خليل بركات*
في محافظة المثنى جنوب العراق، تكاد المُفارقات تُلمس باليد.
يروي السكان حكايات حزينة من تاريخهم، ويتحسّرون على فرص وأحلام ضاعت - ولا تزال - أمام أعينهم، ولو تحققت كما يقولون، لكانت أحوالهم أفضل مما هي عليه الآن.
تبلغ مساحة المثنى 51.740 كلم مربع، وتشكل البادية 95 بالمئة منها. وما يزيد عن نصف سكانها يرزحون تحت خط الفقر.
وإضافة لتاريخها الموغل بالقدم وآثارها المعروفة ومعابدها الشهيرة لكن المنسية، توجد بحيرة "ساوة" الأسطورية، وموارد اقتصادية وطبيعية كبيرة.
وكذلك يقع هناك سجن "نقرة السلمان" المهول وقلعته المخيفة.
"ساوة".. بداية الرحلة
انتظرنا وصول محمد العزاوي وعلي جابر من بغداد لننطلق في رحلة استكشافية معاً، وهما أستاذان في مجال البيئة الجغرافية.
حزمنا أمتعتنا وأخذنا أكبر عدد ممكن من عبوات المياه، فالبادية مقفرة وتخلو من أي متجر ولا يمكن مصادفة البدو بسهولة لأن ترحالهم لا يتوقف.
عهدنا بالقيادة إلى نايف حميد، وهو سائق وناشط بيئي، ولد في المثنى ويعرف البادية ومتاهاتها وطرقها ووديانها مثل راحة يده، وفي ذاكرته الكثير من قصصها التي رواها له أجداده.
كانت الرحلة في يوم حار من أيام تموز. وبعد أن قطع نايف ما يزيد على 30 كلم من نقطة الانطلاق، وصلنا إلى مفترق طرق.
"هذا الطريق ينتهي بنا إلى الصحراء حيث البادية، أما هذا الطريق فيأخذنا إلى بحيرة "ساوة"، قال وهو يشير بيده في اتجاهين مختلفين، فطلب منه محمد أن نذهب نحو البحيرة.
كان الجفاف واضحاً بشدة، والطيور المهاجرة التي تحلق في السماء تبدو حائرة وهي تبحث عن الماء ولا تجده.
نضبت مياه بحيرة "ساوة" وجفت تماماً أواخر نيسان/ أبريل الماضي، ما دفع بعض المؤمنين إلى الاعتقاد بـ"ظهور المهدي المنتظر" وقرب "حلول القيامة"، فهي بحيرة ورد ذكرها في الأساطير القديمة وفي مرويات دينية أيضاً.
المهندس راي محمد علي، هو المسؤول عن بحيرة ساوة ويقيم بقربها. يقول إن "ساوة" تعرضت لكارثة بيئية خلال السنوات الأخيرة، وقد جار عليها العاملون في الصناعة والزراعة عندما استنزفوا في أنشطتهم خزين المياه الجوفية للآبار القريبة من هنا، رغم أنها المصدر الوحيد لمياه البحيرة.
تبلغ مساحة البحيرة 4 كيلومترات مربعة ونصف، وقد أخذت ميزتها وفرادتها من كونها غير مرتبطة بأي أنهار تغذيها بالمياه، ويُعتقد أن عمرها يعود لـ10 آلاف سنة.
بحسب المهندس راي، فإن آخر الأبحاث خلصت إلى أن مصدر مياه البحيرة الأصلي هو حوض الدمام الممتد بين السعودية والعراق.
ويقول إن الميزة الأخرى في بحيرة ساوة هي أن مياهها حلوة المذاق عند عين المنبع، لكنها تزداد ملوحة كلما ابتعدت عن محيط العين، كما أنها تستخدم كعلاج طبيعي لبعض الأمراض.
فرصٌ ترحل مثل "البدو"
يسكن سائق الرحلة "نايف" في منطقة قريبة من البحيرة.
