مصر تخفي ثغرات السياسة المناخية أسفل سجادة الدعاية

أول نصوص دفتر المناخ الثاني الذي يتصدى لتقييم المخططات والاستراتيجيات الحكومية في بلدان منطقتنا، ومدى تطبيقها الفعلي والتناقضات والقصورات التي تشوبها، ومقدار انسجامها مع الالتزامات المتعَهّد بها. هنا مصر.
2022-11-17

صفاء عاشور

باحثة وصحافية من مصر


شارك
| en
غسان غائب - العراق

تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.

لا شيء يعلو على المظاهر والدعاية في التحركات الحكومية الخاصة بقضايا المناخ في مصر. لا يهمها إنْ كان المشروع أو المبادرة مناسِبة ومتسقة مع البيئة الاجتماعية، أو إنْ كانت تلقى قبولاً وتتلامس مع اهتمامات المواطن أم لا، أو خضعت لدراسة دقيقة قبل التنفيذ. المهم لدى تلك الجهات الحكومية هو أن تتماشى مع أهواء المانحين والموجة الرائجة في منح المناخ... والمهم فقط أن يتم الافتتاح بحضور كبار المسؤولين ومشاركة أهم وسائل الإعلام، لتقديم الصورة المثالية التي يصعب انتقادها، والالتزام بإصدار بيان متماسك قد يفتقد إلى المعلومات الدقيقة، لكنه يلتزم دائماً بالألقاب المفخّمة التي تسبق أسماء المسؤولين.

لا تخضع القضايا المناخية التي باتت تلقى اهتماماً لدى الحكومة المصرية لاعتبارات المساهمة في معالجة آثار التغيرات المناخية البادية للعيان على المستوى المحلي - سواء الحالية المتمثلة في ارتفاع درجات الحرارة، أو المستقبلية كارتفاع منسوب البحر المتوسط، وما يصاحب ذلك من سيناريوهات مفزعة لغرق الدلتا - بقدر ما تخضع إلى معايير الفوز بالمنح والقروض الميسرة التي تتيحها المشروعات المتعلقة بذلك. وإنْ كانت لها ايجابية فهي تتمثل في انتاج التقارير التي تكشف آثار التغيرات المناخية في مصر، إذ باتت - لغرض الحصول على المنح - أكثر مصداقية ودقة. تتجاهل السلطة في أحيان كثيرة التحذيرات المناخية، وكذلك تعهداتها، مقابل الحفاظ على الاستثمارات الأجنبية، كما حدث عند إتاحة استخدام المصانع ذات الاستهلاك الكثيف للفحم كوقود (1)، في مخالفة للاتجاهات العالمية لوقف استخدامه بغاية خفض الانبعاثات الكربونية. 

تشوب كل ذلك حالةٌ من عدم التنسيق بين القطاعات المختلفة وبين وزارة البيئة. فهناك مشروعات يتكرر طرحها من قبل جهات مختلفة، كمشروع الدراجات الذي أعلنت عنه محافظة القاهرة نهاية شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2022 ("كايرو بَيك")، والذي سبق تنفيذه تحت اسم مختلف وفي مناطق جغرافية أخرى بالشراكة بين وزارتي الشباب والبيئة. فلماذا لا تتوحد الجهود والخبرات؟ ولماذا لا يُكْشَف عن قيمة التمويلات والخطوات والنتائج بشفافية للرأي العام؟

أما فيما يخصّ تشكيل المجلس الوطني للتغيرات المناخية (2) فلم تستطع هذه الخطوة إيقاف التضارب بين الجهات، وعلى الرغم من مرور ثلاث سنوات على تأسيسه، ما زال دوره غير مفعّل. كما أنّ هيكله الإداري الذي يضم ثماني وزراء لم يضم وزير التنمية المحلية - وهي الوزارة المعنية بتنمية المجتمع المحلي ونشر الوعي وتسجيل صورة تفصيلية للمجتمعات - وهو جانب هام خلال وضع وتنفيذ الخطط والمشروعات المناخية.

