يحدث أن يقع بعض زائري اليمن من الرحّالة والمستشرقين الغربيين في حبّ البلد الذي ما زال يحتفظ بالكثير من ملامح الحياة القروسطية. أقامت الطبيبة الفرنسية "كلودي فايان" في أول زيارة لها لليمن سنة ونصف، ثم تتالت زياراتها 26 مرة بين العامين 1951-1993، حتى أن الحكومة منحتها الجنسية اليمنية تقديراً لحبّها للبلد وخدمتها الإنسانية لسكّانه. مواطنها "فرانك ميرميه" أقام في صنعاء أكثر من أربع سنوات، وهناك آخرون من جنسيات أوروبية مختلفة تجاوزت إقامة بعضهم الثمان سنوات. لكن أن تطول فترة إقامة أحدهم 37 سنة، فهذا رقم قياسي لم يبلغه سوى "تيم ماكنتوش سميث"، ولا يبدو أن أحداً سينافسه عليه لما تبقى من القرن الواحد والعشرين.
كيف جاء هذا "المتيّم المهووس" إلى اليمن؟
ولد "تيم ماكنتوش سميث" في 17 تموز/ يوليو 1961، لأسرة متديّنة في مقاطعة "لينكونشير" شرق إنجلترا. حين كان في طفولته وصباه، أحبّ الموسيقى واللغة. درس العزف على الأورغن بكلية "كليفدن" في "بريستول"، وبطبيعة نشأته في أسرة متدينة، أصبح يعزف على هذه الآلة في الكاتدرائيات. بعد ذلك حصل على منحة لدراسة كلاسيكيات الأدب الإغريقي والروماني في جامعة أكسفورد، لكنه وجد نفسه يتجه نحو اللغة العربية الفصحى وآدابها.
في حواراته للصحافة، غالباً ما تحدّث "سميث" عن لحظة انقياده لدراسة اللغة العربية، تلك اللحظة التي ملّ فيها من دراسة كلاسيكيات "فيرجيل" و"هوميروس" وغيرهما، وشعر بأنه يرغب بشيء أكثر تحدّياً. بدأ بتعلّم اللغة العربية بمساعدة قاموس اصطحبه معه إلى "كوخ في الجزر الغربية ("هابرديز" الخارجية) في اسكتلندا، حيث حبس نفسه هناك إلى أن اكتسب مهارة نظرية لا بأس بها بلغة العرب. ويذكر صديقه "برنابي روجرسون"، وهو بريطاني آخر شغوف بالتراث العربي الإسلامي، أن في ذلك الوقت من بداية ثمانينيات القرن العشرين، كان هناك فجوة بين دراسة الأدب العربي وبين التحدّث به. لذلك اقترح سميث على معلّمه أن يذهب إلى اليمن لملء تلك الفجوة. "سمعت أنهم يتحدثون العربية النقية هناك"، قال لمعلّمه. لكن الأخير ردّ بامتعاض، فاليمن في نظر معظم المثقفين الغربيين بلد متخلّف وخطير: "كلهم يقولون ذلك أيها الغبي، ألا تستطيع الذهاب إلى بلد آخر محترم؟". كان ذلك في العام 1982، وأمام إصرار الطالب "الغبي" الذي لم يكن تجاوز سنّ الحادية والعشرين، وافقت إدارة أكسفورد على سفره لمدة سنة. في العام التالي عاد سميث إلى بريطانيا بنتائج أذهلت معلّميه، وتمكن من إقناع الجامعة بتمديد إقامته تسع سنوات أخرى.
لحظة تحوّل أخرى
الزيارة الثانية لسميث إلى صنعاء تضمنت مهمة تدريسية في المجلس الثقافي البريطاني. تمّ وصفه بـ"المستعرب"، وظلّ يدرّس طيلة السنوات التسع، يذهب صباحاً إلى مقرّ عمله ويعود إلى بيته المستأجَر في أحد أحياء صنعاء القديمة، بينما يصقل مهارته في اللغة العربية ويستكشف الأدب العربي ويعقد صداقات مع جيرانه ويدرّس أولادهم اللغة الإنجليزية والموسيقى. أتقن لهجة سكان صنعاء وبعض اللهجات اليمنية الأخرى، وبعد كل هذه السنوات ترسّخ حبّ اليمن في قلبه ولم يعد راغباً بالعودة إلى بريطانيا.
