تقوم ببنين ولا تقعد هذه الأيام. لا تنام كبرى بلدات الساحل العكاري التي تمتدّ من تخوم جرد القيطع إلى العبدة على شاطئ البحر، فيما يحيي أهلها الليالي وأعين نسائها متورّمة حمراء من البكاء والنحيب وقلّة النوم والخوف على أبنائهنّ وبناتهنّ ممّن حملوا أطفالهم/ن وخاضوا عباب البحر ليعلقوا في المياه الإقليمية في مالطا أو إيطاليا أو اليونان. الحصيلة: لا أحد يعرف مكان الذين هجّرتهم السلطة بعدما تركهم قبطان المركب المعطل بذريعة تصليحه، وغادر على متن قارب مطاطي ليأتي بميكانيكي، ولم يعد. 57 راكباً وراكبة، بينهم الكثير من الأطفال، نصفهم من ببنين على الأقل، فيما يتوزّع البقية بين سوريين وفلسطينيين، أبحروا قبل 4 أيام عن الشاطئ اللبناني وعلقوا في المياه البعيدة من دون طعام أو مياه للشرب “ما منعرف عنهم شي” كما يقول أحمد برغل، قريب أحد المهاجرين.
تيه المركب العالق في غياهب المتوسّط على أهميته وضرورة إغاثة المغادرين اليائسين على متنه، فجّر حقيقة ما يحصل على الساحل اللبناني في “موسم الهجرة إلى أوروبا” الذي يبلغ ذروته منذ شهرين ولغاية اليوم استلحاقاً لما بقي من فصل الصيف وبداية الخريف وقبل أن يزمجر الشتاء ومعه مخاطر الإبحار: “عم يطلع كل يوم مركب أو مركبان” يجزم أحد رجال العبدة الذي يلازم الشاطئ معظم ساعات النهار والمساء. “بالليل عم تطلع العالم”، يؤكد، ليشير إلى أنّه هاجر من بلدة ببنين وحدها نحو ألف شخص على الأقل منذ بداية الصيف ولغاية اليوم. هذا الكلام يستخفّ به مواطن آخر متابع لما يحصل على الشاطئ الشمالي ليقول “الحقيقة، وبتحدى أي حدا يجي يعمل إحصاء، إذا مش 3 إلى 4 آلاف شخص، بين رجل وامرأة وطفل قد رحلوا من ببنين وحدها، خدوا منّي لبدكم اياه”. ويدعو الرجل نفسه إلى البحث عن شبان ببنين ليجيب “صاروا معظمهم بأوروبا، وبعضهم ما زال في البحر، فيما يتّجه البقية للهجرة إذا تسنّى لهم تدبير المال اللازم لذلك”.
مأساة الحالمين على متن مركب..