عقوباتٌ مخففة

بدأت مصر الاهتمام بقضايا البيئة والمناخ خلال فترة التسعينات من القرن الماضي، فصدر قانون البيئة رقم 4 لسنة 1994 والمعدل بالقانون رقم 9 لسنة 2009، ثم تأسست وزارة البيئة بموجب قرار رئيس الجمهورية رقم 275 لسنة 1997. منذ تأسيسها، لم تشهد الوزارة اشتباكاً كبيراً في القضايا المتعلقة بتغيّر المناخ وبالمنشآت الصناعية الملوِّثة المملوكة لمستثمِرين، إلا مرات لا تتعدى أصابع اليد الواحدة.

لا تخضع القضايا المناخية التي تهتم بها الحكومة المصرية لاعتبارات المساهمة في معالجة آثار التغيرات المناخية البادية للعيان على المستوى المحلي - سواء الحالية المتمثلة في ارتفاع درجات الحرارة، أو المستقبلية كارتفاع منسوب البحر المتوسط وما يصاحب ذلك من سيناريوهات مفزعة لغرق الدلتا - بقدر ما تخضع لمعايير الفوز بالمنح والقروض الميسرة التي تتيحها المشروعات المعتمدة

كان أبرز هذه الاشتباكات تلك التي تصدّت لها وزيرة البيئة السابقة الدكتورة ليلى اسكندر عام 2014، لوقف قرار استخدام الفحم كوقود، الذي اتخذ بضغط من المستثمِرين مالكي المصانع ذات الاستهلاك الكثيف للطاقة، وبخاصة مصانع الأسمنت والسيراميك - وكان أغلبها مملوكاً لشركات متعددة الجنسيات - وذلك بالتزامن مع ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي، وزيادة الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك. قدمت الدكتورة اسكندر لمجلس الوزراء الدراسات التي تشير إلى الأضرار الصحية والبيئية الناجمة عن استبدال الغاز بالفحم، لكن نفوذ الشركات متعددة الجنسيات كان أعلى من ثورية الفعل، فنُقلت من وزارة البيئة لتتولى وزارة التطوير الحضري والعشوائيات، ومُرِّر قرار استخدام الفحم في النهاية، على الرغم من تحذيرات عشر منظمات حقوقية معنية (3) من أن القرار اتُخذ دون استشارة الجهات المختصة بالبيئة ودون الرجوع إلى سكان المناطق التي ستشهد استخدام الفحم. 

استمرتْ الحكومة المصرية في تبرير استخدام الفحم. وخلال عام 2017 صدر قرار رئيس الوزراء رقم 618 لسنة 2017، بتعديل اللائحة التنفيذية لقانون البيئة، ومن ضمنها اللائحة التنفيذية لاستخدام الفحم. كان أبرز التعديلات هو استبدال المادة الرابعة التي تنص على أن "مصدات الرياح المحيطة بأماكن التخزين المكشوفة يجب تصميمها وفقاً للمواصفات العالمية"، لتصبح وفقاً "لمواصفات تضعها وزارة البيئة".
انتقدت المدافعة عن البيئة الدكتورة راجية الجرزاوي (4) التعديلات الجديدة في تصريحات إعلامية، مؤكدةً أن المعايير البيئية في اللائحة السابقة لم تكن أصلاً تأخذ بأحدث المقاييس العالمية، ما يعني أن التعديلات تهدد بأخطار إضافية على البيئة والصحة. 

انتقادات أخرى وُجِّهتْ لقانون البيئة ولائحته التنفيذية، أبرزها التفاوت بين الحد الأقصى للانبعاثات التي تضعها الوزارة وبين الحد المسموح به عالمياً. فعلى الرغم من إعلان وزارة البيئة في آخر اصدار لها (5) أن قياسات الشبكة القومية لرصد الانبعاثات الخاصة بستة وسبعين منشأة على مستوى الجمهورية – وهي بعدد 352 موقع للرصد - كشفت توافق الانبعاثات بشكل كبير مع الحد القانوني بمصر، بنسبة تصل إلى 92 في المئة بالنسبة للجسيمات الصلبة العالقة، إلا أن تلك القياسات جميعها تُعد مخالِفة للحد الأدنى المسموح وفقاً لمنظمة الصحة العالمية، حيث يجب ألاّ تتعدى قياسات الجسيمات الصلبة العالقة أكثر من 10 مغم / م3. وبسبب تلك الجسيمات، تزيد الوفيات السنوية في القاهرة التي وصلت إلى 12 ألف حالة عام 2017، بنسبة تزيد عن نصف عدد الوفيات الناتجة عن أمراض القلب للعام نفسه. 