في العام 1991، زارت صنعاء الروائية الإيرلندية "إدنا أوبراين". كان "تيم" دليلها في التجوال بالمدينة، وفي لحظة فارقة في حياة المستعرب الإنجليزي، قالت له إدنا: "إنها جريمة أن تعيش هنا ولا تكتب عن هذا البلد". توجه تيم بعد ذلك للتأليف، وفي 1997، أصدر أول كتبه: "Yemen: Travels in dictionary land"، الذي أنهى ترجمته البروفيسور اليمني الراحل عبد الله فاضل فارع في 2003 بعنوان كلاسيكي: "رحلة المتيّم المهووس في بلاد القاموس"، كما صدرت النسخة الأمريكية من الكتاب بعنوان: "اليمن: العربية المجهولة".
استُقبل الكتاب في الأوساط الغربية بحفاوة، لكن ترجمته العربية التي كان يفترض أن يتبنى إصدارها المجلس الثقافي البريطاني بصنعاء، لم تر النور. نال جائزة "توماس كوك" لكتب الرحلات بصحيفة "ديلي تليجراف" كأفضل كتاب رحلات كلاسيكي للعام 1998، وتضمنت مراجعة صحيفة "نيويورك تايمز" له أن سميث "حافظ على هدوئه بما يكفي لمعرفة ما نريد وماذا نستحق"، وبذلك تفوق على "الغربيين" الذين "يذهبون إلى أجزاء من الجزيرة العربية، ثم يبدؤون، بنصف جنون، في محاولة التعبير عن جوهرها وجاذبيتها".
درّس "سميث" طيلة السنوات التسع الاولى منذ وصوله الى اليمن في العام 1982، وصقل مهارته في اللغة العربية وعقد صداقات مع جيرانه ودرّس أولادهم الإنجليزية والموسيقى. وبعد كل هذه السنوات ترسّخ حبّ اليمن في قلبه ولم يعد راغباً بالعودة إلى بريطانيا. كان يسافر لإلقاء محاضرات في أوروبا وأمريكا وبعض البلدان العربية، ثم يعود إلى منزله في صنعاء القديمة.
فتح هذا الاستقبال الغامر لكتابه الأول، شهية "المستعرب" وكاتب الرحلات الإنجليزي لتأليف كتب أخرى، ليس عن اليمن فحسب، بل عن الجزيرة العربية بصورة عامة. لكنه مضى أبعد من ذلك بعد أن اشترى ذات يوم بعض قطع البطاطا المسلوقة من بائع متجول في صنعاء القديمة. سأله رجل عجوز عمّا إذا كان يعرف سبب تسمية "البطاطا"؟ "أنت أخبرني"، قال المستعرب، وأجاب العجوز بأن "ابن بطوطة" هو الذي جلبها إلى اليمن فسمّيت باسمه.
مرة أخرى لعبت اللحظة دوراً محورياً في تحولات السيد "سميث"، إذ توجه على الفور لشراء كتاب "رحلة ابن بطوطة: تحفة النُّظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار". أعجبه سرد الرحالة المغربي لتفاصيل حياة العالم الإسلامي في القرن الرابع عشر الميلادي/ الثامن الهجري. في ما يخص اليمن، أعجبه اهتمام ابن بطوطة بوصف تقاليد تناول الطعام وأصنافه في مأدبة السلطان الرسولي "المجاهد نور الدين ابن المؤيد هزبر الدين داوود" وهو حفيد أشهر ملوك الدولة الرسولية في اليمن المظفر يوسف بن علي بن رسول. صادف أن كان أحد أصدقاء "سميث" في صنعاء من آل المجاهد، وأخبره بأن ذلك السلطان هو جدّه. وطيلة السنوات اللاحقة حتى العام 2010، عمل سميث على تتبع خطى ابن بطوطة في العالم الإسلامي، ليخرج بمؤلف ضخم من ثلاثة أجزاء.
