حول اندثار المدن: مثال "فُوّة" في محافظة كفر الشيخ المصرية

المدينة متحف تاريخي عميق القدم ومفتوح، يفاجئك عند كل زاوية أو وراء كل انحناءة بأثر تاريخي لا زال يقف راسخاً. و"فُوّة" على صغر حجمها تحتضن بين جنباتها أكثر من 365 أثراً تاريخياً إسلامياً حتى اختارت "اليونسكو" رعايتها ضمن منظمة "متاحف بلا حدود". ماذا عن الآن؟
2022-09-22

ممدوح عبد المنعم

كاتب، من مصر


شارك
التكية الخلوتية، مدينة فوّة، مصر.

هذه مدينة عقدت أواصر صداقتها المتينة مع الجغرافيا والتاريخ فى آن واحد. فهي تحتضن مثلثاَ مائياً باذخ الجمال في واحدة من تلك المنعرجات التى لا تنتهي على أحد فرعي النيل وهو فرع رشيد، فيما يتوسط ذلك المثلث جزيرة صغيرة كاملة الإخضرار كأنها رئة يفصلها الماء عن المدينة. المدينة متحف تاريخي مفتوح يفاجئك عند كل زاوية أو وراء كل انحناءة بأثر تاريخي تليد لا زال يقف راسخاً وشاهداً على سنوات ممتدة من التعاطي الحي والمتفاعل مع التاريخ .

ثمة شئ حميم فوق المعتاد يصاحبك على مدى تجوالك بتلك المدينة. أزقتها الصاعدة نحو الشرق وأزقتها الهابطة نحو النيل. بلاط شوارعها البازلتية ناصعة السواد. تلك الرائحة القديمة التى تفوح من المحلات ذات الأبواب الخشبية بمزاليجها الحديدية الطويلة التى انقرض طرازها فى كل مدن مصر ولا زالت فوة تحتفظ بها.. رائحة الغلال الطيبة التي تختلط بشكل ساحر ومرواغ بروائح بقايا الأقمشة التى تستخدم فى صناعة سجاد "الكليم" والأصواف التى تستخدم فى صناعة لوحات ال"غوبلان". الرائحة التى تختصر فى ومضة عابرة تاريخ المدينة ونشاطها الاقتصادي على مدى السنين، ثم تلك الألفة التى تجاورت بها مساجد وتكايا يمتد عمرها إلى عصور العثمانيين والمماليك مع تلك البيوت الجديدة التى أحاطت بها فى تصالح رحيم .

تنتسب المدينة إلى "فوة" (1) أحد أحفاد يعقوب النبي من أولاده الذين جاءوا إلى مصر تحقيقاً لرؤيا يوسف الصديق عليه السلام. وانتشروا في البلاد بعد أن تكاثرت أعدادهم وتفرقوا في مدنها وقراها شمالاً وجنوباً. وهى المدينة التى ذكرها "إميلينو" في جغرافيته وقال أنها "Poei"، وقد وردت في نص روماني قديم، وقرر "محمد رمزي" (2) أنPoei هى نفسها مدينة "فوة" المعروفة الآن وقد قلبت فاءها باء كما حدث مع مدن الفيوم وإدفو.

يَروج بين أهالي فوة مثلاً شائعاً أن "فوة تحب الغريب" ويأنس أهلها بسهولة لكل هؤلاء العابرين أو المقيمين الذين يأتون مدينتهم لأسباب متعددة. فللمدينة تاريخ ممتد فى استضافة الغرباء منذ العصر اليوناني الروماني حين عُرفت فوة بمدينة الأجانب لأنها كانت مقراً للقناصل التجاريين وأسرهم. وظلت فوة لسنوات طويلة أحد أهم الموانئ المصرية على فرع رشيد علاوة على توافد التجار الأجانب والمصريين إليها. ونبتت وشائج فيها نتيجة العلاقات الإقتصادية والإجتماعية التى أحدثها هذا المزيج المتعدد بين الأعراق شأنها فى ذلك شأن الأسكندرية. فذخرت شوارع المدينة بجنسيات شتى من دول العالم يرطنون بلغات متعددة ويتعاملون مع الأهالي بأريحية كاملة نظراً لتشابك المصالح وتداخل المنفعة. وكانت فوة ميناءً مجمعاً للمراكب القادمة والمقلعة بأنواع البضائع فى النيل.

كانت مآذنها المشرئبة نحو السماء منارات هادية للسفن فى الليل التي كانت تأتي من المتوسط كى تلقى مراسيها فى مينائها، حيث يأوى بحارتها إلى الوكالات والتكايا التى كانت تعج بها فوة والتى لا زال بعضها قائما إلى الآن مثل "ربع الخطايبة" ووكالة "ماجور". وتخبرنا كتب التاريخ وأوراق الرحالة أن فُوّة قد بلغت فى القرن الخامس عشر الميلادي غاية ما يمكن ان تبلغه مدينة من العمارة والثروة حتى أنها صارت أعظم مدن مصر بعد القاهرة.