تتجاوز مستويات تلوث الهواء في القاهرة "الحدود القصوى المسموح بها على المستوى الوطني والعالمي بمقدار الضعف أو أكثر" وفقاً لتقديرات البنك الدولي. وقد مرّ دون مساءلة عرضٌ على الموقع الالكتروني لمحافظة القاهرة لبيع مساحة ما يقرب من العشرة كيلومترات مربعة في محميتي "الغابة المتحجرة" و"دجلة" بمنطقة المعادي.

عقوبات المخالفات البيئية الواردة بقانون العقوبات المصري أيضاً لا تتناسب مع ما تخلِّفه الخروقات البيئية من تغيّرات ممتدة في المناخ تشكل تهديداً لحياة الأجيال القادمة. تمّ انتقاد مواد هذه العقوبات في معرض ورقة بحثية صادرة عن "مركز الحقوق الاجتماعية والاقتصادية" (6)  تشير إلى أنّه لم يتم تعديلها منذ عام 1981. وتصل الحدود القصوى لعقوبات المخالفات البيئية إلى الإيقاف بضعة أشهر أو غرامة لا تتعدى الخمسة آلاف جنية، أو السجن لمدة عام. حتى أن التسبب في التلوث الإشعاعي لا تزيد عقوبته عن غرامة مالية قدرها 40 ألف جنيه وفقاً للمادة 86. وبالإضافة إلى العقوبات التي تبدو مخفَّفة، لا تقوم وزارة البيئة بتطبيق - أو المطالبة بتطبيق - مثل تلك العقوبات بشكل علني على المنشآت الصناعية سواء منها الحكومية أو المملوكة لمستثمرين إلا إذا كانت منشآت صغيرة يمتلكها أفراد.

قانون المحميات الطبيعية أيضاً رقم 102 لسنة 1983 من القوانين القديمة التي تحتاج إلى تعديل، نظراً لصدوره قبل سنوات من الاتفاقيات الدولية المناخية الهامة، ومن ضمنها الاتفاقية الإطارية للتغير المناخي عام 1992، واتفاقية باريس عام 2015. ويختص القانون بالأساس بإدارة وحماية المحميات الطبيعية بمصر التي يصل عددها إلى 30 محمية، وتزيد مساحتها عن 15 في المئة من إجمالي مساحة مصر - وفقاً لوزارة البيئة - تَحمي بداخلها التنوع البيولوجي لحيوانات وطيور ونباتات نادرة وفريدة بعيداً عن تغول المدّ الحضري. وعلى الرغم من صدور مشروع قانون جديد للمحميات من قبل مجلس الوزراء عام 2017، فقد تمّ التراجع عنه منتصف عام 2021 بسبب الانتقادات الواسعة التي وُجهت له لجهة الخوف من سيطرة المستثمِرين على المحميات بموجب حق الانتفاع. نفى مجلس الوزراء ذلك، إلا أن المادة الرابعة من مشروع القانون نصّت على إنشاء "الهيئة العامة للمحميات الطبيعية" التي يحق لها "إنشاء شركات مساهمة بمفردها أو بالاشتراك مع شركاء آخرين لإدارة وصون المحميات والقيام بالأعمال التي تدخل في نطاق أغراضها بعد موافقة مجلس إدارة الهيئة".

أما الحادثة التي مرت دون مُساءَلة فكانت عرضَ مساحةِ ما يقرب من العشر كيلومترات مربعة للبيع في محميتي "الغابة المتحجرة" و"دجلة" بمنطقة المعادي على الموقع الالكتروني لمحافظة القاهرة. وبعد الجدل الذي أثاره الخبر، أكد مجلس الوزراء ووزارة البيئة في بيان مشترك أن الجزء الذي تم استبعاده من "الغابة المتحجرة" قد فقد التنوع البيولوجي وعاد إلى الدولة، وبات "المركز الوطني لاستخدامات الأراضي" هو المسؤول عن إعادة تخصيصه بقرار جمهوري. فمَن يستطيع دحض هذا البيان في حالة غياب دور فاعل لمنظمات حقوقية مهتمة بالعمل البيئي؟