"رحلة مع الطنجي"
عندما كان الطالب في جامعة أكسفورد يحاول إقناع معلّميه بالموافقة على رحلته إلى اليمن، كانت خطّته البديلة أن يتتبع خطى "تي إي لورانس" الشهير بـ"لورانس العرب". لكنه بعد وصوله صنعاء وجد نفسه واقعاً في شراك ابن بطوطة. "شعرتُ بلحظة من الارتباط الاستثنائي مع ابن بطوطة، كان الأمر كما لو أني دخلت إلى ذاكرته، وكدت أتفاجأ أنه لم يذكرني في كتابه"، قال "سميث" لمحاورته "سو ليونارد"، مازجاً بين الجدّية والدعابة، وهو أسلوبه المميز في كتابته أيضاً، كما في سلسلة الوثائقيات التي أنجزها لقناة (BBC) اعتماداً على نصوص الأجزاء الثلاثة من كتابه. عنون الجزأين الأول والثاني بـ"رحلة مع الطنجي"، بينما عنون الثالث بـ"الوصول إلى اليابسة".
اشترى ذات يوم بعض قطع البطاطا المسلوقة من بائع متجول في صنعاء القديمة. سأله رجل عجوز عمّا إذا كان يعرف سبب تسمية "البطاطا"؟ "أنت أخبرني"، قال المستعرب، وأجاب العجوز بأن "ابن بطوطة" هو الذي جلبها إلى اليمن فسمّيت باسمه.
بعد العام 2010، ملأت شهرة "تيم ماكنتوش سميث" آفاق أوروبا وأمريكا وحظيت كتبه بمبيعات عالية، لكن في اليمن، لم يعرفه سوى جيرانه وعدد من الأصدقاء المقربين، إضافة لبعض الإعلاميين المغمورين. وعلى الرغم من أن قناة "الجزيرة مباشر" استضافته في أحد برامجها، لم تلفت تجربته انتباه الداخل اليمني، ولعلّ "سميث" نفسه كان يحرص على الظهور المحدود في وسائل الإعلام اليمنية والعربية. كان يسافر لإلقاء محاضرات في أوروبا وأمريكا وبعض البلدان العربية، سيما في الخليج العربي، ثم يعود إلى منزله في صنعاء القديمة.
في ريبورتاج تلفزيوني لقناة محلية، قال "سميث" إنه يشعر بأنه صار واحداً من اليمنيين، بينما يرِد في فقرة مقتبسة من مسودة الترجمة العربية لكتابه الأول، أنه كان يتحدث لبعض أصدقائه اليمنيين عن كونه "ليس مسلماً". صديقه "برنابي روجرسون" قال على إثر لقائهما بصنعاء في 2010، إنه وجده "ما زال بريطانياً بفخر"، "ليس مغترباً لامعاً ولا متديناً يختبئ خلف لحية وهوية جديدة جادة". كما أنه ما زال ذلك العضو في كنيسة إنجلترا "الذي يعزف على الأرغن وفقاً لمعايير الكاتدرائية"، بينما لا يزال شقيقه يرمّم الكنائس وأمه تقيم في بيت الرهبان القديم في "لينكولنشير".
وعلى الرغم من ملاحظة "روجرسون" أن "سميث" بدا لامبالياً "بالسحر الشبيه بالفقاعات للمجتمع المغترب والدبلوماسي" الأوروبي في اليمن، فقد لاحظ كذلك إلى أي مدى ارتبط بعلاقة صداقة مع المؤرخين الإنجليزيين "جوليان رابي" و"فينيتيا بورتر"، وكاتبي الرحلات "كيفن راشبي" و"إريك هانسن". كان هؤلاء يشجعونه على الاستمرار في الكتابة، ولعل ذلك ما قصده "سميث" في حواره مع "سو برنارد" عندما قال إنه كان بحاجة لـ"دفعة" للمضي قدماً في تدوين حياته في "بلاد القاموس". لقد عاش بين الناس البسطاء، في أحد البيوت القريبة من "سوق البقر" في صنعاء القديمة، حيث تباع الحمير التي التقط أنف روجرسون رائحة روثها، بينما كان يمضغ القات في مجلس الضيوف بالطابق الأعلى لمنزل سميث. يتساءل الضيف: "ما الذي يبقي تيم في صنعاء؟"، وما الذي جذبه إلى ابن بطوطة؟ ويأتيه جواب "المستعرب الكلاسيكي" على الشق الأول من السؤال على هيئة اعتراف: هذه المدينة "مصدر إلهام لكتاباته... لأنه يسكن بين الناس الذين ما زالوا يقدّرون الإيمان والموسيقى والشعر الشفهي والتاريخ وعلم الأنساب والمحادثات، فوق الثروة التي يمكن التخلص منها".
