تدهور التعليم المهني في مصر

يبلغ عدد مدارس التعليم الفني في مصر 2204 مدرسة بحسب إحصائيات "الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء" في 2017، وقد ارتفع العدد ليبلغ 2350 مدرسة في 2019. ويبلغ عدد الطلاب في تلك المدارس بأنواعها المختلفة (الصناعية والتجارية والزراعية والفندقية) أكثر من مليون و800 ألف طالب وطالبة.
2022-09-05

ممدوح عبد المنعم

كاتب، من مصر


شارك
التعليم المهني

التعليم الفني في جميع دول العالم، هو المصدر الرئيسي لإمداد سوق العمل بالعمالة المدربة والجاهزة فنياً وبدنياً للمهمات الموكلة لها. ولكن واقع الحال في مصر ينبئ بجلاء بأن هذا النوع المهم من التعليم ينحدر بخطوات متسارعة نحو حضيض غير مسبوق بحيث أصبحت مدارس التعليم الفني مفرغة من مضمونها وخريجيها يحتلون أرصفة التبطل لسنوات ممتدة، وأصبح مستوى تعليمهم وتدريبهم مجالاً للتندر والسخرية... وأصبحت تلك الملايين التى تنفق على هذا النوع من التعليم كأنها قبض الريح.

فعلى الرغم من وجود أزمة شاملة في منظومة التعليم المصرية ككل، إلا أن التعليم الفني يحظى بالنصيب الأوفر من تلك الأزمة. يبلغ عدد مدارس التعليم الفني في مصر 2204 مدرسة بحسب إحصائيات "الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء" (1)، وقد ارتفع العدد ليبلغ 2350 مدرسة في تموز/ يوليو 2019. ويبلغ عدد الطلاب في تلك المدارس بأنواعها المختلفة (الصناعية والتجارية والزراعية والفندقية) أكثر من مليون و800 ألف طالب وطالبة.

علاوة على ذلك، يوجد 290 مدرسة من مدارس "التعليم الفني المزدوج" القائم على تدريب الطلاب في المصانع تدريباً عملياً مباشراً بغرض التأهيل الكامل لحاجات سوق العمل.

ويحظى التعليم الصناعي بنسبة 50 في المئة من إجمالى التعليم الفني بينما تبلغ نسبة التعليم التجاري 34 في المئة منه والتعليم الزراعى 13 في المئة ويبقى للتعليم الفني الفندقي ما نسبته 3 في المئة.

ومع ذلك، فكل ما سبق مجرد أرقام لا معنى لها ولا علاقة لها بمتطلبات سوق العمل الذي لا يعير هؤلاء الخريجين أي اهتمام .

ففي دراسة لـ "مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية" تقول الباحثة "نورا فخري" أنه "على الرغم من تخصيص الدولة لمقدراتها ومخصصات موازناتها العامة السنوية والتراكمية لخدمة قطاع التعليم الفني، إلا أن كل الموارد المالية المخصصة لم تسفر عن تأسيس وتشغيل وإدارة مدارس التعليم الفني للمساهمة في تحقيق تقدمٍ حقيقي في مجال التنمية الاقتصادية المختلفة" (2).

يشهد التعليم الفني بمصر سنوياً تخريج 450 ألف طالب تحت سن الـ 30 معظمهم خارج قوة العمل، خاصة من الإناث الحاصلات على تعليم تجاري، ومعظم من حصل على فرص وظيفية من خريجي التعليم الفني يعملون في القطاع غير الرسمي، وفي ظروف عمل غير لائقة. 

يتبدى السبب الأول والأهم والذي قاد إلى تلك النتيجة هو انعدام الصلة بين متطلبات سوق العمل وبين خريجي تلك المدارس. فعلى الرغم من العناوين البراقة للتخصصات المختلفة في التعليم الفني إلا أن واقع الحال ينبئ بأن ثمة فجوة هائلة بين ما يجد هؤلاء الدارسين أنهم قد تعلموه وبين سوق العمل الذي ينبذهم منذ عشرات السنين بلا كلل، في الوقت الذي لم تضع الدولة خطة محكمة تضمن استيعاب هؤلاء الخريجين داخل منظومة كاملة من التنمية على الرغم من توسعها في بناء المزيد من المدارس والعمل بين وقت وآخر على استحداث طرق تدريس تبدو للوهلة الأولى وكأنها محاولة تطوير وتحديث.. مما يبعث على الدهشة والارتباك .