الصفر الكربوني

ينص دستور 2014 على أحكام خاصة لحماية البيئة والحفاظ عليها، وفرض التزامات سياسية واجتماعية، والتزام التنمية المستدامة في المادتين 45 و46، إضافة إلى التعهدات الدولية التي التزمت بها مصر عبر توقيع المعاهدة الإطارية عام 1992، واتفاقية باريس عام 2015. كما أصدرت رؤيتها للوفاء بتعهداتها المناخية والتنمية المستدامة بحلول عام 2030، ثم خطة عام 2050، وقد طبعهما قصورٌ، من أهمه عدم الحديث عن وصول الانبعاثات الكربونية للصفر في خطة عام 2050، وعدم رصد نسبة أكسيد الكربون وتخفيضها التدريجي في المستقبل في خطة عام 2030.

ووفقاً لإصدارٍ عن الأمم المتحدة بعنوان "إدارة نظم الحماية البيئية في مصر: نحو تحقيق بيئة مستدامة والتصدي لمخاطر تغيّر المناخ"، فإن خمس وزارات أساسية تتولى تنفيذ ومتابعة خطط التنمية المستدامة ومكافحة التغير المناخي وهي: وزارة البيئة وجهاز شؤون البيئة، وزارة الصناعة والتجارة، وزارة الصحة والسكان، وزارة الزراعة واستصلاح الأراضي، ووزارة الموارد المائية والري. وجميعها بحاجة إلى تنسيق جماعيّ أكبر لزيادة فاعلية الأداء تجاه قضايا المناخ، وذلك وفقاً لدراسة صادرة عن "الجامعة الأمريكية في القاهرة" عام 2019 بعنوان "حوكمة التغير المناخي في مصر" (7).
صَنّفت أيضاً مؤسسة "كلايمت تراكر" الجهود الحكومية في مصر ك"غير لائقة بشدة"، وهو تقييم يحل في المرتبة الرابعة من ضمن خمس تقييمات تمنحها المؤسسة. فقد اعتبرتْ أن جهود الخطط الحكومية المعلنة لن تساهم في تحقيق أهداف "اتفاقية باريس" التي تنشد خفض الاحترار العالمي حتى لا يزيد عن 1.5 درجة مئوية. ووفقاً للتقرير، فإنه على الرغم من إعلان مصر خلال قمة المناخ الماضية - كوب 26 - سعيها للاعتماد على الطاقة المتجددة بنسبة 42 في المئة بحلول عام 2030، لكنها لم توثِّق تعهدها بواسطة إصدارات حكومية، كما لم توقِّع على الاتفاقيات الدولية الخاصة بخفض انبعاثات غاز الميثان، ولم تفعِّل وقف استخدام الفحم كوقود على الرغم من توقيعها على اتفاقية بهذا الشأن. 

رصدت ورقة بحثية صادرة حديثاً بعنوان "حتى لا يزول الأخضر" إزالة ما يصل إلى 90 فداناً من المساحات الخضراء في حي مصر الجديدة وحده، إضافة إلى تأجير الحدائق الخضراء بمنطقة قصر عابدين لصالح مقاهي ومطاعم، كما رصدت إزالة مناطق خضراء خلال الفترة من 2017 إلى 2020، تعادل مساحتها 260 ملعب كرة قدم.

مجال التوسع في استخدام الطاقة النظيفة من الملفات التي تثير الجدل على الرغم من ضرورتها. ووفقاً ل"هيئة الطاقة النظيفة" التابعة لوزارة الكهرباء، فإن مصر نفذت 130 مشروعاً في مجال الطاقة الشمسية، بقيمة 200 مليون جنيه، أدت إلى توفير 70 في المئة من الاعتماد على الطاقة الأحفورية في المشاريع نفسها، ومن ضمنها 25 مليون جنية منحة لا تُرَد، ما يعني أن ما قيمته 175 مليون جنيه تضاف إلى عبء الدين الحكومي، حتى وإن كانت عبارة عن منحٍ ميسرة السداد. وهناك دائماً تساؤل حول سبب عدم استخدام المنح الموجهة لمجال الطاقة الشمسية في إنشاء مصنع يؤسس لصناعة وطنية، ويُنتِج مستلزمات صناعة محطات الطاقة النظيفة أولاً، لتوفير تكلفة الاستيراد في المستقبل وتشغيل مزيد من الأيدي العاملة. وقد أكّد على أهمية الأمر نفسه البيان الصادر عن "جمعية تنمية الطاقة في مصر" ("سيدا")، وجاء فيه تحذير من الخسائر التي يتعرض لها المستثمرون في مجال الطاقة الشمسية نتيجة النقص الحاد في توفر مكونات مستلزمات الإنتاج في الأسواق المصرية، سواء منها الخلايا أو محوِّلات التيار والكابلات ولوازم إنشاء المحطات والسخّانات الشمسية، بالتزامن مع فترات تعليق الاستيراد من الخارج لبعض المواد قبل إعلان التعويم الثالث للجنية المصري.