يخبرنا بنبرة يطغى عليها الأسى أن رجل أعمال إماراتياً من أصول عراقية جاء قبل سنوات ليعرض على السلطات استثمار بحيرة ساوة وتحويلها إلى مدينة سينمائية - إعلامية، لكنه اصطدم بـ"فساد الحكومات المتعاقبة هنا"، فعاد إلى الإمارات وأنشأ مشروعه هناك.
الجفاف واضحٌ بشدة في بحيرة "ساوة"، والطيور المهاجرة التي تحلّق في السماء تبدو حائرة وهي تبحث عن الماء ولا تجده.
بالنسبة لنايف، كان مثل هذا المشروع سيغيّر واقع محافظة المثنى برمتها ويحوّلها إلى وجهة سياحية ومقر لمحطات إعلامية، ما يقلل نسبة الفقر بين السكان.
الطريق إلى "السلمان"
انتهى وقوفنا عند بحيرة ساوة، وقطع نايف 150 كلم بالسيارة حتى وصلنا إلى مدخل وادٍ.
"هنا قضاء السلمان"، قال بينما كان شرطياً يتجه نحونا.
يفتش الشرطي كل سيارة تدخل إلى القضاء. يتفحص الوجوه الغريبة ويطلب هويات أصحابها ليدقق فيها ثم يسمح لهم بالعبور بعد سؤالهم عن وجهتهم ومقصدهم.
لا توجد مطاعم ولا أماكن للاستراحة. مرة جاء مستثمر لبناء مطعم وفندق للمسافرين والسيّاح لكن السكان منعوه، فعاداتهم توجب عليهم إكرام الضيوف في منازلهم ولا تسمح بغير هذا.
اتصل نايف - الذي يعرف الكثير من سكان القضاء - بصديقه عبد الأمير العبودي لنكون بضيافته.
العبودي باحث تاريخي وهو من وجهاء المنطقة وملم بتفاصيلها وعاصر حكومات متعاقبة.
نزلنا الليلة في منزله وقام بـ"واجب الضيافة" كما تقتضي التقاليد المحلية، وفي الصباح أخذنا في جولة داخل قضاء السلمان.
"السلمان واحة جميلة تربط بين المدينة وصحرائها. عين السكان تنظر إلى الفرات والحضارة والمدينة، والأخرى ترنو إلى البادية وتنتظر فصل الربيع وقوافل البدو الرحل"، يقول.
تختلف منازل قضاء السلمان الواحدة عن الأخرى ولا يجمعها شكل هندسي واحد، فقسم منها مبني من الطابوق فقط والقسم الآخر مشيّد من أحجار تُجلب من البادية وتبنى بطريقة خاصة، وسكانها لا ينفكون أبداً عن عاداتهم الاجتماعية وتربط بينهم صلات وثيقة جداً.
صَحبَنا مُضيّفنا عبد الأمير العبودي إلى سجن نقرة السلمان الشهير.
بني هذا المكان عام 1928 بأمر من الضابط البريطاني كلوب باشا كمخفر للشرطة يحمي المدينة وسكانها من هجمات "الوهابيين" آنذاك، ثم تحوّل عام 1948 إلى سجن مركزي ترسل إليه السلطة معارضيها السياسيين وأعضاء الأحزاب الثورية.
اتسع السجن في البداية لـ64 سجيناً ثم وصل العدد إلى 450 شخصاً ما اضطر إدارته إلى بناء 10 قاعات جديدة كان أغلب نزلائها أعضاء في الحزب الشيوعي والحزب الوطني الديمقراطي والمستقلين والكرد المعارضين، وزاد عددهم بمضي السنوات إلى 1500 سجين قبل أن يغلق المعتقل في عام 1968.
