في مصر فقراء يستجيرون من الحر فيبتلعهم النيل

النيل على ضفتيه والترع المتفرعة منه متنزهات غير مكلفة لمحدودي الدخل والفقراء في مصر، خاصة خارج القاهرة. أما السباحة في مياهه فهي غواية لا يعرفها إلا من خاضها بخاصة في فصل الصيف. وأحياناً ما تكون مجال الترفيه الوحيد المتوفر بالقرى الصغيرة، وبديلاً عن قضاء الإجازات على شواطئ البحر في المدن الساحلية المكلفة.
2022-10-03

صفاء عاشور

باحثة وصحافية من مصر


شارك
على امل الانقاذ او استعادة جثة الغريق

ما تزال عائلة الطالبة "نهى" ذات السبعة عشر عاماً تنتظر العثور عليها، بعد اختفائها بالقرب من ترعة الإبراهيمية بمحافظة أسيوط بتاريخ العشرين من شهر آب/ أغسطس الماضي. ومنذ ذلك الحين والاستغاثات والمناشدات للأجهزة المعنية والصيادين وفرق الغوص المتطوعة لم تنقطع.

لم يكن هدف الجهود المبذولة إنقاذ حياة "نهى"، فهناك يقين لدى العائلة بغرقها المحتم، ولكن فقط العثور على جثمانها من أجل دفنها بطريقة لائقة، قبل أن تسحبها التيارات المائية بعيداً وتغيّر من ملامحها.

العائلة المكلومة لا تفضل الخوض في تفاصيل الواقعة الآن، فحياة أفرادها تبدو مثقلة بفعل الحزن كبطء ساعات الحائط القديمة الصدئة، بينما تتعلق أعينهم بشاشات هواتفهم أملاً في مكالمة تدلهم عن تفاصيل إضافية عن الحادث، أو خبر من متطوع عن انتشالها.

حكاية "نهى" واحدة من حكايات المئات وربما آلاف الشباب والأطفال من ضحايا حوادث الغرق في النيل والترع خلال أشهر الصيف، إذ يتحول لهوهم البريء هرباً من الحرارة إلى موت محتم، يفتت قلوب عائلتهم، خاصة في حالة تأخر انتشال جثامين أولادهم.

وعند مراجعة ملابسات حوادث الغرق تلك نجد ثلاث عوامل متكررة، أولها جهل الغريق بالسباحة، وثانيها غياب وحدات الإنقاذ القريبة، وثالثها تكرار الحوادث في نقاط بعينها، مع عدم محاولة منع ذلك عن طريق وضع لافتات إرشادية أو سياج للتحذير.

نزهة الغلابة

النيل على ضفتيه والترع المتفرعة منه تعد متنزهاً غير مكلف لمحدودي الدخل والفقراء في مصر، خاصة خارج القاهرة. أما السباحة في مياهه فهي غواية لا يعرفها إلا من خاضها بخاصة في فصل الصيف. وأحياناً ما تكون مجال الترفيه الوحيد المتوفر بالقرى الصغيرة، وبديلاً عن قضاء الإجازات على شواطئ البحر في المدن الساحلية المكلفة.

وعلى الرغم من حالات الغرق المتكررة، فضلاً عن الخطورة الصحية للسباحة في النيل والترع بسبب الملوثات، إلا أن برامج التوعية الحكومية للتحذير من تلك المخاطر توقفت نهاية التسعينات من القرن الماضي، بعد التخلص من شبح مرض البلهارسيا، الذي كان المحرك الرئيسي لتلك الحملات.

حكاية "نهى" واحدة من حكايات المئات وربما آلاف الشباب والأطفال من ضحايا حوادث الغرق في النيل والترع خلال أشهر الصيف، إذ يتحول لهوهم البريء هرباً من الحرارة إلى موت محتم، يفتت قلوب عائلتهم، خاصة في حالة تأخر انتشال جثامين أولادهم.