"تيم ماكنتوش سميث" هو من الجيل التالي لجيل الناقد وكاتب السيَر "جيرالد مارتن" (المولود في العام 1944) الذي أنفق من عمره 17 سنة لاستقصاء حياة غابرييل غارسيا ماركيز، لكي يكتب سيرة ذاتية لرجل هو نفسه كاتب!
لا يبدو أن الإجابة كانت مقنعة للصديق الضيف، إذ لا بد أن ما يبقي "تيم" في صنعاء يتضمّن أسباباً أخرى من قبيل رخص المعيشة مقارنة ببريطانيا، حيث يمكن أن يكفي "الأجر الزهيد الذي يكسبه أي كاتب متعلم من مبيعات الكتب" لتوفير الطعام والماء والكتب والأصدقاء... أصدقاؤه اليمنيين الذين درّسهم الإنجليزية والموسيقى خلال ما يقارب الثلاثين سنة، ثم صار يدرّس أطفالهم بعد أن ترقوا في مناصب وزارية في الحكومة وأساتذة جامعات.
هل كان ذلك فعلاً ما أبقى "تيم ماكنتوش سميث" في اليمن لمدة 37 سنة؟
في ملامح الشغف الإنجليزي
من الواضح أنه لا ينحدر من أسرة ثرية، ولا بد أن اقتصاد المعيشة كان ضمن أولوياته ليعيش كل هذا العمر في بلد لا يربطه به سوى شغفه بلغته وأدبه. ثم إن المواطن البريطاني معروف بحسبته الدقيقة لاقتصاد المعيشة بغض النظر عن مستواه الاقتصادي، وهي ميزة على أية حال. غير أن "المستعرب" وكاتب الرحلات الذي غادر بلاده شاباً، لم يكن له هدف آخر- كما يبدو- سوى استكشاف شغفه الخاص، الشغف الإنجليزي الذي قاد "توماس إدوارد لورانس" (1888-1935) للتحوّل من عالم آثار إلى مرشد ثوري للعرب من أجل إخماد النفَس الأخير للإمبراطورية العثمانية، هو نفسه الشغف الذي جعل من الشابة "جيرترود بيل" (1868-1926) "ملكة غير متوّجة" للعراق. كانت المملكة العظمى تغذّي وتستثمر هذا الشغف في نفوس مواطنيها لاستكشاف العالم في ضوء الشمس التي لا تغيب عن مستعمراتها. "تيم ماكنتوش سميث" هو من الجيل التالي لجيل الناقد وكاتب السيَر "جيرالد مارتن" (المولود في العام 1944) الذي أنفق من عمره 17 سنة لاستقصاء حياة غابرييل غارسيا ماركيز، لكي يكتب سيرة ذاتية لرجل هو نفسه كاتب!
يتساءل ضيفه: "ما الذي يُبقي تيم في صنعاء؟"، وما الذي جذبه إلى ابن بطوطة؟ ويأتيه جواب "المستعرب الكلاسيكي" على الشق الأول من السؤال على هيئة اعتراف: هذه المدينة مصدر إلهام لكتاباته... لأنه يسكن بين الناس الذين ما زالوا يقدّرون الإيمان والموسيقى والشعر الشفهي والتاريخ وعلم الأنساب والمحادثات، "فوق الثروة التي يمكن التخلص منها".
عندما غادر سميث بريطانيا، كانت حكومة مارجريت تاتشر تكافح للاحتفاظ بما تبقى من الهيبة الإمبراطورية التي نالت منها الحرب العالمية الثانية على الرغم من الانتصار. أما الشاب اليافع، فكان يبحث عن ذاته في "عتمة" صنعاء، بعيداً عن التاج غير المستعد لفقدان المزيد من ظلاله في "حرب الفوكلاند" مع الأرجنتين. كانت المدينة القديمة مظلمة حين وصلها، وأصوات بكاء تنبعث من بعض نوافذ الطوابق العلوية، كما قال. شهد كلّ جوانب التحوّلات في اليمن، بما في ذلك الوحدة السياسية بين شمال البلاد وجنوبها، وصار بإمكانه التجوال في مساحة أكبر في كافة جهاتها. حتى عندما اندلعت الحرب الدائرة إلى اليوم منذ العام 2014، مروراً بانعطافتها الكبرى في آذار/ مارس 2015، لم يغادر تيم صنعاء.