الشعراء سعدي يوسف ومظفر النوّاب وناظم السماوي ومحمد صالح بحر العلوم وألفريد سمعان وجمعة اللامي، إضافة إلى سكرتير الحزب الشيوعي الأسبق عزيز محمد والقيادي في الحزب حميد عثمان... سجنوا جميعهم في "نقرة السلمان" بسبب نشاطهم السياسي في الستينيات من القرن الفائت.
أطوار الخوف العراقي
28-01-2016
"شعر" الخاكيين الجدد في العراق
11-02-2021
"شاء القدر أن يرتبط هذا السجن باسم قضاء السلمان وبسببه صار الناس ينظرون إلى المنطقة بالكره ويتذكرون الاضطهاد والإبعاد والنفي حالما يُذكر اسمه"، يقول عبد الأمير العبودي، وهو يعتقد أن هذا الأمر تسبّب في "غياب الخدمات والإعمار" عن المنطقة التي هجرها بعض أهلها باحثين عن مكان أفضل.
سجن ثانٍ.. أقسى
طلب منا العبودي مرافقته إلى تلة مرتفعة يعلوها مبنى قديم يشبه القلاع التاريخية.
دخلنا إلى المكان الموحش وتجولنا فيه.
وقعت عيوننا على كتابات على الجدران تمجّد النظام العراقي السابق ورئيسه صدام حسين، خُطت قبل 2003 مثل "البعث مدرسة الأجيال. أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة. عاش بطل الأمجاد صدام. شموخ العراق من شموخ ثورة تموز"، وغيرها...
بين هذه الكتابات، كانت عبارة مكتوبة بالعامية توضح بدقة ما كان يجري هنا قبل عقود.
"أمرك سيدي أمرك نلعن سلفه سلفاهم"، كتبها سجان أو جندي ما، فالمكان هو مقر احتجز فيه نظام صدام حسين المئات ممن وضعهم على لائحة ألدّ أعداء "البعث"، وهم "الكرد الفيليون" بعدما اتهمهم بـ"التبعية لإيران" بين 1982 - 1986.
وفي التسعينيات، اقتيدت إلى السجن ذاته عائلات من عشيرة ملا مصطفى البارزاني، مؤسس الحزب الديمقراطي الكردستاني، ونجله مسعود الذي تولى قيادة الحزب بعد وفاة والده عام 1979 بسبب معارضتهم لنظام البعث.
ودأب السجناء السابقون وعائلاتهم على زيارة هذا المكان سنوياً قاطعين مسافات طويلة من إقليم كردستان في شمال العراق، لاستذكار ما عاشوه من مآسٍ.
زيد وعليا: ملحمة عشق بدوي
استمرت رحلتنا في تخوم البادية، وقصدنا مقبرة الهلاليين الواقعة على بعد 20 كلم من قضاء السلمان.
____________
من دفاتر السفير العربي
مدن العراق
____________
لا أثر للماء أو الزرع على امتداد الطريق. كانت تنتشر في هذه الأنحاء نحو 104 آبار حفرتها الدولة وأطلقت عليها اسم "آبار النفع العام" كي يرتوي منها البدو الرُحّل ويستقي منها الزرع، بيد أن أغلبها اندثرت بفعل عوامل التعرية ما جعل البادية قاحلة وجافة بشدة، بحسب عبد الأمير العبودي.
قبل مقبرة الهلاليين بمئة متر، تقع واحة "هدانية" التي تتحول إلى خضراء نضرة خلال فصلي الشتاء والربيع، ويكثر فيها شجر السدر ويقصدها السيّاح من مناطق مختلفة.
عبرنا الواحة قاصدين غرفة بداخلها قبر.
"هنا وقعت ملحمة العشق البدوي"، يقول العبودي وبدأت نبرته تختلف عن تلك التي تحدث بها عن نقرة السلمان وقلعته والمنطقة التي "ظلمها الاسم والتاريخ".