لا توجد إحصائية موثقة صادرة عن جهات رسمية بأعداد غرقى النيل والترع في مصر بوجه عام، تمكننا من الوقوف على مدى تكرار الظاهرة وشدتها، لذا تمت الاستعانة بما تناقلته صحف مصرية من حالات الغرق من أجل الوصول إلى معرفة أعمق بالظاهرة.

 خلال ستة أشهر في الفترة ما بين شهر آذار/ مارس إلى شهر آب/ أغسطس، نقلت وسائل الإعلام حوادث غرق ل 73 شاب وطفل، أغلبهم من الذكور، فالفتيات خياراتهنّ محدودة في السباحة نظرا للقيود المجتمعية.

احتلت محافظة الجيزة المركز الأول من بين المحافظات التي وقعت بها أعلى حالات للغرق بنسبة 22في المئة، تلتها محافظتي كفر الشيخ بنسبة 15 في المئة، ثم محافظة بني سويف بنسبة 9 في المئة. وتتناسب حالات الغرق المرصودة طردياً مع ارتفاع درجة الحرارة أيضاً، ومع فترات العطلات المدرسية، اذ أن أغلب الضحايا من الطلاب.

غابت أيضاً تقريباً حالات الغرق بالنيل والترع عن المدن الساحلية، فيما خلت القائمة من محافظة القاهرة، وكانت أغلب المناطق التي رصدتها بيانات الصحف ريفية، وربما يرجع سبب ذلك في الأساس إلى نقص وسائل الترفيه واللهو بتلك القرى.

عند مراجعة ملابسات حوادث الغرق نجد ثلاث عوامل متكررة، أولها جهل الغريق بالسباحة، وثانيها غياب وحدات الإنقاذ القريبة، وثالثها تكرار الحوادث في نقاط بعينها، مع عدم محاولة منع ذلك عن طريق وضع لافتات إرشادية أو سياج للتحذير.

وبوجه عام فإن إنفاق المصريين على الترفيه يأتي في ذيل قائمة ميزانيتهم، وفقاً لبحث الدخل والإنفاق الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء.

فيما يقل حجم الإنفاق على الترفيه في الريف عن الحضر، إضافة إلى انخفاضه من عام إلى آخر أيضاً بسبب الغلاء، فسجل خلال عامي 2017- 2018 نسبة 2.4 في المئة، بينما سجل خلال عامي 2019-2020 نسبة 2.3 في المئة.

إمكانيات معطلة

تدعم السلطة أشكالاً محددة للترفيه والثقافة المقدمة للأطفال والشباب أهمها قصور الثقافة، ومراكز الشباب، التي تتيح ممارسة الألعاب الرياضية بمصروفات رمزية مناسبة، لكنها لا توفر دائماً تعليم السباحة، الذي يعد أحد أسباب تكرار حالات الغرق في النيل والترع، فأغلب تلك المراكز لا تحتوي على حمامات سباحة في الأساس.

آخر ارقام لدى الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء تشير إلى أن عدد مراكز الشباب على مستوى الجمهورية يصل إلى ما يزيد عن 12 ألف مركز شباب بالمدن و25 ألف مركز شباب بالقرى.

فيما يصل عدد من يمارسون نشاط رياضة السباحة في كافة تلك المراكز مجتمعة إلى 525 لاعب، بواقع 56 فرقة فقط.

 عدد مدربي السباحة المسجلين في جميع مراكز الشباب المذكورة - وفقاً للمصدر نفسه - لا يتعدى 35 مدرباً، بينما عدد حمامات السباحة 15 حمام سباحة، يمثلون نسبة 2 في المئة فقط من إجمالي المرافق المسجلة بمراكز الشباب على مستوى الجمهورية.

ونجد أن المحافظات الثلاث التي كانت الأعلى في عدد حالات الغرق وفقاً لما رصدته الصحف، قد خلت تماماً من المدربين المسجلين، ما يعني أنه حتى في حالة وجود حمامات سباحة في تلك المراكز فإنها بالضرورة مغلقة.