يقول في مقدمة مقال حديث: "بقيت في صنعاء وسط القذائف والجنازات. وبعد مرور أكثر من ست سنوات، لم يبدُ أن الكابوس يُظهر أية علامة على الانتهاء". وفي أحدث حوار صحافي له قال إنه واصل العيش في صنعاء القديمة منذ أن وصلها في 1982، "باستثناء عام واحد أمضيته في أوكسفورد. لقد كنت هناك خلال أسوأ سنوات الحرب الحالية، وفي الواقع، لم "اضطر" قَطّ إلى المغادرةِ. ولكن في عام 2019 سافرت مع اثنين من أفراد عائلة من صنعاء، وهي عائلة دائماً ما كنت على صلة وثيقة بهم، من أجل دعم دراستهما الجامعية في ماليزيا. ما زلت أعتبر نفسي من سكان صنعاء، ينتظرني بيتي، ومكتبتي، وبقية العائلة". لم يتحدث عن المكان الذي استقر به المقام فيه بعد صنعاء، لكنه يظهر في تسجيل منشور على "يوتيوب" في 2021، يقول فيه إنه في سلطنة عُمان. يبدو أن كتابه الأخير الذي أصدره بعد مغادرته الأخيرة لصنعاء، يحرز المزيد من النجاح والانتشار. "العرب: 3000 سنة من تاريخ الشعوب والقبائل والإمبراطوريات"، ومن حديثه عن الكتاب والمراجعات التي حظي بها، يتّضح أن تجربة حياة "سميث" في اليمن بلغت قدراً كبيراً من النضج. لكننا لن نعرف تحديداً - قبل أن نقرأ مُجمل كتبه الثمانية - إذا ما كان تخلّى عن العين الفنتازية التي طالما رأى بها الكتّاب الغربيون بلدان الشرق الغارق في غرائبيته. على أن مقدمته لكتابه الأخير تظهر أن فنتازية الشرق كامنة في أقصى نقطة من بؤبؤي عينيه. ففي حديثه عن عدن، يلتقط طقساً قديماً لسكان المدينة كان ابن بطوطة أتى على ذكره في "تحفة النظار"، ثم يتحدث عنه في سياق المعتقدات الدينية للمجتمع. هذا الطقس ليس دينياً وإن كان لا يخلو من ملامح الدين. فصعود سكان عدن إلى قلعة صيرة يوماً في السنة، ليس طقساً دينياً بل تقليد عقائدي تبدو جذوره موغلة في القدم، حيث يخرج الناس في كرنفال إلى البئر المنحوتة في أعلى القلعة ويقدمون قرابين من مواشيهم يرمونها إلى البئر لإخماد النار التي يمكن أن تنبعث منها.
لا يخلو سياق سميث من مسحة استشراقية وهو يصف هذا الطقس، كما لو أن أنثروبولوجياً أوروبياً من الرعيل الأول قابعاً في لاوعيه. غير أن ما يميزه عن غيره من نظرائه الأوروبيين هي تلك التلقائية النادرة في حبٌه لليمن لدرجة المغامرة بنصف عمره لدراسة واستكشاف البلد. استكشف تيم اليمن من داخله، بل من أصغر مستوى في البنية الاجتماعية للبلاد، حارة "سوق البقر" في صنعاء القديمة... انطلق منها إلى معظم مناطق "بلاد القاموس".
-----------------
تم الاعتماد في كتابة هذا النص على المراجع التالية:
1- Tim Mackintosh-Smith's Yemen""- برنابي روجرسون، صحيفة "تليجراف" البريطانية، 30/ 10/2010.
2- Lure of Yemen sparks extraordinary connection for top travel writer Landfalls""- سو ليونارد، "إيريش إجزامينر"، 15/ 10/ 2011.
3- "المستعرب البريطاني ماكنتوش سميث: قراءة اللغة العربية تشبه لعب الشطرنج"، حوار إليزابيت كنوبلاوخ، ترجمة: يسرى مرعي، موقع "قنطرة"، 19/12/ 2021.
4- " A Castle in the Air…"، تيم ما كنتوش سميث، موقع "نيولاينز"، 26/3/2021.
5- "تيم ماكنتوش سميث وكتابه “اليمن.. رحلات المتيم المهووس في بلاد القاموس”، صحيفة "الثورة" اليمنية، 19/4/2014.