منظمات المجتمع المدني في العراق.. رزقي ورزق عائلتي

كان الدعم الكبير الذي تتلقاه "منظمات المجتمع المدني" من سفارات الدول والمنظمات العالمية دافعاً لتزايد أعدادها في العراق، إذ وصلت حتى عام 2019 إلى 4700 منظمة، وهي آخر إحصائية ينشرها موقع "دائرة المنظمات غير الحكومية".
2022-09-08

علي فائز

كاتب وباحث من العراق


شارك
إحدى التصميمات التي ترمز الى منظمات المجتمع المدني في العراق

 ما أن تمّ إسقاط تمثال صدام حسين وسط "ساحة الفردوس" في بغداد، حتى برزت الكثير من منظمات المجتمع المدني، التي أخذت تتكاثر بشكلٍ كبير، واعتبر ذلك دلالة على "التحول الديمقراطي" لعراق ما بعد 2003، على اعتبار أنَّ "منظمات المجتمع المدني" سمة من سمات الديمقراطية وتشكِّل شبكات عابرة للتقسيمات الاجتماعية والاقتصادية العادية، فعدّت "ضرورية للحياة الديمقراطية ونمو المجتمع المدني وتحديثه ولبرلته". وفي 25 تشرين الثاني/ نوفمبر 2003، أصدر بول بريمر، الدبلوماسي الأميركي الذي شغل منصب مدير السلطة والحاكم المدني للبلاد، الأمر رقم 45، لإضفاء الطابع الرسمي على الدور الذي ستلعبه المنظمات غير الحكومية بصفتها من أدوات بناء المجتمع المدني الليبرالي في العراق.

دستورياً نصت المادة 13 الفقرة (ج) على الحق بحرية الاجتماع العلني وحرية الانتماء إلى الجمعيات والأحزاب والانضمام إليها، كما جاء في المادة 45 الفقرة (أولاً): "تحرص الدولة على تعزيز دور مؤسسات المجتمع المدني ودعمها وتطويرها بما ينسجم مع الأهداف المشروعة لها وينظم ذلك بقانون".

وللمحافظة على ديمومة هذه المنظمات وإثراء نشاطها، أصدر البرلمان العراقي قانون "مؤسسات المجتمع المدني" رقم 12 لسنة 2010، لكونها بحسب مسؤولين في الدولة تعبر عن الإرادة الجماهيرية والصورة الديمقراطية التي يعيشها "العراق الجديد"، وكذلك للدعوة إلى التثقيف في المشاركة في الانتخابات والترويج لحقوق الانسان وتقديم العون لمؤسسات الدولة بأخذها دور الحلقة الوسطى في المجتمع بين القاعدة الشعبية والقمة المتحكمة في أعلى الهرم السياسي.

وأثناء وجود القوات الأجنبية في العراق، حصلت هذه المنظمات على دعم كبير، وتبنت هي المشاريع الإنسانية. وبحسب مستشارة الديمقراطية الأقدم في سفارة الولايات المتحدة في بغداد "لوسي شانغ" فإن المساعدات وصلت وقتذاك إلى نحو 850 مليون دولار أمريكي. كما تعهدت الولايات المتحدة الأمريكية مع نهاية عام 2011، بعد أن أكملت عملية الانسحاب من العراق، بتقديم دعم مستمر لتمويل منظمات المجتمع المدني عبر "الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية" والتي كان تمويلها لتلك المنظمات يقدر بـ 75 مليون دولار. وهو ما زال مستمراً إلى اليوم.

أصبحت هذه المنظمات جزءاً من نسيج القبائل والفصائل والأحزاب السياسية والولاءات والارتباطات التي تشكل بنية المجتمع العراقي، وهو ما يمثل التفافاً على المجتمع والدولة في آن.

"إنهم ينتزعون الغضب السياسي ويقدّمون على شكل مساعدات أو فعل خير ما يجب أن يتمتع به الناس كحقٍ لهم"، تقول "أرونداتي روي" في حديثها عن توظيف المنظمات غير الحكومية السياسي. 

وفي المحصلة كان الدعم الكبير الذي تتلقاه منظمات المجتمع المدني من سفارات الدول والمنظمات العالمية دافعاً لتزايد أعداداها إذ وصلت حتى عام 2019، إلى 4700 منظمة، وهي آخر إحصائية ينشرها موقع دائرة المنظمات غير الحكومية. وبحسب "يونادم كنّا" رئيس "لجنة مؤسسات المجتمع المدني والتطوير البرلماني" في مجلس النواب آنذاك، فإنه يوجد "في العراق أكثر من 7 آلاف منظمة مجتمع مدني، من بينها 4 آلاف مسجلة عند الحكومة، وكلها تأسست في فترة ما بعد الاحتلال الأميركي للعراق".

ويمكن تقسيم هذه المنظمات إلى عدة مجموعات، الأولى هي المنظمات ذات الطابع الإنساني، وتتلقى تمويلها من المؤسسات الدينية والأحزاب وعامة الناس، وفي العادة يكون دافع دعم الأحزاب والمؤسسات الدينية الحصول على الدعم الدعائي الذي توفره هذه المنظمات، فضلاً عن دورها في التحشيد الانتخابي، وهذا ما عملت عليه هذه الأحزاب بعد 2003.