أما الحديث عن تحول مصر الى الطاقة النووية فهل يجب أن يكون أولوية في الفترة الحالية، على الرغم من التكلفة الهائلة التي ستثقل كاهل الميزانية الحكومية، التي تعاني بالفعل من جراء تسديد القروض، والتوسع في بناء وإصلاح الطرق والكباري، ومصاريف العاصمة الإدارية الجديدة؟ وعلاوة على ذلك، فإن الطاقة النظيفة من الشمس والرياح أرخص، ومتوفرة على امتداد الأراضي المصرية، وتتمتع بعوامل أمان أعلى. ويَذكر موقع "هيئة الطاقة النووية" أن مشروع إنشاء محطة نووية بمنطقة "الضبعة" يسير وفق الخطة الزمنية المحددة، وبتكلفة أولية تصل لـ 28.5 مليار دولار. ويجري حالياً استكمال إنشاء أسوار المحطة وأبراج الحراسة والبوابات، وإنشاء مدينة سكنية لأهالي "الضبعة" تشمل 1500 منزل بدوي، ومنشآت إدارية وخدمية، بالإضافة إلى تجمع سكني للعاملين بالمحطة يشمل 2050 وحدة سكنية متنوعة المساحات ومنشآت إدارية وخدمية. ويهدف المشروع إلى بناء أربع وحدات من مفاعلات الماء المضغوط من الطراز الروسي بقدرة 1200 ميغاوات لكل وحدة. وتضع "هيئة الطاقة النووية" من بين أهداف المشروع هدفاً ذا طابع سياسي هو الاعتراف الدولي بإنجازات الدولة. وقد لامست السخرية من الروتين الحكومي المشروع منذ إعادة إطلاقه، إذ يتندر المصريون بكون إدارته من قبل موظفين في منظومة بيروقراطية من شأنه تقويض خطواته وتعريض حياة الملايين للخطر.

قدّمت وزيرة البيئة السابقة عام 2014 لمجلس الوزراء الدراسات التي تشير إلى الأضرار الصحية والبيئية الناجمة عن استبدال الغاز بالفحم. لكن نفوذ الشركات متعددة الجنسيات كان أعلى من ثورية الفعل، فتمّ نقل الوزيرة من وزارة البيئة إلى وزارة التطوير الحضري والعشوائيات، ومُرِّر في النهاية قرار استخدام الفحم.

هل الحديث عن تحول مصر الى الطاقة النووية أولوية في الفترة الحالية، على الرغم من التكلفة الهائلة التي ستثقل كاهل الميزانية الحكومية، التي تعاني بالفعل من جراء تسديد القروض، والتوسع في بناء وإصلاح الطرق والكباري، ومصاريف العاصمة الإدارية الجديدة؟ وعلاوة على ذلك، فإن الطاقة النظيفة من الشمس والرياح أرخص، ومتوفرة على امتداد الأراضي المصرية، وتتمتع بعوامل أمان أعلى.

وعلى الجانب الآخر، نجد أن الحكومة المصرية تستمر في دعم المشروعات الاستثمارية كثيفة الإنتاج في حين تلوِّح بضرورة رفع الدعم عن المواطنين، وذلك وفقاً لبيان أصدرته "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية" في شهر شباط/ فبراير 2021، جاء فيه أن الحكومة أقرت في عام 2014 زيادةً واحدةً لأسعار بيع الغاز الطبيعي إلى تلك المصانع، ثم خفضت السعر مرتين في 2019 و2020، علماً بأن مديونيات الطاقة لدى تلك المنشآت تصل إلى 6 مليار جنيه.