فعلاوة على الحركة التجارية التى كانت تموج بها المدينة نتيجة قدوم السفن اليها فان أهل المدينة تجاوبوا وقدَروا تلك "النعمة" التى حظيت بها مدينتهم فنشطوا بشكل جماعى ليصنعوا ازدهاراً اقتصادياً ظل علامة لمدينتهم لقرون عديدة. فما يلفت النظر بحق أن هؤلاء الاهالي يدركون مكانة مدينتهم على امتداد التاريخ بحيث يمكن لأى منهم أن يسرد عليك بلا انقطاع كيف كانت المدينة وكيف اصبحت. ولديهم ثقافة شفاهية بالغة الثراء عن ذلك التاريخ كأنك تقرأ معهم في كتاب مفتوح، ويفخرون بأن مدينتهم على صغر حجمها تحتضن بين جنباتها أكثر من 365 أثراً تاريخياً إسلامياً حتى اختارت "اليونسكو" رعايتها ضمن منظمة "متاحف بلا حدود".

مساجدها المنارات ..

تعود مساجد فوة الكثيرة المنتشرة فى دروبها المتشعبة إما لأمراء أرادوا أن يخلدوا ذكرهم فى التاريخ ببناء تلك المساجد وإما لأولياء أو علماء مروا من هنا فطاب لهم المقام فاختاروا فوة كي تكون مستقرهم الأخير كخلوات للتعبد والذكر.

معظم هذه المساجد ما زالت قائمة حتى الآن وبحالة جيدة حتى أنك تستطيع أن ترسم صورة تقترب للغاية من الحقيقة لتلك المدينة منذ عده قرون.. وربما كان أشهر تلك المساجد هو المسجد الذي أنشأه الأمير "الصاحب بدر الدين بن نصر الله"، ثم ضريح وقبه "أبو النجاة" والذي ذكر علي مبارك أنه كان يضم أعلى مئذنة فى مساجد فوة بطول 80 متراً... بعض المساجد تضم "المراسيم الرخامية" وهى مراسيم سلطانية تتعرض فى نصوصها لبعض الموضوعات أو الأوامر مثل إلغاء ضريبة معينة أو إبطال بعض العادات الإجتماعية أو رفع بعض المظالم التي كانت سائدة فى ذلك الحين.

كانت آخر محطات الأزدهار التى وصلت اليها المدينة عندما حظيت باهتمام الوالي "محمد علي" الذى قام بانشاء عدة مصانع فيها مثل مصنع الطرابيش ومصنع الكتان ومحلجاً لحلج وغزل القطن ومضرباً للأرز. ولا زالت بوابات تلك المصانع شاهدة على ذلك التاريخ.

وبالتوازي مع إنشاء تلك المصانع قامت العديد من الصناعات اليدوية التى مارسها الأهالي البارعين فكانت فوة رائدة فى صناعة الكليم والغوبلان والفرش الصوفية والتى كانت تعرف طريقها للتصدير حتى بداية التسعينات من القرن الفائت، مما جعلها واحدة من أكثر مدن مصر ازدهاراً ونشاطاً على المستوى الاقتصادي.. عمل الجميع بمن فيهم النساء فى البيوت والأطفال وكل الشيوخ القادرين على العمل، فلم تعرف المدينة لعنة التبطل أو تبعات الكساد حتى جرى عليها ما جرى على كل شئ فى مصر، وعرفت أشكالاً جديدة وعديدة من "وقف الحال" لتدخل الصناعة التقليدية التى برع فيها السكان على مدى عقود طويلة في نفق الكساد المظلم .

الآن .. قبعت فوة كمدينة عادية لا تعني أكثر من كونها أحد مراكز محافظة كفر الشيخ فى شمال مصر. وحتى ثروتها المعمارية يبدو أنها تحولت الى مجرد شواهد على التاريخ بلا تفاعل أو أثر.

فعلى كثرة تلك المساجد والتكايا والآثار الاسلامية التى تعج بها المدينة إلا أنها تبدو كأنها آثار منسية. فالمدينة التى تمتلك كل هذا الزخم التاريخي الذى يملأ طرقاتها وأزقتها العديدة ليست مدرجة ضمن برامج الرحلات المدرسة أو الجامعية كما يحدث مع مدينة رشيد القريبة أو القاهرة الأم .  

______________________

 1- ذكرها ياقوت الحموي في "معجم البلدان" وقال "أن فُوَة بالضم ثم التشديد تعنى العروقة التي تصبغ بها الثياب الحمر وهو ما يخبرنا به معجم المعانى الجامع. أن فوة "عُشب مُعَمَّر من الفصيلة الفوِّية ينبت في شواطئ البحر المتوسط، سيقانه حُمر متسلقة وبذوره حُمر يستخرج منها صبغ الحرير والصوف".

2- "القاموس الجغرافي للبلاد المصرية" محمد رمزي (1871 - 1945) جغرافي ومؤرخ مصري وصاحب تصانيف علمية موسوعية 

مقالات من مصر

العاصمة المصرية في مفترق طرق..

رباب عزام 2024-11-21

على الرغم من الأهمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بالنسبة إلى المواطنين، للمنشآت والمباني المقامة حالياً على أراضي "طرح النهر"، خاصة في العاصمة القاهرة، إذ يشمل أغلبها كثيراً من الأندية الاجتماعية التابعة...

للكاتب نفسه

عمْ "سيِّد"

هو أحد أقارب والدي، لا أراه إلا نادراً. عرفتُ قصته بالصدفة في حوار عائلي عابر، ولكن الرجل – بعد تردد - أطلعني على بقية التفاصيل المؤلمة، التى لايعرفها إلا قلة...