يعود جهد د.فهمي إلى سنوات طويلة، على الأقل قبل عام 2001 عندما صدر كتابه «كل رجال الباشا»، وترجمه د.شريف يونس، ترجمة محترمة حقًا. الكتاب في الأصل رسالة فهمي للدكتوراه، التي حصل عليها من جامعة أوكسفورد، ورأى البعض محتواها باعتباره تحديًا للنمط الوطني السائد في الكتابة التاريخية، الذي يركّز على تاريخ الحكام والقادة، بينما غاب تاريخ «الأنفار» من الرجال والنساء، هؤلاء الذين تم تجاهلهم وتغييبهم، من العساكر والمصريين العاديين «العوام»، بينما تركزت معالجة فهمي على الجيش المصري الذي أسسه محمد علي، في ضوء فلسفة السلطة التي كانت تُخضع هذه المؤسسة لانتصارات السادة. طوال الوقت كان اسم الباشا أو ابنه إبراهيم باشا أو القادة الكبار يتردد وتسطّر المعارك والانتصارات بأسمائهم، وينعم عليهم بأكاليل النصر، بينما الأنفار لا يُعنى أحد بذكرهم.
أما في كتابه الثاني «الجسد والحداثة: دراسات عن الطب والقانون في مصر الحديثة»، ترجمة د.شريف يونس أيضًا، فقد تناول في فصوله تطور الطب بمعناه الحديث والنظام القانوني الجديد، غير المستوحى من الشريعة الإسلامية، وقدّم بالفعل رؤية جديدة ومشتبكة مع الكتابات السائدة للتاريخ الاجتماعي للقانون والطب.
وفي كتابه الأخير «السعي للعدالة: الطب والفقه والسياسة في مصر الحديثة»، يواصل هذا المشروع الطموح، ويقطع في سبيل تحقيقه خطوات، بل قفزات. الكتاب أصدرته دار الشروق في 539 صفحة من القطع الكبير، وعكف على ترجمته الكاتب حسام فخر، وأنتهز الفرصة لأحييه وأشكره على الترجمة المقتدرة الطلقة التي جعلت القارئ أكثر قدرة على الولوج إلى نص حافل يُعنى بتاريخ مصر الخديوية، بكل ما يعنيه ذلك من إشكاليات تتعلق بلغة الوثائق وغيرها من كتابات تلك الفترة.
أثر الفراشة: إبراهيم النبراوي نموذجاً
17-02-2022
على أي حال، ينطلق الكتاب من حدث يعتبره د.فهمي «فاصل»، وهو انعقاد أول درس تشريح في مدرسة الطب، التي كانت قد أنشئت في أبي زعبل شرق القاهرة. وكانت المدرسة التي أوكل الباشا محمد علي مهمة إنشائها إلى الطبيب الفرنسي كلوت بك، مهمتها تكوين خدمة طبية لجيشه الذي كان قد بدأ في تأسيسه عام 1822. والتشريح يعني بطبيعة الحال جثة يتولى المعلم تقطيعها أمام الطلاب ليتعلموا. وبتوالى تشريح الجثث، لم يعد التشريح لأسباب تعليمية فقط، بل أيضًا لأغراض قانونية، مثل تحديد سبب الوفاة وغيرها من المسائل التي يخرج «النفر» بمقتضاها وتتسلمه السلطة.
وهكذا ينتقل الكاتب لطرح الأسئلة التي رافقت حدثًا بتلك الضخامة، خصوصًا وأن التشريح والمعاينة الظاهرية للجثث «كانا جزءًا من ممارسات أوسع تبنتها الدولة منذ القرن التاسع عشر لتحكم سيطرتها على الأهالي»، مثل قيد المواليد والتطعيم والتجنيد الإجباري والكشف الطبي الدوري وتصاريح السفر. كيف واجه الناس هذه الأحكام الجديدة، وكيف تعاملوا معها «لمراقبة أجسادهم ومتابعتها والتحكم فيها»؟ من جانب سُلطة الدولة، وغيرها من الأسئلة.
بقية المقال على موقع "مدى مصر"