أمراض مناخية

في عام 2021، أصدرت "منظمة الصحة العالمية" تقريرها الخاص بتقييم الاستعدادات الصحية لتغيّر المناخ في 95 دولة على مستوى العالم، وهو التقرير الثاني الذي صدر في هذا الشأن بعد التقرير الصادر عام 2018، والذي حمل نتائج استبيان شاركت فيه وزارات الصحة والهيئات الحكومية الشبيهة.
يضم الاستبيان 22 نقطة تكشف مدى تطبيق الدولة لالتزامها بالتوعية والتجهيزات الصحية لمواجهة آثار التغيّر المناخي، وأعطيت 4 اختيارات للإجابة: لا، نعم، قيد التطوير، غير معروف. الإجابة من قبل مصر على استبيان منظمة الصحة أظهر جوانباً غير مطبّقة في الربط بين الصحة العامة والتغير المناخي. وفي السؤال الخاص عمّا إذا كانت مصر قد أجرت تقييماً للربط بين التغيّرات المناخية والتأثيرات الصحية، جاءت الاجابة بأنها "قيد التطوير"، ووضعت إجابة "غير محدد" على إدراج التغيّر المناخي ضمن برنامج التعافي من كورونا. وطلب الاستبيان تحديد ما إذا كانت هناك مذكرة تفاهم مشتركة أو اتفاقية بين وزارة الصحة وكلٍّ من هيئة الأرصاد الجوية ووزارتي الطاقة والتعليم بشأن التغيّرات المناخية. جاء جواب الجانب المصري بالنفي، وأكد على أنّ التعاون قائمٌ بين وزارتي الزراعة والبيئة فقط. أدّى عدم وجود مذكرة تفاهم أو اتفاقية بين وزارة الصحة وهيئة الأرصاد الجوية إلى نفي الجانب المصري وجود ربط بين خطة الوزارة للاستجابة للإصابات والوفيات في الحوادث المناخية المتطرفة، وهو الأمر ذاته بالنسبة للأمراض غير السارية وتلك المنقولة بواسطة النواقل كالحشرات، وتلك المنقولة عبر المياه. 

تنتقد ورقة حقوقية صادرة في آب/ أغسطس 2022 (وهي تستعرض سياسة مصر الصحية تجاه تغير المناخ) عدم دمج مصر تكلفة التدهور البيئي برؤيتها لاستراتيجية التنمية المستدامة التي أعلن عنها لعام 2030. واقترحت إضافة تقييم كلفة العبء الصحي بجانب التدهور البيئي، ورسم استراتيجية واضحة للتقييم والمواجهة من أجل تحسين التدخلات السياسية لتخفيض العبء البيئي والصحي، خاصة مع وجود تكلفة بيئية على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، كما هو موضّح في عدد من الدراسات الدولية، ومن ضمنها دراسة "البنك الدولي" الصادرة في العام 2019 حول تكلفة تلوث الهواء والمياه على مصر. توصي الورقة أيضاً بإلزام المستثمرين بإجراء دراسة الأثر الصحي للمشروعات الصناعية والخدمية، بجانب دراسة الأثر البيئي، كما توصي بفرض ضرائب على الضوضاء والانبعاثات أو صرف المياه الملوثة أو المخلّفات الخطرة في مصر وتوجيه العائد لدعم القطاع الصحي.

