من التاريخ: لماذا سقطت الإسكندرية بيد الإنجليز وقاومت رشيد؟

بعد سقوط الإسكندرية بيد الحملة الإنجليزية، لم يطلب محافظ "رشيد" وأهلها مدداً عسكرياً من القاهرة، لأنهم يعلمون أن أكثر الجنود هناك كانوا من المرتزقة ولن يعنيهم الدفاع عن المدينة أو النيل من الأعداء، ولن يكفوا عن إشاعة الفوضى والفساد، فيضيفوا حملاً جديداً على أهل المدينة، وقد آثر هؤلاء الدفاع بأنفسهم عن مدينتهم التي يعرفونها.
2022-11-10

ممدوح عبد المنعم

كاتب، من مصر


شارك
حملة فريزر على مصر

بعد انقضاء أقل من ست سنوات على رحيل الحملة الفرنسية عن مصر، جاءت الحملة الإنجليزية بقيادة الجنرال "فريزر" لتعيد ترتيب المنطقة وفقا لحسابتها التي كادت فرنسا أن تُرْبكها تماماً.

فقد كان من أبرز أهداف الحملة الفرنسية في العام 1798 قطع طريق التجارة بين إنجلترا وبين الهند، وأن تتموضع بقوة الأمر الواقع داخل معادلة المنافع والمصالح في "الشرق"، بإنشاء نواة لإمبراطورية فرنسية تكون قاعدتها مصر.

 وقد بدا بشكل مبكر أن تلك الأهداف ستتداعى واحدة إثر الأخرى، خاصة عندما آثر نابليون أن يُسفر عن الوجه الغليظ لحملته بعد محاولات كثيرة للتودد إلى المصريين واستمالتهم. وقد فشلت الحملة على مدى سنواتها الثلاث بأن تحظى باحتلال مريح، وفشلت تماماً في مد أطرافها نحو الشام، إذ أوقفتها أسوار عكا الحصينة ومرض الطاعون الذي تفشى بين الجنود. وعلى الرغم من "مشاعل التنوير" وأدوات "الحداثة" التي قدمتها الحملة والتي مثلت إطلالات جديدة على العالم الذي كان يشق طريقه وقتها نحو آفاق رحبة من العلوم والفنون، إلا أن المصريين رأوا فيها خطراً داهماً تمثّل في احتلال الأرض وانتهاك المقدسات واستعلاء قادتها، علاوة على ممارسات الجنود التي استفزت الفلاحين وأهل البلد. وكل من قرأ المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي يدرك أنه يصف سنوات الحملة للتعبير عن عمق الفاجعة وهول الحدث، لا سيما بعد انهيار أمراء وجنود المماليك وهم أهل الحرب ورجالها.

قاوم المصريون الحملة بكل السبل، فكانت ثورة القاهرة الأولى ثم ثورة القاهرة الثانية وثورات الأقاليم.

كان من أبرز أهداف الحملة الفرنسية في العام 1798 قطع طريق التجارة بين إنجلترا وبين الهند، وأن تتموضع بقوة الأمر الواقع داخل معادلة المنافع والمصالح في "الشرق"، بإنشاء نواة لإمبراطورية فرنسية تكون قاعدتها مصر

 وسرعان ما جمعت الحملة شتاتها المبعثر بعد رحيل قائدها نابليون إلى فرنسا ومقتل "كليبر" قائدها الثاني واستعدت للمغادرة، وشيعها الجبرتي على طريقته فقال:

عجل الله لهم الوبال والنكال، وأخرس منهم عضو المقال، وفرّق جمعهم، وشتت شملهم وأفسد رأيهم وأخمد أنفاسهم وهدم أساسهم إنه على ذلك قدير".

مقالات ذات صلة

بعد رحيل الحملة كانت صفحة كبيرة من تاريخ مصر على وشك أن تطوى إلى الأبد، وكان ثمة تجليات تستعد للظهور بعد بضع سنوات كان حتمياً أن تكون سنوات من الفوضى والارتباك وعدم وضوح الرؤية. وتنافست أطراف الصراع الثلاثة المتبقية في المشهد (الدولة العثمانية والإنجليز والمماليك) على الغنيمة المثخنة بالجراح.