28-04-2022
ما أن يرتاح إليك أحدهم حتى يخبر بما يعرف “عم يدفعوا من 5 إلى 6 إلى 7 آلاف دولار ع الشخص وفي حسومات ع الأطفال، أوقات بيطلعلك طفلين ببلاش إذا كانت العيلة من 5 أفراد وما فوق”. هنا يبيع المواطنون بيوتهم، سياراتهم وأثاث منازلهم وبعضهم يستدين المال، “وفي ناس عم تسرق” كما يقول شاب من ببنين، ليؤكد أنّ العاطلين عن العمل ليسوا وحدهم من يهاجر: “روحوا اسألوا عن نسبة العساكر لي عم تطلع بالبحر، الناس عم تهجّ من البلد المنهوب، ما بقى عندها خيار، ولا أمل، وأفق الناس مسدود ومظلم”. ومن أين يأتي الأمل؟ يسأل أحد الناشطين في عكار: من فاتورة اشتراك مولد الكهرباء التي تفوق راتب أي موظف أو عسكري؟ من ثمن الأدوية وعلاجات الأمراض المستعصية وحتى كلفة الاستشفاء العادي التي صارت عصية على كل الناس، ومن بينهم المضمونين ومعهم من كانوا يتمتعون بتغطية تعاونية موظفي الدولة والصناديق الضامنة؟ من ثمن ربطة الخبز التي لا تجدها تحت 25 ألف ليرة في معظم الأحيان؟ أم من ثمن كيلو اللحم البالغ نصف الحد الأدنى للأجور؟ عدا عن العام الدراسي الذي يطرق الأبواب وقد قُسمت أقساط المدارس الخاصة بين الدولار الفريش والليرة اللبنانية، بينما مستقبل التعليم الرسمي مظلم في ظل هجرة الأساتذة أو انخراطهم في مهن أخرى ترد عليهم ما يسد الرمق…
لا جوازات سفر.. والبحر وحده أمامكم
يتحدث الأهالي هنا في عكار أيضاً أنّه عدا عمّن يحجزون أماكنهم على متن المراكب، فإنّه مع حلول المساء يقصد كثر الشاطئ على أمل أن يعثروا على زورق هجرة يحملهم إلى المجهول، هؤلاء لا يمكنهم حتى استخراج جواز سفر، ولا يرون أمامهم سوى البحر كاحتمال للنجاة: “كل زورق هجرة عم يطلّع معه من 10 إلى 15 شاباً وبعضهم مراهقون والبعض الآخر لم يتخطّ العشرين من العمر، ببلاش”، يؤكد أحد المتابعين للملف “بيساعدوا القبطان وبيخدموا ع المركب، وبيكون المركب مطلّع نقلته، فبياخدوهن”. قبل أيام كان 3 أو 4 مراهقين يتسايرون ليلاً بالقرب من مرفأ العبدة وصودف موعد انطلاق رحلة هجرة غير نظامية. يقول أحد البحارة “لم يلزم الأمر سوى سؤال: بتاخدنا معك الله يخليك؟”، قالوا للقبطان الذي نظر إليهم لثوان قبل أن يجيبهم “ولك طلعوا يلّا”، ليضيف “لي عم يصير متل الأفلام، ما حدا بيصدق، وأهالي هؤلاء المراهقين لم يعرفوا مصيرهم إلّا عندما اتصلوا بهم من إيطاليا”.
قبل خمسة أيام قام أحد رجال عكار بـ “عمل خير” كما يصف صديقه فعلته. كان “فاعل الخير” شاهداً على تجهيز أحد مراكب الهجرة غير النظامية، ولكنه لاحظ أن وضع المركب ليس جيداً “عرف أنه فيه مشاكل وأشفق على النساء والأطفال خاصة”، وهكذا وما أن ابتعد المهاجرون أمتاراً قليلة عن الشاطئ حتى اتصل بالبحرية اللبنانية وأخبرهم عن موقع المركب ووضعه. وعليه تم اللحاق بالمركب ومطاردته إلى حين إعادته نحو الشاطئ بين منطقة العريضة والشيخ زناد على الساحل الممتد بين العبدة والحدود السورية لناحية طرطوس “رجعوا العالم سباحة ع الشاطئ”، وما زال المركب عالقاً ومعطلاً بين الصخور، وقد عاينته “المفكرة”.
قبل هذا المركب، ضبط الجيش اللبناني وبناء على معلومات استخباراتية 123 مهاجراً بطريقة غير نظامية. وقد تمّ تجميعهم في إحدى الشقق قبل يومين من حلول ساعة الصفر للإبحار. منظّم الرحلة حرّ طليق اليوم، فيما لا يعرف أحد مصير المبالغ التي دفعها الراغبون في الهجرة سلفاً، حيث يصار إلى دفع كامل المبلغ عند المغادرة، يؤكد أحد الركاب الذين تم التحقيق معهم، ليضيف “هلأ عم دبّر مركب تاني لإطلع”.
بقية التقرير على موقع "المفكرة القانونية"