قبل قرنين من الزمن، سمع شيخ عشيرة من البادية الغربية واسمه زيد عن فتاة جميلة اسمها عليا تسكن في الواحة، وهي ابنة شيخ عشيرة الهلاليين.
قدِم زيد متنكراً بهيئة شريد يطلب العمل فولّاه الشيخ مهمة سقي القهوة في ديوانه، ونشأت علاقة حب بينه وبين عليا الجميلة، غير أنه يئس بعد 7 سنوات من الحب العذري من الزواج منها بسبب أبناء عمها.
ذات ليلة، التقى زيد بعليا في مخدعها وظلا يتناجيان حتى غلبهما النعاس.
في الصباح رأى ابن عم الفتاة الحبيبين نائمين بجوار بعضهما، فقتل زيداً وقطع قدم عليا، وعندما عرفت العشيرة، أخذ أفرادها الفتاة إلى كهف قريب من الواحة وقطعوا قدمها الأخرى وتركوها تتعذب نازفة بدمائها. كتبت العاشقة التي ستموت بعد لحظات من جراء الألم، قصيدة من 18 بيتاً تروي قصة حبها المأساوية.
بحثت عشيرة زيد عن ابنها حتى وصلت إلى الكهف وقرأت القصيدة وعرفت القاتل، فوقعت ملحمة كبرى مات فيها أكثر من 100 فارس من القبيلتين.
أما زيد وعليا فدُفنا سوية فيما يعرف اليوم بـ"مقبرة الهلاليين".
روى عبد الأمير العبودي هذه القصة لنا، ويقول إنها معروفة هنا بين القبائل وما زالت متداوَلة في مجالسهم.
سالم.. أراد التقاط حجر فانفجر فيه
ودّعنا عبد الأمير العبودي بعدما أعدناه إلى منزله، وتوجه بنا نايف إلى ناحية "بصية" في قلب بادية المثنى قرب الحدود مع السعودية، وتبعد 200 كلم عن قضاء السلمان.
في الطريق غرزت إطارات السيارة في الرمل الناعم، وفشِلت جميع محاولاتنا في إخراجها.
ضربتنا الحيَرة عندما نفدت مياه الشرب منا وصرنا ننتظر منقذاً مجهولاً.
صعد نايف إلى إحدى التلال الرميلة، وانفرجت أساريره. رأى بيتاً لبدوي على بعد 3 كيلومترات فقصده وهو يصيح ويلوّح بقبعته.
مرت دقائق حتى جاءنا البدوي بسيارته رباعية الدفع يرافقه شاب صغير وبندقية كلاشنيكوف يحميان بها نفسيهما من وحوش البادية واللصوص.
اطمأن لنا الرجل عندما عرف من نحن. ابتسم وعلّم نايف كيف يخرج سيارته المغروزة في الرمال.
"لا تضغط على دواسة البنزين فكلما ضغطت أكثر انغرست الإطارات في الرمال أكثر. قلل الهواء وستخرج"، قال بلهجة بدوية وساعدنا بيده في إخراج السيارة.
اصطحبنا البدوي إلى بيته لملء الإطارات بالهواء من جهاز يحتفظ به في سيارته الثانية المخصصة لجلب الماء من آبار بعيدة أو من مركز قضاء السلمان.
أثناء جلوسنا، حكى لنا ولده سالم (19 عاماً)، كيف فقده إحدى قدميه.
كان يرعى الغنم عندما التقط جسماً مجهولاً من الأرض ليرمي به أغنامه فانفجر عليه. كان لغماً يعود لحرب الخليج الثانية.
سالم هو واحد من 3700 شخص أصيبوا أو قتلوا إثر المخلفات الحربية التي وزعتها تلك الحرب على مساحة 150 كلم مربع وبينها قنابل عنقودية تحتاج إلى سنوات لإزالتها.
كانت الأغنام ترعى في جوار البيت، وسالم ينظر إليها بحسرة بادية لأنه لم يعد يخرج بها إلى الرعي.