حاولت أولاً الدولة العثمانية إعادة فرض هيمنتها بتعيين "خسرو باشا" والياً على مصر لإعادة ترتيب المشهد لصالحها ومحاولة التخلص من المماليك أو إخضاعهم، إلا أن الأوضاع سارت نحو مزيد من الفوضى. ولم يستطع "خسرو" أن يحظى بحب المصريين أو احترامهم فقد كان "سيئ التدبير، لا يحسن التصرف، يميل إلى سفك الدماء، ولا يضع شيئاً في محله، وغالى في فرض الضرائب" بحسب الجبرتي (1).

وعندما تم تعيين "خورشيد باشا" لمحاولة إصلاح ما أفسده سلفه، كانت الأمور قد سارت نحو مزيد من السوء وكانت قوة "محمد علي" الناشئة تنمو بشكل متسارع ولافت، فاضطر خورشيد إلى طلب المزيد من الإمدادات العسكرية من السلطان العثماني الذي سارع إلى ارسال ثلاثة آلاف من الجنود "الدلاة" (2) لنصرته. ولكن "خورشيد" فقد السيطرة عليهم بمجرد وصولهم إلى القاهرة التي استباحها هؤلاء الجنود بأكبر قدر من التوحش والإجرام، وكانوا سبباً مباشراً في ثورة الأهالي لتنتهي سنوات الفوضى بعزل "خورشيد" ووصول "محمد علي" إلى الحكم في مصر على غير رغبة من السلطان العثماني.

ظلت إنجلترا خلال ذلك الوقت تراقب الموقف بصبر وتتحين الفرصة للانقضاض على مصر بغية تحقيق هدف مزدوج: ضرب الدولة العثمانية في إحدى أهم مستعمراتها وأكثرها استراتيجية وقطع الطريق على فرنسا لمنعها من تكرار مغامرات مشابهة في المستقبل . فتحالف الإنجليز مع رأس كبير من رؤوس المماليك وهو "محمد بك الألفي" الذي وضع قوته العسكرية تحت تصرف الإنجليز من أجل تمكينهم من احتلال البلاد مقابل تمكينه من حكم مصر والتخلص من محمد علي.

وفي الأول من آذار/ مارس من العام 1807 وصلت سفينة استطلاع إنجليزية إلى السواحل المصرية، تبعتها سفينة أخرى قامت باستدعاء القنصل الإنجليزي الذي تسلم مجموعة من الرسائل قام بإرسالها إلى رؤساء المماليك في الصعيد، تبلّغهم بقرب وصول الحملة إلى مصر.

استعد المصريون لمقاومة الحملة وكانت الإسكندرية أول حائط صد عن مصر كما فعلت قبل سنوات قليلة حين تصدت للحملة الفرنسية عندما كان السيد "محمد كريم" حاكماً على المدينة، فقاوم الرجل ومعه أهل الإسكندرية الحملة ببسالة أثارت اعجاب نابليون نفسه فثبته حاكماً على الثغر وحاول استمالته من أجل أن يصبح "رجل الاحتلال" كما فعل الفرنسيون مع "المعلم يعقوب" فيما بعد في القاهرة.. لكنه لم يتوقف عن قيادة المقاومة وإثارة الناس ضد المحتل حتى قبضت عليه السلطة الفرنسية وحاكمته بتهمة "الخيانة" وأعدم رميا بالرصاص في أيلول/ سبتمبر 1798، وظل حاضراً في وجدان المصريين الذين استلهموا بطولته بعد تسع سنوات وهم يستعدون لملاقاة الحملة الإنجليزية. ولكن الأمر كان مختلفاً في الإسكندرية هذه المرة.

قرأ الإنجليز المشهد وتأكدوا أن حاكم الثغر "أمين أغا" رجل لا تعنيه فكرة البطولة ولا يشغل عقله بفكرة المقاومة، بل بالنجاة بنفسه إذا ادلهمت الخطوب وأحاط به الخطر. فهو في النهاية أحد رجال الأستانة الذين أرسلهم الباب العالي لأداء "وظيفة"، فتفاوض معه الإنجليز لتسليم المدينة من دون مقاومة، مقابل رشوة.

