍ إياه بحلمٍ آخر فيه كثيرٌ من البهجة والإجلال، ولكن تبقى الغَصة المتعلقة بالاضطرار والذي تتعدد أسبابه، ويأتي في المقدمة منها بلا شك ضغط الظروف الاقتصادية. ففي البلد الذي لا يزيد الحد الأدنى للأجور فيه عن 3000 جنيه مصري (125 دولار)، وتدهورت فيه بدون حدود منظومة التعليم، لا تقل تكلفة الالتحاق بالتعليم الثانوي للطالب/ الطالبة عن 1000 جنيه مصري شهرياً من أجل تلقي الدروس الخصوصية التي أصبحت ضرورة في ظل الحضور الشكلي للمدارس الرسمية.

حصلنَ على الدرجة العالية، مؤشر التفوق، على الرغم من شبهات انتشار ظاهرة الغش بالمدارس المصرية، وتقدمن بأوراقهنّ إلى مدارس التمريض في محاولة للتمسك بـ"اللون الأبيض" بين المهنة والحياة، ثم تبدأ الحكمة وآيات الرضا تتردد تلقائياً على لسان الفتاة تأثراً بألسنة من حولها: هي مهنة محترمة ومضمونة وبراتب ثابت يزيد جنيهات قليلة عبر الأيام، كما أنها لا تعطل فرصة الفتاة أو تجازف بدورها في الوصول لثوب الزفاف عبر زيجة متوسطة منطقية تتماشى وظروف الحياة وطبيعة العروض داخل المدينة البسيطة التي تتطابق مع القطاع الأوسع من المدن والقرى المصرية.

طريق الوصول

سألتهنّ على الطريق وفي الجلسات، عن كل ما سبق .

حكت "منّة عن تجربتها في تسجيل نفسها أولاً في المدرسة الثانوية، ولكنها فوجئت بوصول تكلفة الدروس الخصوصية في الشهر الواحد إلى 1200 جنيه بينما لا تزيد مصروفات العام الواحد في التمريض عن 600 جنيه، أما "حسناء" فتحدثت عن حبها لتلك المهنة واختيارها لها عن قصد لا كبديل، لعل ذلك يعود لتجربة خالتها التي تخرجت من المدرسة نفسها قبل سنوات ثم التحقت بكلية التمريض وترقت كثيراً في عملها داخل إحدى المستشفيات الخاصة بالمدينة. أضافت: "أحببتُ فكرة أن يدعو لي مريض أو أهله بالخير إذا ما أخلصت في مساعدتهم عبر عملي، فالطبيب يزور المريض داخل المستشفى مرة أو اثنتين فقط خلال الأسبوع بينما تبقى الممرضة على اتصال دائم به".

تضطر فتاة صغيرة متفوقة دراسياً للتنازل عن حلم الخروج للنهار، الشب عن الطوق، والحصول على فرصة عادلة في الالتحاق بالمدرسة الثانوية ومن بعدها بإحدى الكليات، التي يتم وصفها في مصر بـ "كليات القمة"، ومن بينها بالتأكيد "كلية الطب" التي تتلاقى مع حلم السنوات الأولى حين كان يدللها جميع الأقارب بكلمة "دَكتورة" وينطقونها باللهجة "الفلاّحي".

الفقر مشنقةٌ، جهل الأهل مشنقةٌ، العُرْف كوصايةٍ ضاغطةٍ أكثر منها حاضنة مشنقةٌ، سطوة التدين وما يفرضه من إلزام مشنقةٌ، مقاييس الجمال مشنقةٌ، انحسار منابع الثقافة وتآكل الرغبة في الاطلاع مشنقةٌ، الوقوع في براثن السطحية ومسخ الطموح مشنقةٌ، شبح العنوسة مشنقةٌ... مشانق تتدلى، لا تدرك كثيرات منهنَّ أثرها الصعب على واقعهنَّ وما فعلته بأرواحهنَّ طالما أنّ الأيام تمرّ.

تقول "ملك" أن الدراسة في التمريض ليست هينة كما يتوقع البعض، بل تعتمد على دراسة الأحياء وعلم التشريح. نشعر كأننا في محاضرات من كلية الطب إضافةً إلى التزامنا بالتدريب العملي على مدار خمس سنوات من أجل التخرج بلقب "مساعد ممرض"، ثم يحق لنا بعدها الالتحاق بكلية "التمريض" التي تشترط هي الأخرى امتحانات قبول مكثفة. تحلم بالالتحاق بالكلية وبتطوير لغتها الأجنبية للتمكن بعد الزواج من السفر للخارج أو العمل في مشفى خاص.

أرقام وبيانات

يتلاقى ما سمعناه كثيراً مع القصة-الخبرية التي شغلت الرأي العام قبل أشهر عند إعلان الفتاة "علا رفعت"، وهي الأولى على محافظة البحيرة، دخولها كلية التمريض لتخفيف المصروفات عن والدها. وقد انتهى الأمر بإعلان أحد رجال الأعمال ـ عبر الجريدة ـ عن تكفّله بمصروفات انضمامها للثانوية العامة، ويبقى السؤال: ماذا لو؟

كما يتلاقى مع موجة الشكاوى التي وصلت إلى تنظيم وقفة أمام وزارة التعليم العالي هذا العام احتجاجاً من طالبات وطالبي مدارس التمريض الراغبين في التقدم لكلية التمريض بعد أن قاموا بنشر نماذج امتحانات القبول التي وصفوها بشديدة الصعوبة، في محاولة لتقليل عدد الملتحقين في ظل ارتفاع عدد المتقدمين.