"حاولتُ الانتحار 3 مرات في الصحراء لكني لم أستطع خوفاً من الموت، والآن أنا أدخن 3 علب من السجائر يومياً".
سألته عن أمنيته، فقال واحدة فقط، وهي أن يحصل على طرف اصطناعي يسد مكان قدمه المفقودة على أمل أن يكمل حياته مع قطعانه في البادية.
عندما غادرنا البيت، طلب منا الرجل البدوي إتباع المسار الذي تظهر فيه آثار عجلات السيارات التي مرت عليه قبلنا وحذَرنا من الانحراف عنه أو الاتجاه يميناً أو يساراً لأن البادية مليئة بالألغام وتخلو من أي علامات تحذّر منها وقد حصدت حياة الكثيرين من البدو الرحل.
أحوال متغيّرة
أحوال البدو وحياتهم تتغير. ففي السابق كانوا يعيشون في تجمعات بجوار بعضهم البعض أما اليوم فهم يعيشون فرادى بسبب قلة العشب والماء، وهم يقتاتون على لحوم أغنامهم وحليبها ويذهبون أحياناً إلى مركز محافظة المثنى أو قضاء السلمان أو ناحية "بصية" للتبضع وشراء الطعام والملابس.
البادية مليئة بالألغام وتخلو من أي علامات تحذر منها، وقد حصدت حياة الكثيرين من البدو الرحل.
رعي الأغنام والإبل مهنة الغالبية منهم، ولديهم نوعان من البيوت يفرضها عليهم مستوى درجات الحرارة.
بيت الشتاء يصنع من شعر الماعز المليء بالدهن لمنع تسرب المطر ويطلقون عليه "المشتى"، أما النوع الثاني فبيوت صيفية يصنعونها من القطن.
وليس جميع البدو سواء في طريقة العيش.
فالقسم الأكبر منهم، ويسموّن "العرب الرحّالة"، لم تعد حياتهم بدوية خالصة بعدما سكنوا المدينة وتعرفوا على التكنولوجيا وبدأوا يستخدمون الإنترنت غير المتوفر مع شبكة الهواتف في البادية، وهم يجلبون معهم كلما قدموا إليها أجهزة "الثريا" لإجراء اتصالاتهم الطارئة.
لا توجد إحصاءات رسمية بعدد البدو الرُحّل بسبب حركتهم وانتقالهم الدائمين في البادية الشاسعة، ولم تنجح وزارة التخطيط عندما حاولت عدهم ذات مرة.
أخبرنا بعضهم أن أطفالهم لم يدخلوا أية مدرسة ولم يمسكوا القلم والورق يوماً ولا يمتلكون هويات ثبوتية وهم غير مسجلين في دوائر النفوس، عكس العرب الرحّالة الذين يمتلكون الجنسية العراقية ويسجلون أبناءهم في مدارس المدينة.
في الطريق إلى ناحية "بصية"، نقل لنا نايف عن مسؤول محلي يعرفه قصة اختطاف الصيادين القطريين في البادية ذاتها عام 2015.
كان بينهم أفرادٌ من العائلة الحاكمة جاؤوا للاستمتاع برحلة صيد بالصقور وهي هواية الملوك والأمراء الخليجيين، وتعد بادية السماوة وجهة مفضلة لأنها تعج بطيور الحبارى.
اختطفتهم مجموعة مسلحة للضغط على قطر واستغلال نفوذها على جماعات مسلحة ناشطة في الحرب السورية وقتها.
غجر الديوانية.. عزلة قاتلة وحياة بدائية
31-12-2021
ودفعت الدوحة فدية تضاربت الأنباء بشأن مقدارها، وتوسطت في عقد اتفاق أجلي بموجبه سكان شيعة من بلدتين سوريتين محاصرتين في شمال حلب، هما "نُبل" و"الزهراء"، إضافة إلى أمور تتعلق بدور قطر في حرب اليمن، مقابل إطلاق سراح المختطفين الذين بقوا محتجزين لـ16 شهراً.