يكرهون الشجر

"إتحضر للأخضر" مبادرة أطلقتها وزارة البيئة عام 2020 في إطار "الاستراتيجية القومية للتنمية المستدامة" ومدتها ثلاث سنوات، وهي كشفت عن التضارب بين سياسات الأجهزة الحكومية فيما يخصّ القضايا المناخية. ففي حين استهدفت المبادرة تغيير السلوكيات وحثّ المواطنين على المشاركة في الحفاظ على البيئة، وتبني المشروعات التي من شأنها خفض الانبعاثات الصلبة بنسبة 50 في المئة بحلول عام 2030، وتعزيز التشجير كهدف هام للمبادرة، يساهم في خفض الانبعاثات الكربونية، ويعتبر بمثابة رئة لسكان المدن الملوثة... كانت هناك مئات الأشجار تُقتلَع من جذورها في مناطق "الدقي" و"مصر الجديدة" و"النزهة الجديدة" وغيرها، بحجة توسيع الطرق وإقامة الكباري كحل سهل. وقد رصدت ورقة بحثية صادرة حديثاً بعنوان "حتى لا يزول الأخضر" إزالة ما يصل إلى 90 فدان من المساحات الخضراء في حي "مصر الجديدة" وحده، إضافة إلى تأجير الحدائق الخضراء بمنطقة "قصر عابدين" لصالح مقاهي ومطاعم، فيما رَصدت الصفحة التابعة لـ "حركة حقوق الشجر" (استخدمت لغرض الدراسة صور الأقمار الصناعية)، إزالة مساحات خضراء كبيرة خلال الفترة من 2017 إلى 2020، تعادل مساحة 260 ملعب كرة قدم. وعلى الرغم من تصريحات إعلامية لوزارة البيئة - بناءً على ضغط من رواد وسائل التواصل الاجتماعي – تقول بأنه تمّ نقل الأشجار بشكل آمن لإعادة زرعها مرة أخرى، إلا أن صفحة "حركة أنقذوا الاشجار" نشرت مقطع فيديو يثبت عكس ذلك، ويظهر اقتلاع الأشجار بواسطة جرافة، وبلا معدات مخصصة للنقل. هكذا نجد أن الأجهزة الحكومية غير حريصة على الحفاظ على المساحات الخضراء على الرغم من التقرير الصادر عن "الجهاز المركزي للمحاسبات" الذي رصد انخفاض نصيب الفرد من الغطاء النباتي ليصل إلى 17 سنتيمتراً فقط خلال عام 2020.

تجميل القبح

استيقظ سكان منطقة وسط البلد نهاية شهر تشرين الأول/ أكتوبر2022 على تخطيط جديد للشوارع، يتيح ممرات مخصصة لقيادة الدراجات، إضافة إلى 25 محطة تتيح تأجير 250 دراجة بواسطة بطاقات ذكية. حلمٌ كان بعيد المنال لسكان العاصمة، التي تتجاوز مستويات تلوث الهواء فيها "الحدود القصوى المسموح بها على المستوى الوطني والعالمي بمقدار الضعف أو أكثر" وفقاً لتقديرات البنك الدولي. ولهذا فإن المشروع يهدف بالأساس إلى دعم تكامل وسائل المواصلات الصديقة للبيئة، للحد من الاعتماد المتزايد على السيارات وتحسين نوعية الهواء وجودة الحياة، وفق ما أعلنته محافظة القاهرة في بيانها الصحافي عن المشروع.
لكن وبجولة سريعة في وقت الذروة بوسط البلد بعد بضعة أيام من إطلاق المرحلة الأولى من مشروع "كايرو بايك"، نجد أن الممرات المخصصة للعجل خالية من الدراجات، وأحياناً تُستخدم لمرور المركبات التي تستخدم الوقود الأحفوري، أو لعبور المارة. أما الزحام والتكدس للعربات والحافلات فقد زاد ولم يقل، نظراً لتقليص الطريق والاستقطاع منه. ملاحظةٌ أخرى تخص تحديد طريق للدراجات تتعلق بأنّ هذا الإجراء لم تتبعه تجهيزات محددة من حيث إعادة رصف الطرق مثلاً، ما يجعل الأمر يبدو وكأنه نفِّذ على عجل كمظهر لتجميل وجه القاهرة قبل أيام من قمة المناخ - كوب 27. وبذلك نجد أن المشروع الذي اشتركت في دعمه جهات عديدة مثل "مؤسسة دروسوس" السويسرية (Drosos) و"معهد سياسة النقل والتنمية" (ITDP) و"برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية" (UNHABITAT)، بالشراكة مع شركة "Donkey Republic" الدنماركية - المسؤولة عن مدّ 70 مدينة حول العالم بشبكة من أكثر من 16 ألف دراجة - قد نُفِّذ بدون تخطيط جيد يضمن الاستفادة الأمثل من المشروع. فإن كانت الفئة المستهدفة هي الشباب واليافعين، فلماذا لم يُطلق المشروع خلال الإجازة الصيفية للجامعات والمدارس، وما هي سبل الدعاية التي ستضمن إقبالهم على المشروع، بل لماذا لا يتاح تأجير الدراجات الخاصة بالمشروع بشكل مجاني؟ خاصة أن المشروع ممول بمنحة.. لم يعلن عن قيمتها! والأمر الأكثر غرابة هو أن تتجاهل الجهات الراعية للمشروع التضييق الأمني المستمر على رواد منطقة "وسط البلد" بشكل عام، وهو الأمر الذي يتناقض مع أهداف المشروع، إذ يتكرر توقيف الأشخاص للتفتيش بمناسبة وبدون مناسبة، بل إن التطبيق الخاص بتفعيل تأجير الدراجة يطلب تقديم بيانات شخصية كاملة، ومكان وموعد استلام الدراجة ومدة ركوبها، وجميعها معلومات تسهِّل تتبع الشخص وتتنافى مع القيم الحقوقية التي تتقاطع مع قيم العدالة المناخية. 