فالتعليم هو عملية اقتصادية في جانب مهم من جوانبها (إضافة للاكتساب الثقافي والمعرفي والتربوي)، حيث يهتم اقتصاد التعليم "بتكاليفه ومردوده وبالعلاقة بين النفقة والمنفعة، سواء على مستوى الفرد أو على مستوى الاقتصاد القومي ففي ضوء الدراسات حول مردود التعليم عُدت التربية صناعة "مربحة" تزيد عائداتها الاقتصادية والاجتماعية زيادة كبيرة على تكاليفها، وهذا ما نادى اقتصاديو التعليم إلى تنظيم استثماره ليعطي أفضل مردود" (3)

فإذا قمنا بتطبيق تلك القاعدة على التعليم الفني في مصر فنحن أمام خسائر متراكمة من الإنفاق على بناء المدارس وأجور المعلمين وتدريب الطلبة والخامات والأجهزة المستخدمة من غير أن تكون لدينا منظومة مدركة لكيفية الاستفادة بالناتج النهائي لكل ذلك، أو الجرأة اللازمة على تحويل ذلك النوع من التعليم أو تلك المدارس إلى تخصصات أخرى يمكن الاستفادة بها وإدراجها داخل سوق العمل لتعويض هذا الإنفاق والبحث عن "مردود" يضع جدوى لكل ذلك . وربما كانت تجارب دول جنوب شرق آسيا في هذا الاتجاه وخصوصاً سنغافورة وماليزيا تقدم نموذجاً ملهماً لكيفية التطبيق الصارم والمدروس بين ما يتم تقديمه من تعليم فني متعدد وبين ما يحتاجه سوق العمل، إذ أن اقتصاديات تلك الدول منفتحة على الأسواق المحلية والعالمية بشكل متجدد ومستمر بحيث لا يصبح هناك ثمة مجال لإهدار المزيد من الموارد على أنماط من التعليم والتدريب لا تحتاجها تلك الدول.

السبب الأول والأهم والذي قاد الى الانحدار هو انعدام الصلة بين متطلبات سوق العمل وبين خريجي تلك المدارس. فعلى الرغم من العناوين البراقة للتخصصات المختلفة في التعليم الفني إلا أن واقع الحال ينبئ بأن ثمة فجوة هائلة بين ما يجد هؤلاء الدارسين أنهم قد تعلموه وبين سوق العمل الذي ينبذهم منذ عشرات السنين بلا كلل. 

وبنظرة سريعة على مخرجات التعليم الفني في مصر ومدى انقطاع الصلة بين تلك المخرجات وحاجة سوق العمل، تقول الدكتورة نهلة عبد التواب ممثلة مجلس السكان الدولي "أن التعليم الفني بمصر يشهد سنوياً تخريج 450 ألف طالب تحت سن الـ 30 معظمهم خارج قوة العمل، خاصة من الإناث الحاصلات على تعليم تجاري، ومعظم من حصل على فرص وظيفية من خريجي التعليم الفني يعملون في القطاع غير الرسمي، وفي ظروف عمل غير لائقة" (4) .

أما السبب الثاني والذي يفضي مباشرة إلى ترهل وضعف التعليم الفني في مصر فيكمن في ضعف المستوى العلمي والتدريبي لخريجيه والذي بدأ مبكراً للغاية وقبل التحاق هؤلاء الخريجين بمدارس التعليم الفني. فعادة ما يتم اختيار الطلاب الحاصلين على أدنى مجموع في امتحانات الإعدادية العامة والإعدادية المهنية للالتحاق بهذا النوع من التعليم، وهم في الغالب ينحدرون من المدارس النائية في القرى والنجوع الفقيرة والتي تكون بعيدة عن كل أشكال الرقابة المركزية، مما يضاعف من المجهود الذي يضطر معلمو ومدربو هؤلاء الطلاب إلى تكبده، وفي النهاية لا يكون مستوى هؤلاء الخريجين مقترباً حتى من الحدود الدنيا اللازمة لتأهيلهم وتدريبهم مما يجعل فرصهم في الالتحاق بوظائف في صلب تخصصهم الذي درسوه بالغة الندرة إذا ما تم اخضاعهم لاختبارات جدية قبل إلحاقهم بتلك الأعمال .