وهكذا أقبلت الحملة البحرية مؤلفة من خمس وعشرين سفينة وسدت مدخل الميناء الغربي، وفي مساء ذلك اليوم أخذ جنود الحملة ينزلون إلى شاطئ العجمي، ثم زحفوا نحو الإسكندرية وعسكروا تحت أسوارها، وقاموا بإرسال فصيلة منهم لاحتلال قلعة أبي قير شرق الإسكندرية. وانقضى يومان في مفاوضات صورية بينهم وبين "أمين أغا" محافظ المدينة، انتهت بأن سلّم نفسه كأسير حرب ومعه حامية المدينة وعددها نحو ثلاثمئة مقاتل. ودخل الإنجليز الإسكندرية ليلة 21 آذار/ مارس دون أن تُطلَق رصاصة واحدة، وبوغت الأهالي بسقوط مدينتهم.

وفي القاهرة، كان الجبرتي حذراً في التعامل مع أخبار الحملة خشية السقوط في فخ الإشاعات التي تواترت، حيث بدأ تسجيله لأحداث ذلك اليوم قائلاً "أشاعوا بأن الإسكندرية ممتنعة عن الإنكليز وأنهم طلعوا إلى رأس التين والعجمي، فخرج عليهم أهل البلاد والعساكر وحاربوهم وأجْلوهم عن البر ونزلوا إلى المراكب مهزومين وحرقوا منهم مركبين..."

قاوم المصريون الحملة الفرنسية بكل السبل، فكانت ثورة القاهرة الأولى ثم ثورة القاهرة الثانية وثورات الأقاليم.

استعد المصريون لمقاومة الحملة الإنجليزية التي أعقبت رحيل الفرنسيين، وكانت الإسكندرية أول حائط صد عن مصر كما فعلت قبل سنوات قليلة حين تصدت للحملة الفرنسية. 

وبدا أن تلك الإشاعات كانت تعبر عن أمنيات ما كان يجب أن يحدث، أو هي محاولة لاستنساخ بطولة المدينة في مقاومة الحملة الفرنسية، وربما كانت وسيلة للربط على قلوب أهل القاهرة وعدم إصابتهم بالهلع. ولكن سرعان ما أسفرت الحقيقة عن وجهها وعرف المصريون أن الخيانة قد حسمت موقف الإسكندرية. وقد سقطت مصر رهينة في يد الإنجليز لأكثر من سبعة عقود.

بلغ عدد قوات الحملة الإنجليزية حوالي ستة آلاف مقاتل وهو عدد ضئيل للغاية إذا ما قورن بحجم الحملة الفرنسية على مصر والتي بلغ قوامها أكثر من ستة وثلاثون ألفاً من المقاتلين علاوة على أسطولها العظيم، إلا أن الانجليز بنوا حسابات الحملة على أنهم يغزون بلداً مزقته الصراعات السياسية علاوة على خطتهم المحسوبة في الاعتماد على قوة المماليك الذين تحالفوا معهم قبل الغزو. وقد استفز المصريين السقوطُ المهين للإسكندرية، واستنفر هممهم ضد المحتل الجديد.

كانت الخطة أن تزحف الحملة إلى القاهرة مع الاستيلاء على باقي ثغور مصر وعلى رأسها "رشيد". ولكن حسابات الإنجليز التي نجحت في إسقاط الإسكندرية بالرشوة والخيانة طاشت بعيداً وهي تخطط للسيطرة على رشيد. فقد كان حاكمها "علي بك السلانكلي" رجلاً فائق الشجاعة، وقد بلغته أخبار سقوط الإسكندرية فعلم أن سقوط "رشيد" بدورها هو سقوط لمصر بالكامل، فجمع حاميته المكونة من 700 جندي فقط وحثهم على الصمود والمقاومة حتى آخر رجل، ثم شرع على الفور في تحصين المدينة والاستعداد لمواجهة الإنجليز. وأرادها معركة صفرية بالكامل، فأمر بإبعاد المراكب الراسية على ضفاف "رشيد" إلى الناحية الأخرى من النيل، ووضع نفسه وجنوده في مواجهة مع حتمية الانتصار أو الموت.