تتجاهل الجهات الدولية الراعية لمشروع إشاعة الدراجات بوسط البلد التضييقَ الأمني المستمر على رواد المنطقة، وهو ما يتناقض مع أهداف المشروع، إذ يتعدد توقيف الأشخاص للتفتيش، بل إن التطبيق الخاص بتفعيل تأجير الدراجة يطلب تقديم بيانات شخصية كاملة، ومكان وموعد استلام الدراجة ومدة ركوبها، وهي معلومات تسهِّل تتبع الشخص وتتنافى مع القيم الحقوقية التي تتقاطع مع قيم العدالة المناخية.

هناك علاقة بين الخمسة عشر دولة التي يصنِّفها البنك الدولي على قمة الدول المتأثرة بالتغيرات المناخية - والتي من بينها مصر - وبين ارتفاع مؤشرات الفساد في تلك الدول. وما زالت مصر تحتل مرتبة سيئة في سلم مؤشرات الفساد، إذ تُصَنَّف في المرتبة 117 من أصل 180 دولة، لحصولها على 33 نقطة من أصل 100 في مجالات الحوكمة والشفافية.

هكذا نجد أن مدى فاعلية الحكومات في الوفاء بتعهداتها المناخية، وإشراك مواطنيها في المحافظة على البيئة، لا يمكن فصله عن الديمقراطية والشفافية، وهو الأمر الذي أكده دليل صادر عام 2011 عن "منظمة الشفافية الدولية" جاء فيه أن هناك علاقة بين الخمسة عشر دولة التي يصنِّفها البنك الدولي على قمة الدول المتأثرة بالتغيرات المناخية - ومن بينها مصر - وبين ارتفاع مؤشرات الفساد في تلك الدول. علماً بأن مصر ما زالت تحتل مرتبة سيئة في سُلّم مؤشرات الفساد، إذ تصنف في المرتبة 117 من أصل 180 دولة، لحصولها على 33 نقطة من أصل 100 في مجالات الحوكمة والشفافية. ويشرح الدليل كيف يمكن للشفافية والمساءلة أن تؤدي إلى زيادة فاعلية الخطط والمشاريع الحكومية تجاه التغيّرات المناخية، من حيث عدم التأثر بالمصالح الخاصة، وعدم حصول المسؤول الحكومي على عمولات أو مناصب إضافية من خلال تلك المشاريع. ويَعتبر مراقبة منظمات المجتمع المدني وإتاحة المعلومات التفصيلية للجمهور ضماناتٍ قوية للحيلولة دون ذلك. ولا يُخفى على أحد أن مصر تفتقد لمجتمع مدني قوي، حيث ذكرت منظمة "هيومن رايتس واتش" أنه خلال عام 2017 وحده، مُنِع 30 من المدافعين الحقوقيين البارزين من مغادرة البلاد، وأغلقت 7 منظمات حقوقية و2000 جمعية خيرية!

محتوى هذه المقال هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.

______________________

1- قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 964 لسنة 2015
2- قرار وزاري رئيس مجلس الوزراء رقم 1129 لسنة 2019
3- بيان المنظمات: https://bit.ly/3tET6o0     
4- انتقادات د. الجرزاوي: https://bit.ly/3UJCpUv
5- تقرير حالة البيئة 2020: https://bit.ly/3Gjaer8
6- https://bit.ly/3EBKFQO     
7- Climate Governance in Egypt - AUC
https://bit.ly/3hPfgS1 

مقالات من مصر

للكاتب نفسه