حصلت "منظمات المجتمع المدني" أثناء وجود القوات الأجنبية في العراق على ما تقول "لوسي شانغ"، مستشارة الديمقراطية الأقدم في سفارة الولايات المتحدة في بغداد، أنه بلغ وقتذاك نحو 850 مليون دولار أمريكي. 

المجموعة الثانية هي المنظمات ذات الطابع الاحتجاجي، والتي كان لها الدور الواضح في التحشيد للاحتجاجات، خصوصاً بعد انتفاضات 2011. وقد كمنت خطورة هذه المنظمات في "نزوعها التسلقي"، إذ سرعان ما يعقد أغلبها مفاوضات مع السلطة مقابل وظائف أو توفير امتيازات، وبذلك توجه ضربة في خاصرة الحراك الاحتجاجي وتساهم في تشتته وصولاً إلى تلاشيه، الأمر الذي أفقد المحتجين الثقة في هذه المنظمات وأصحابها.

المجموعة الأخيرة هي منظمات "الصالونات" وهي مولعة بالحضور في المؤتمرات النخبوية والمشاركة في اللقاءات والندوات الإعلامية. وهذه المنظمات تعيش حالة فصام مع المجتمع العراقي إذ لا يهمها الواقع المعاش بقدر ما يهمها كيفية التعامل مع المنظمات الدولية وسفارات الدول لاستحصال الأموال وقد كان لهذه المنظمات حصة الأسد في المساعدات الدولية التي تقدم إلى العراق (1).

مصادر التمويل وغياب الرقابة

وفقاً لقانون المنظمات غير الحكومية رقم 12 لعام 2010، المادة (13): "تتألف موارد المنظمات غير الحكومية من اشتراكات الأعضاء، والتبرعات والمنح والوصايا والهبات والهدايا الداخلية والخارجية، والعوائد الناتجة من نشاطات المنظمة ومشاريعها". وأهم مورد تحصل عليه هذه المنظمات هو المنح والهدايا الداخلية والخارجية، ولا يعلن أغلبها عن الدعم المالي الذي تتلقاه، كما إنها كثيراً ما تكون أدوات طيعة في يد السلطة والأحزاب السياسية والفصائل المسلحة للقيام بعملية تخادمية: المال مقابل الترويج والدعاية ورعاية المشاريع والبرامج وتطبيع المجتمع مع فصائل مسلحة نافذة في البلاد. وبذلك أصبحت جزءاً من نسيج القبائل والفصائل والأحزاب السياسية والولاءات والارتباطات التي تشكل بنية المجتمع العراقي، وهذا ما يمثل التفافاً على المجتمع والدولة في آن.

والأنكى من ذلك أنه حتى هذه اللحظة لا يوجد في قانون المنظمات غير الحكومية نصاً يبين آلية الرقابة المالية أو يلزم المنظمة بالكشف عن حجم التمويل الذي تتلقاه، وما الذي حققته من خلاله على أرض الواقع. فهي تعمل تحت غطاء المشاريع الإنسانية لكنها في الواقع تتخذ من مآسي الناس وسيلة لكسب تعاطف الناس وكسب دعم المنظمات العالمية لتحقيق المنافع الشخصية واستحصال الجوائز في ظل الفوضى وغياب الآليات والمعايير الحكومية لقبول هذه المنظمات وتسجيلها ومراقبة اعمالها.

في ظل هيمنة الاقتصاد الريعي في العراق المعتمد كلياً على القطاع النفطي، فإن السلطة تجنح نحو الاستفراد بمقدراتها والاستبداد والشخصنة لأنها في منأى عن الشعب لتوفير مواردها (العمل والإنتاج والضرائب) وهي تنشئ "الزبائنية السياسية" أي الولاء مقابل الوظيفة، ولا تحتاج إلى منظمات المجتمع المدني كأدوات وسيطة بقدر ما يهمها وجودها الشكلي لتنقل صورة "ديمقراطية" إلى العالم. 

يذكر الدكتور فالح عبد الجبار (2) إنَّ أهم العقبات التي تواجه عمل منظمات المجتمع المدني هو الفساد، إذ إنَّ عدم توفر الرقابة المناسبة من قبل المانحين قد يوقع المنظمات غير الحكومية في فخ الممارسات الفاسدة، كسوء استغلال التمويلات أو سوء استخدام التفويض، وكثيراً ما يتم انتقاد المنظمات غير الحكومية في الشرق الأوسط على مثل هذه الممارسات الشاذة، حتى إنَّ أحد الكتاب اقترح زيادة أحرف على أسماء هذه المنظمات غير الحكومية لتصبح TINGOs أو FINGOs أو GINGOs وغيرها حيث تدل أحرف Tو F و G على المنظمات غير الحكومية المرهونة للقبائل (Tribal) والعائلات (Family) والعصابات (Gangster) (3).