وخلال صيف عام 2019 وبعد زيادة حالات الغرق في محافظة أسوان، طالب المحافظ السابق اللواء أحمد إبراهيم بضرورة تسهيل الاشتراك بحمامات السباحة بمراكز الشباب، كونها تتمتع بعامل أكبر من الأمان. وبالرجوع إلى أرقام المركز للمحاسبات تبين أنه لا وجود لحمامات سباحة مسجلة بالمحافظة من الأساس.

محاولات أهلية

بداية أشهر الصيف الحالي اتشحت النساء بقرية عرب العيايدة - بمنطقة الصف بمحافظة الجيزة - بالسواد، بعد غرق طفلين في عمر الحادية عشر من عائلة واحدة أثناء السباحة بترعة القرية.

أهالي القرية يروون كيف تحولت شقاوة عادية لثلاثة أطفال في لحظات إلى صرخات استغاثة، تجمع على أثرها المارة، ونجحوا في إخراج ثلاثتهم بالفعل، لكن اثنين منهم كانا قد فارقا الحياة.

النيابة صرحت بالدفن بعد التأكد من عدم وجود شبهة جنائية، وأن سبب الوفاة هو "أسفكسيا" (اختناق) الغرق، حيث تدفقت المياه إلى رئتي الطفلين، وأزاحت الأكسجين اللازم للحياة.

ووفقاً لمنظمة الصحة العالمية فإن الغرق يعد ثالث أهم أسباب الوفيات غير المتعمدة في العالم، وتقع أغلب وفيات الغرق في الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسطة بنسبة 91 في المئة.

آخر ارقام لدى الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء تشير إلى أن عدد مراكز الشباب على مستوى الجمهورية يصل إلى ما يزيد عن 12 ألف مركز شباب بالمدن و25 ألف مركز شباب بالقرى، فيما يصل عدد من يمارسون نشاط رياضة السباحة في كافة تلك المراكز مجتمعة إلى 525 لاعب، بواقع 56 فرقة فقط.

الحادثة المؤلمة أعادت إحياء مطالب أهالي منطقة الصف لمسؤولي الحي ومراكز الشباب ببناء حمام سباحة، حتى يكون بديلاً آمناً للأطفال عن السباحة في النيل والترع، لتجنب استمرار نزيف الأرواح.

وافقت الجهات المعنية بالفعل، لكن اشترطت أن يتكفل الأهالي بتكلفة بناء الحمام التي ستصل إلى 700 ألف جنية، وهو مبلغ لا يتناسب مع الميزانية المرصودة للأنشطة الرياضية بمركز الشباب.

بعض الأهالي قرروا التطوع لجمع المبلغ المطلوب، كما أكد ياسر الخضري، لكن عزيمتهم سرعان ما فترت بعد عزوف الناس عن التبرع، فالفقراء لا يستطيعون، والأغنياء لا يرون أهمية للأمر.

طالب الأهالي أيضاً مسؤولي حي الصف بعمل سياج وكتابة لوحة إرشادية بمنع السباحة وخطورة التيارات المائية في المناطق التي تشهد حالات غرق متكررة، ولكن الوعود للحي بالتنفيذ ظلت حبراً على ورق، وذلك على الرغم من ضغط أعضاء برلمانيون بارزون بالمنطقة لتحريك المطالب، بسبب تعرض أفراد من عائلتهم للغرق أيضاً.

ووفقاً لجولات ميدانية قامت بها معدة هذه السطور في مدينتي أطفيح والصف بمحافظة الجيزة، لا يوجد أي لافتات تحمل إرشادات تحذر من السباحة على امتداد النيل والترع في تلك المناطق، التي بالطبع أغلبها غير مسيجة.

وقد ترددت أنباء عن شروع الحكومة عام 2021 في وضع قانون لحظر وتجريم السباحة بنهر النيل والترع بهدف الحد من الغرق، ولكن المسودة النهائية له لم تصل بعد إلى مجلس النواب.