واستولت الحكومة العراقية وقتها برئاسة حيدر العبادي على جزء من الفدية، بينما أدت الفدية نفسها إلى اتهام قطر بـ"دعم الإرهاب" خلال الأزمة الخليجية (2015 - 2021).
بصية: ألق الصحراء
بعد سير طويل في الصحراء، لاح لنا من بعيد سور ترابي ونقطة تفتيش أمنية، تدل على وصولنا إلى ناحية "بصية" التابعة إدارياً لقضاء السلمان ويسكنها أكثر من ألفي شخص يمتهنون تربية الماشية والزراعة وبعضهم موظفون حكوميون.
تأسست هذه المنطقة عام 1920، وبناها الجنرال الإنجليزي كلوب باشا مع مركز شرطة لحماية السكان من هجمات القبائل النجدية حينها، ولم تبق من المركز سوى أطلال شاخصة حتى الآن.
يغلب الطابع البدوي الفلكلوري مع مسحة خليجية على بصية، الواقعة في عمق البادية.
اكتسب السكان هنا لهجتهم وعاداتهم الاجتماعية من شبه الجزيرة العربية، فمنطقتهم تعد امتداداً للجزيرة وتربطهم علاقات اجتماعية مع عشائر السعودية والكويت ويتبادلون الزيارات معها.
جلسنا في مضيف أحد الوجهاء، والتف حولنا مجموعة من الشباب يرتدون الزي العربي التقليدي وطلب منهم الشيخ تعليمنا رقصة "الدحة والسامري" التي يتميز بها سكان بادية المثنى.
بدأ الرقص.
انضممنا إلى فريق من 10 أشخاص وقابلنا فريق مماثل بالعدد، اختار أحدهم موضوعاً وأنشد بيتاً من الشعر مقفّى وموزونا بأسلوب نبطي، فرد عليه الفريق الآخر ببيت من الوزن والقافية نفسيهما.
من هنا تأخذ الرقصة اسمها، وتعني مسامرة بين مجموعتين.
أما رقصة "الدحة" فيطلق المشاركون فيها أصواتاً تشبه زئير الأسود.
أخبرنا أحمد حمدان الجشعمي، وهو باحث تاريخي يسكن "بصية"، إن هذه الرقصة متوارثة عندهم من عصر ما قبل الإسلام وكان أسلافهم يقومون بها ويطلقون الأصوات الجمعية الشبيهة بالزئير لإخافة الفيلة التي تأتي راكبة فوقها عليها جيوش الساسانيين لغزو قبائل بني شيبان الساكنة هنا، واستخدمت الحيلة في معركة ذي قار (حوالي سنة 609 م).
أّلّف حمدان، الذي يبدو عليه الفخر بمنطقته، كتابين هما "بصية ألق الصحراء وقافية الشعراء" (1) و"ثقافة الرمال" (2)، ويتناول فيهما تاريخ منطقته وتراثها وميزاتها ومقاومة سكانها للظروف الصعبة.
توسع في حديثه لنا وتطرق إلى طبيعة الأعشاب النادرة والأشجار الموجودة في بادية المثنى وما تمتلكه من مؤهلات اقتصادية "هائلة" كالترب والأطيان والأحجار والصخور التي بالإمكان استثمارها في صناعة الزجاج والاسمنت والرخام والسيراميك، فضلاً عن النفط والغاز، وآلاف الهكتارات الزراعية.
"لو استُغلت هذه الموارد بشكل صحيح لأصبحت البادية سلة اقتصادية للعراق ولتغير واقع المثنى من محافظة فقيرة إلى غنية".
الوركاء.. "كنز مُهمل"
انتهت الرحلة في البادية عند هذا الحد، وعدنا لنسلك الطريق الصحراوي من جديد.