منظمات في خدمة السياسة

لم تستطع منظمات المجتمع المدني في العراق أن تُحدث فك الارتباط بينها وبين العمل السياسي أو على الأقل أن ترسم حدوداً فاصلة بين العمل المدني والسياسي. فأغلب هذه المنظمات تحولت إلى منصات للمصالح السياسية على الصعيد الداخلي والخارجي، ومرد ذلك إلى أنَّ انبثاقها لم يأتِ ضمن سيرورة تاريخية تخلق أرضية صلبة تقف عليها فجاءت في مجتمع لم تزل بنيته قائمة على المقدس والعصبية القبلية. فالمجتمع المدني حتى تكون ولادته طبيعية وتنبثق من خلاله المنظمات، يحتاج إلى عدة مسارات يتطور من خلالها على سبيل المثال، اقتصاد السوق، وبناء المؤسسات الوسيطة، والإعلام الحر، ومؤسسات رقابية في دول، وأخيراً بناء المنظمات غير الحكومية التي تتبنى قضايا معينة.

لا يوجد في قانون المنظمات غير الحكومية العراقي نصٌ يبين آلية الرقابة المالية أو يلزم المنظمة بالكشف عن حجم التمويل الذي تتلقاه، وعما حققته على أرض الواقع. وتحت غطاء المشاريع الإنسانية تتخذ من مآسي الناس وسيلة لكسب تعاطفهم ودعم المنظمات العالمية، وغالباً ما تحقق منافع شخصية وجوائز في ظل الفوضى وغياب الآليات والمعايير الحكومية لقبول هذه المنظمات وتسجيلها ومراقبة اعمالها.

بينما، وفي ظل هيمنة الاقتصاد الريعي في العراق المعتمد كلياً على القطاع النفطي، فإن السلطة تجنح نحو الاستفراد بمقدراتها والاستبداد والشخصنة لأنها في منأى عن الشعب لتوفير مواردها (العمل والإنتاج والضرائب) وهي تنشئ "الزبائنية السياسية" أي الولاء مقابل الوظيفة، ولا تحتاج إلى منظمات المجتمع المدني كأدوات وسيطة بقدر ما يهمها وجودها الشكلي لتنقل صورة "ديمقراطية" إلى العالم، بالإضافة إلى إمكانية استخدامها في تأطير غضب الناس وقت الأزمات، وخداعهم. وكل ذلك يفسر تصاعد أعداد هذه المنظمات: "إنهم ينتزعون الغضب السياسي ويقدمون على شكل مساعدات أو فعل خير ما يجب أن يتمتع به الناس كحقٍ لهم" كما تقول "أرونداتي روي" (4) في حديثها عن توظيف المنظمات غير الحكومية السياسي. وهكذا أصبح من المتعسر أن تعمل منظمات المجتمع المدني كما يراد لها أن تعمل، ومن المستحيل أن توفر حصانة تحميها من إغراءات السلطة.

مقالات ذات صلة

وفي المحصلة جاءت صورة هذه المنظمات بلا ملامح ولا يستطيع أحد أن يفرزها عن المنظمات الحكومية والأهلية، إذ تارة تستخدم كدعاية لأصحاب المناصب حينما تقوم بتنفيذ مشروع صغير يفتتح من قبلهم، وتارة أخرى تفاوض السلطة باسم الحركة الاحتجاجية وتكتفي ببعض المناصب والامتيازات، وتارة تكون أداة لأحزاب سياسية وتنفذ مشاريعها. ولا يلحظ المواطن أي إثر أو نشاط ملموس لهذه المنظمات على أرض الواقع، شأنها شأن المؤسسات الحكومية عديمة الفاعلية والمنخورة من الداخل. 

______________________

1 - علي حمود الطاهر، جمرة الحكم - شيعة العراق ومخاضات بناء الدولة الأمة بعد 2003، سلسلة دراسات فكرية، جامعة الكوفة، ص220 – 221.

2 - فالح عبد الجبار، المجتمع المدني في عراق ما بعد الحرب، معهد الدراسات الاستراتيجية، بغداد، 2006

3 - فالح عبد الجبار، المصدر نفسه ص 50-51.       
4- كاتبة هندية وناشطة سياسية فازت بجائزة بوكر الأدبية سنة 1997 عن روايتها "إله الأشياء الصغيرة"، وفي عام 2002 فازت بجائزة لانان لحرية الثقافة. كما أنها أيضا كاتبة لاثنين من السيناريوهات وعدة مقالات.

مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

العائدون من الحياة إلى الحياة!

علي فائز 2024-06-03

"يستحي الأسير العراقي من ذكر تجربته ويحاول تجنّبها، ويستمر في عملية التجنّب عقوداً طويلة. وغالباً ما يصاب الأسرى ب"عقدة الناجي". فالناجي من الشدائد الفاجعة، يُحمِّل نفسه ما يُسمّى بـ "ذنب...

فلسطين قضيتنا نحن العراقيين!

علي فائز 2023-11-11

استفز الرئيس الأمريكي جو بايدن ذاكرة العراقيين بعد أن نصح الإدارة الإسرائيلية بأن تكون الحرب على غزّة أقرب إلى ما حدث في الموصل عام 2016، وليس الفلوجة عام 2004، وأرسل...