"التمريض مهنة سامية ولكن الأمر يتعلق بعدالة الحق في التعليم. المتفوقات والمتفوقون بشكلٍ خاص يستحقون اهتمام الدولة ورعايتها على غرار مدارس المتفوقين قديماً، والتي للأسف تنتهي كل محاولات تطبيقها بسبب اشتراطات مالية عالية، إضافة لأسباب اجتماعية، خاصةً في الريف".

وقد وصل عدد مدارس التمريض ـ بعد الإعدادية ـ على مستوى الجمهورية إلى 400 مدرسة في 17 محافظة، ووصل عدد خريجي مدارس التمريض في عام 2021 وحده إلى ما يقارب 21 ألف طالب/طالبة. ويتم تنظيم عملية الالتحاق وفق جدول زمنيّ طبقاً لأعلى المجاميع، فتستقبل مديريات الصحة أوراق الحاصلين على مجموع 280 (الدرجة الكاملة بالإعدادية) حتى 275 لمدة 3 أيام، ويستمر التدرج حتى استيفاء العدد المطلوب مع اشتراط ألا يزيد عدد الطلاب المسجلين في الفصل الواحد عن 30 طالباً.

هذا وقد جاء "تنسيق تمريض" محافظة كفر الشيخ هذا العام على سبيل المثال في المركز الأول على مستوى الجمهورية بحد أدنى للقبول عند مجموع 255 نقطة بينما لم يزد الحد الأدنى للقبول بمدارس الثانوية العامة على مستوى الجمهورية عن 235 بينما وصل عدد من خاضوا الامتحان النهائي العام الماضي إلى 674 ألفاً و 900 طالب وطالبة.

يتلاقى ما سمعناه كثيراً مع القصة-الخبرية التي شغلت الرأي العام قبل أشهر عند إعلان الفتاة "علا رفعت"، وهي الأولى على محافظة البحيرة، دخولها كلية التمريض لتخفيف المصروفات عن والدها. وقد انتهى الأمر بإعلان أحد رجال الأعمال ـ عبر الجريدة ـ عن تكفّله بمصروفات انضمامها للثانوية العامة.

الرسوم البيانية التالية هي محاولة لرصد دلالات وترجمة هذا الحجم من التباين. فمدراس التمريض التي لا تحصد ما يزيد عن 0.06 في المئة من إجمالي المتقدمين للالتحاق بالمدارس بعد المرحلة الإعدادية، تحتل في الوقت ذاته المركز الأول في تنسيق القبول (إحصاءات مركز "قلين" مثالاً) / دون أن يسمح ذلك لطلابها بامتلاك الفرصة في المستقبل للاختيار بين عدد من "كليات القمة" وفق التعبير الدراج في مصر، وعلى رأسها بالتأكيد كلية الطب.

التكيف هو أحد المفردات التي اختارتها الخبيرة التعليمية "مي جمال الدين" للتعليق على هذا الإقبال الكبير على مدارس التمريض. وأضافت خلال حوارنا معها: "التمريض مهنة سامية، ولكن الأمر يتعلق بعدالة الحق في التعليم. المتفوقات والمتفوقون بشكلٍ خاص يستحقون اهتمام الدولة ورعايتها على غرار مدارس المتفوقين قديماً، والتي للأسف كل محاولات تطبيقها تنتهي باشتراطات مالية عالية، إضافة لأسباب اجتماعية خاصةً في الريف". تكمل: "شهدت مصر على مدار السنوات العشر الماضية عودة مدارس المتفوقين والمتفوقات التي طالما شهدتها البلاد على مدار ما يزيد عن خمسين عاماً، وتوقفت في بداية سبعينات القرن الماضي. لكنها للأسف عادت في صورة شكلية، تتضمن الكثير من أسباب العرقلة بدلاً من طرح التسهيلات، حيث يتم اشتراط امتحانات قبول شديدة الصعوبة وبشكل خاص بما يتعلق باللغة الأجنبية، وهو ما يترتب عليه انضمام طلبة المدارس الأجنبية ممن يقومون بدفع مصروفات عالية، بينما تتضاءل النسبة المقررة لخريجي المدارس الحكومية ممن يحق لهم وحدهم الإعفاء من الرسوم الدراسية".

..

إنها الحياة تعيد خلق وتشكيل الأحلام وفق مقتضيات الواقع بينما هناك فتاة معافرة أو صبي معافر يحاولون في ظل ظروف عامة ضاغطة، المرور نحو حياة ليست بالضرورة رغدة لكن يتوفر فيها الشرط الأهم والأول وهو امتلاك صاحبها / صاحبتها لأغلب مفاتيح إدارتها. 

مقالات من مصر

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

للكاتب نفسه

عيش.. حرية.. إلغاء الاتفاقية!

منى سليم 2024-03-29

هل يستقيم ألا تغيِّر الحرب على غزة موازين الأرض؟ أو لا يصير الى صياغة برنامج سياسي مصري ينطلق من إلغاء هذه معاهدة كامب ديفيد، وأن يكون ذلك ركيزة للتغيير الجذري...