يبدو أن كلام أحمد حمدان ذكّر نايف، الذي هو باحث أيضاً، بشيء يتعلق بموارد البادية.
قال وهو يقود السيارة في عمق الصحراء، إنه قرأ ذات مرة أطروحة دكتوراه بعنوان "التحليل المكاني للنباتات الطبية في بادية السماوة وإمكانية استثمارها"، وهي أطروحة ناقشها حسام كنعان وحيد جمعة في كليّة الآداب – جامعة بغداد عام 2017.
ونقل عن المؤلف أن البادية هذه تضم أكثر من 50 نوعاً من النبات الطبي، وإن 16 نباتاً منها يمكن استثماره في الطب وأغلبها معمرة وحولية، وأوصت الدراسة بضرورة استثمارها كون العراق لم يستثمر في هذا المجال سابقاً، بحسب نايف.
وصلنا إلى مدينة الوركاء أو "أوروك"، وهي تبعد 60 كلم عن السماوة، مركز محافظة المثنى.
المكان مهمل ولا يوجد قربه أي مطعم أو فندق للاستراحة.
تخطينا السور الخارجي للمدينة الأثرية ودخلنا من الباب الأول. سرنا فوق الرمال حتى وصلنا إلى زقورة الوركاء المعروفة وتتكون من 7 طبقات من الطين واللِبن.
أخذ نايف صفة الدليل السياحي، قائلاً إن جذور مدينة الوركاء تعود إلى 5 آلاف عام عندما بدأ الإنسان بالتحول والانتقال من شمال العراق إلى هنا وهو ما يعرف بعصر الاستيطان أو فجر الحضارات.
مرت على حكم هذه المدينة 5 سلالات سومرية وأدوار حضارية متعددة كالسومريين والأكديين والبابليين، لكن الفصل الأهم في تاريخها هو عصر اكتشاف الكتابة والحرف الأول.
كانت المدينة "تغفو على نهر الفرات" بتعبير نايف، لكن عوامل المناخ وتغيراته والتعرية غيّرت مسار المياه إلى مركز مدينة السماوة، وبقي كذلك حتى الآن.
انتقلنا من مكان إلى آخر، ومن سلالة إلى أخرى حتى وصلنا إلى معبد "اريكال" والمعبد الأبيض ومعبد "كاريوش" وبيت ريش والفسيفساء.
وهناك معابد أخرى مدفونة تحت الرمال تنتظر التنقيب الذي لم تكمل مهامه بعثات ألمانية جاءت في السابق، سوى بنسبة 5 بالمئة فقط.
لا يُذكر اسم الوركاء، إلّا وتحضر ملحمة جلجامش التي تجري أحداثها الأسطورية على هذه الأرض.
هنا جلجامش "رأى كل شيء" وخاب أمله بالخلود وأدرك أن أعمال المرء وأثره هما وحدهما من يخلّدانه، كما روت الملحمة وتعد أهم ميثولوجيا في بلاد الرافدين وفي العالم.
طوال الرحلة، كان أستاذا الجغرافية محمد وعلي متفاجئين بما يرونه فهذه أول زيارة يقومان بها إلى البادية وبحيرة ساوة والوركاء.
أبدى الأستاذان القادمان من بغداد أسفهما... "كيف يَفقر إنسان وهو محاط بكل هذا التاريخ والموارد الاقتصادية؟!" سأل أحدهما الآخر.
*خليل بركات كاتب وصحافي من العراق.
• ينشر بالتزامن مع موقع "جُمّار"http://www.jummar.media/
1- أحمد حمدان الجشعمي، "بصية ألق الصحراء وقافية الشعراء" اصدار"دار العلوم للطباعة"
2- أحمد حمدان الجشعمي، "ثقافة الرمال" اصدار"مؤسسة أديان للتصميم والطباعة والنشر"، محافظة المثنى، العراق، 2015