في العام نفسه أيضاً أطلقت وزارة الشباب والرياضة مبادرة "مصر بلا غرقى" بهدف نشر التوعية عبر مراكز الشباب ضد حوادث الغرق، لكن أنشطة المبادرة ركزت بشكل كبير على تأهيل المنقذين العاملين بشواطئ السواحل البحرية.

بطء الإنقاذ

تأخر وصول فرق الإنقاذ إلى نقاط ضحايا الغرق، يكون أحياناً المتسبب الأول في مضاعفة الخسائر أو سحب جثمان الغريق إلى منطقة بعيدة، فتفشل جهود انتشاله.

 الأهالي في منطقة الصف مثلاً يقولون إن فرق الإنقاذ قد لا تصل قبل ساعتين من توقيت البلاغ، والسبب هو عدم وجود وحدة إنقاذ قريبة من المنطقة، وهي الشكوى التي تكررت في عدد من القرى الريفية البعيدة عن مركز المدينة.

وتتبع فرق الإنقاذ النهري شرطة المسطحات المائية، وفي تصريحات إعلامية لمديرها السابق، أكد أن المسطحات بوجه عام تمنع السباحة في النيل، والرياضة الوحيدة المصرح بها هي التجديف، ما يعني أن زيادة وحدات الإنقاذ النهري على امتداد النيل من الممكن أن تمنع من حوادث الغرق بالفعل.

ويسعى بالفعل قاطنو القرى التي يكثر بها الغرق إلى تقديم طلبات لإقامة وحدات إنقاذ نهري، خاصة بمحافظات الصعيد، لكن نظر وحل الشكاوى من قبل الأجهزة الحكومية في مصر دائماً ما يتصف بالبطء.

عدد مدربي السباحة المسجلين في جميع مراكز الشباب لا يتعدى 35 مدرباً، بينما عدد حمامات السباحة 15 حمام سباحة، يمثلون نسبة 2 في المئة فقط من إجمالي المرافق المسجلة بمراكز الشباب على مستوى الجمهورية.

 ولحين البت في الطلبات المكدسة، أسست مجموعات من الغواصين المستقلين مبادرة باسم "غواصو الخير" بهدف التغلب على غياب أو تأخر وحدات الإنقاذ عن القرى، وتقديم خدمات تطوعية لانتشال جثامين الغرقى.

عبر صفحة المبادرة على فيسبوك، يتمكن أهالي الغريق من التواصل مع أفراد الفريق، ليهرع الغواص الأقرب منهم إلى مكان الحادثة، لحين وصول فرق الإنقاذ الحكومية.

مقالات ذات صلة

مصطفى عاشر أحد أفراد الفريق المتطوع، يرى أنه على الرغم من كون عمليات الإنقاذ في البحر أصعب من عمليات الإنقاذ في النيل، إلا أن البحر يطرد ما في جوفه سريعاً بسبب الأمواج، بينما يتأخر ظهور جثمان غريق النيل من ثلاثة إلى أربعة أيام، وفي حالة عدم ظهوره يكون عالقاً في الحشائش أسفل المياه.

يروي مصطفى موقفاً غريباً حدث له حين ذهب لإنقاذ فتاة غرقت في نزهة بمركز محافظة بني سويف، وكانت تسكن في قرية تبعد عن المركز كثيراً، وبعد أيام من البحث والمعاينة فشل الفريق في إيجاد الجثمان، ولكن بعد ذلك ببضعة أيام ظهرت جثة الفتاة على شاطئ قريتها، وكأنها أرادت بذلك الرفق بعائلتها المكلومة.

وعلى ذلك تستمر حالات الغرق والمحاولات الأهلية للإنقاذ، والوعود الحكومية بإيجاد الحلول القريبة، بينما يغامر الفقراء بسلامتهم من أجل لحظات من اللهو في المياه الباردة للنيل والترع، لا يدرك لذتها سوى من غابت عنه وسائل الترفيه الآمنة الأخرى. 

مقالات من مصر

للكاتب نفسه