واللافت أن محافظ المدينة وأهلها لم يطلبوا مدداً عسكرياً من القاهرة أو غيرها لأنهم يعلمون أن أكثر الجنود من الدلاة الذين سبق ذكرهم أو الأرناؤود، وهؤلاء مرتزقة مخرِّبون لن يعنيهم الدفاع عن المدينة أو النيل من الأعداء، ولن يكفوا عن إشاعة الفوضى والفساد، فيضيفون حملاً جديداً على أهل "رشيد". آثر الأهالي اذاً أن يدافعوا عن مدينتهم التي يعرفونها بأنفسهم وبدأوا في الاستعداد لمقاومة زحف الإنجليز.

الدفع إلى الخيانة ظل واحداً من أدوات المستعمِرين والغزاة حتى ولو تغيرت أساليبها واستُبدلت الوجوه. ويظل الخائن خائناً حتى ولو توسد كرسي الحكم بعقلية الأغوات وسلوك السماسرة.

كانت الخطة هي إيهام جنود الحملة بأنهم يستكملون انتصاراتهم التي بدأوها في الإسكندرية وأنهم سيدخلون مدينة آثرت السلامة وفضلت الاستسلام على القتال فأمر "علي بك" الأهالي بإغلاق بيوتهم عليهم والتزام الصمت الكامل وكأن المدينة قد خلت من سكانها تماماً. وبدت "رشيد" كمدينة أشباح، ولم يكن لدى الجنود الإنجليز أسباباً للحذر أو الريبة. فدخلوا المدينة وقد استبد بهم التعب فأخذوا يتخففون من أحمالهم وأسلحتهم وافترشوا الشارع الرئيسي بالكامل واستسلم بعضهم للنوم..

عندها أصدر المحافظ إشارته التي تمّ الاتفاق عليها مع الجميع: مع الجنود المبثوثين في الأركان والزوايا وأسطح البيوت، ومع الأهالي الصامتين تماماً في بيوتهم. ارتفعت في تلك اللحظة صيحة "الأذان" من مئذنة "مسجد زغلول" القريب لينهال وابل من النيران الكثيفة المركزة نحو جنود الاحتلال. وفي الدقائق القليلة التي استطاعوا أن يقفوا فيها محاولين الاختباء أو الفرار كانت جملة خسائرهم قد بلغت 185 قتيلاً و282 جريحاً فيما أسر الأهالي الذين انقضوا عليهم أكثر من 120 جندياً وكان على رأس القتلى قائد الحملة الجنرال "ويكوب" نفسه.

في اليوم التالي أرسل "علي بك" رؤوس القتلى إلى القاهرة ومعهم جملة الأسرى في رسالة واضحة بأن حملة "فريزر" قد هُزمت في مصر عندما تصدى المصريون للدفاع عن أرضهم بدلاً من المرتزقة وأمراء الحرب المحترفين، وكان لرسالته أثراً كبيراً في مقاومة القاهرة بدورها، لتنتهي تلك المغامرة الإنجليزية.

... ولكن الدفع إلى الخيانة ظل واحداً من أدوات المستعمِرين والغزاة حتى ولو تغيرت أساليبها واستُبدلت الوجوه. ويظل الخائن خائناً حين يتوسد كرسي الحكم بعقلية الأغوات وسلوك السماسرة. 

______________________

1- عبد الرحمن الجبرتي "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" أو "تاريخ الجبرتي" اختصاراً، الصادر في العام 1989 في ثلاثة أجزاء عن دار الكتب المصرية، القاهرة.
2- "الدلاة" كلمة تركية تعنى المجانين لشهرة هذه الفرقة بالتهور والجنون والدموية في عملياتهم العسكرية 

مقالات من مصر

العاصمة المصرية في مفترق طرق..

رباب عزام 2024-11-21

على الرغم من الأهمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بالنسبة إلى المواطنين، للمنشآت والمباني المقامة حالياً على أراضي "طرح النهر"، خاصة في العاصمة القاهرة، إذ يشمل أغلبها كثيراً من الأندية الاجتماعية التابعة...

للكاتب نفسه

عمْ "سيِّد"

هو أحد أقارب والدي، لا أراه إلا نادراً. عرفتُ قصته بالصدفة في حوار عائلي عابر، ولكن الرجل – بعد تردد - أطلعني على بقية التفاصيل المؤلمة، التى لايعرفها إلا قلة...