تبدى ذلك الضعف أيضاً نتيجة غياب التنسيق بين مدارس التعليم الفني وبين مراكز التدريب المهني التابعة لوزارات أخرى، مما فوت فرصاً شديدة الأهمية للترقي بمستوى خريجي تلك المدارس، كما ظلت "برامج المنح والمعونات والتي تم تقديمها لتلك المدارس محدودة الأثر، من حيث محدودية نطاق تطبيقها، مكاناً وزماناً. فهي برامج غير ممتدة ولا شاملة، وقد ركزت في معظمها على إصلاح الترتيبات الإدارية والتنظيمية للمدارس الفنية على حساب إصلاح المناهج أو تدريب المدرسين على التقنيات الحديثة أو تأسيس وتجهيز المعامل والورش تجهيزاً فنياً" (5).

يقودنا السببان الأول والثاني إلى السبب الثالث لضعف وتأخر التعليم الفني في مصر وهو النظرة المجتمعية التي تضع خريجي مدارس التعليم الفني في تصنيف اجتماعي متدنٍ يصيب هؤلاء الخريجين بالإحباط وفقدان الجدوى وغياب الدافعية حتى مع انخراط بعضهم في أسواق العمل من خلال فرص ضئيلة للغاية، إلا أنهم يظلون طوال الوقت يعانون من تلك النظرة التي يدمغهم بها المجتمع ويضعهم في تصنيف "الحاصلين على الدبلوم" الذي صار مترادفاً ومترافقاً مع الفقر والدونية ونقص الكفاءة وانعدام الفرص في الترقي الاجتماعي على كافة المستويات.

... أخبرني "عماد عواد" وهو أحد الحاصلين على دبلوم المدارس الثانوية الزراعية من إحدى مدارس محافظة البحيرة أن "نظرة المجتمع ما زالت قاصرة نحو خريجي مدارس التعليم الفني حيث يراهم أقل في المكانة من زملائهم الحاصلين على الثانوية العامة حتى أنهم ينظرون إليهم وكأنهم لم يتعلموا قط! وأنه لهذا السبب بالتحديد سعى كي يستكمل تعليمه الجامعي..

السبب الثاني والذي يفضي مباشرة إلى ترهل وضعف التعليم الفني في مصر فيكمن في ضعف المستوى العلمي والتدريبي لخريجيه والذي بدأ مبكراً للغاية وقبل التحاق هؤلاء الخريجين بمدارس التعليم الفني. 

كل ما سبق من أسباب وعقبات يمكن تلافيها في المدى المنظور إذا ما درست دراسة متأنية مع معالجة أوجه القصور بحيث يتاح لذلك الخريج تدريباً جيداً من خلال منظومة تعليمية وتدريبية متكاملة. وهو ما قد يحقق لديه حالة من "الرضا" المهني والاجتماعي، باعتبارهم "صنايعية" مهرة ليس فحسب بفضل الخبرة، كما هو الحال تقليدياً، وإنما أيضاً بفضل التعليم والاطلاع على أحدث التقنيات والتدرب المسبق عليها. 

______________________

1- نشرته صحيفة الأهرام في عددها الصادر في 24 / 11 / 2017   
2- السياسة العامة للتعليم الفني في مصر 5 / 1 / 2017   
3- https://www.kachaf.com/wiki.php?n=5ed8c00167717625af0da735   
4- "اخبار اليوم" 26 كانون الأول/ ديسمبر 2018   
5- السياسة العامة للتعليم الفني في مصر (مركز الأهرام ) 5 / 1 / 2017 

مقالات من مصر

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

في مصر يمكنك فقط الاختيار بين سجن صغير وآخر أكبر

إيمان عوف 2024-12-09

تحوّل القانون رقم (73) لسنة 2021، الذي يتيح فصل الموظفين المتعاطين للمخدرات، إلى أداة لملاحقة العمال والنشطاء النقابيين العماليين، والنشطاء السياسيين والصحافيين. وعلى الرغم من اعتراض النقابات والجهات الحقوقية على...

للكاتب نفسه

عمْ "سيِّد"

هو أحد أقارب والدي، لا أراه إلا نادراً. عرفتُ قصته بالصدفة في حوار عائلي عابر، ولكن الرجل – بعد تردد - أطلعني على بقية التفاصيل المؤلمة، التى لايعرفها إلا قلة...