تبعث لي صديقتي المغتربة مثلي خارج العراق رسالة نصية تقول "أحتاج تذكيراً كل بضعة دقائق بأنني لستُ في العراق، وبأن الشوارع هنا آمنة. أخاف الخروج إلى الشارع، كأن المعارك تحدث خارج بابي الآن".. وكأنها تصف شعوري تماماً، فكلما أخذتني عيناي إلى خارج النافذة في البلد الذي أنا فيه ورأيتُ الحياة هادئة وطبيعية، تلتبس لدي المشاعر وكأنني أتفرج من نافذتي على فيلم لا أعرفه. أهرع إلى هاتفي وأرسل رسالة أخرى هذه المرة إلى صديقتي في بغداد، وهي تسكن في منطقة مقابلة للمنطقة الخضراء حيث يجري الاقتتال منذ يومين متتالين، فتجيبني "نعيش برعب حقيقي، إبني خائف ويرفض النوم. الرصاص يتساقط من السماء كالمطر". لا أعرف بماذا أجيبها سوى بعبارة "اعتنوا بأنفسكم" البائسة. وأعود فأتسمر أمام الشاشة منتظرة خطاب الصدر الموعود ولا أنتظر منه الحلول. فقد فقد العراقيون الأمل من الحل منذ وقت بعيد.
إنْ حدث والتقيتَ/التقيتِ بأي عراقية أو عراقي في أي بقعة من العالم، سواء داخل العراق أو خارجه، ومهما كانت أعمارهم، انتظروا قليلاً. فخلال الحديث معهم ستسمعون قصصاً لا يمكنها إلا أن تكون قد سببت اضطراب ما بعد الصدمة. نحن شعب يعاني منذ أجيال من هذا الاضطراب، نمر به ونتوارثه من أهلنا ونورثه لأطفالنا. حروبنا ليست حروباً عادية - إن كان من الممكن أن نطلق هذا الوصف على أي حرب كانت. العراق يعيش حرباً واحدة مستمرة وممتدة، لا تنتهي لكنها تأخذ أشكالاً مختلفة، وذلك منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي. نحن في حرب طاحنة مع الحرب ذاتها. سريالية عراقية بامتياز. ولم أرَ في حياتي شعباً يكره الحرب كالعراقيين، بينما هي تصر على مطاردتهم منذ عقود طويلة.
هل ستصبر أرض العراق التي صبرت آلاف السنين، أم أن الوقت قد حان لتلفظ من تبقى منا إلى الأبد، فترتاح منا بعد أن حولناها إلى صحراء جافة في حين كانت أرض الرافدين وأرض السواد لكثرة النخيل فيها.
"برداً وسلاماً يا عراق" ربما تكون هذه العبارة الأكثر استخداماً من قبل العراقيين في اليومين الماضيين. أزمات متتالية لا تنتهي منذ شهور، حكومة لا تُشكّل، صراع على أحقية الحكم بين الأحزاب الموالية لإيران المتمثلة بما يسمى "بالإطار التنسيقي"، وبين التيار الصدري الفائز في الانتخابات وذي القاعدة الشعبية الأكبر من بين من شاركوا في الانتخابات في العراق. قاربتْ المدة أن تصبح عاماً كاملاً من مسرحيات قذف وذم واتهامات وتهديد بالسلاح بين ممثلي تلك الأحزاب والتيار وأتباعهم.
فضائح وتسريبات صوتية لسياسيين كبار، لو كانت في بلد غير العراق لحوكم هؤلاء بالخيانة العظمى، لكنه العراق بلاد العبث. بين الحين والآخر يقرر فصيل مسلح استعراض قوته في الشارع ضد فصيل مسلح آخر، فتمتلئ شاشات الإعلام العراقية بممثلي تلك الفصائل ومن تحميهم من الأحزاب، يرعدون ويزبدون لبضعة أيام ثم يهدؤون ليبدأوا جولة جديدة بطريقة أخرى مبتكرة. آخرها كان اعتزال كاظم الحائري، المرجع الشيعي العراقي، من مرجعيته. وهو الحاصل على لقب آية الله العظمى، في سابقة لم يسجل مثلها في تاريخ المذهب الشيعي! الحائري وهو القائد الأكبر في حزب الدعوة وذو التوجه الإيراني، يعيش في مدينة قم الإيرانية منذ نفيه من العراق عام 1970. وقد كان من المفترض أن يحل محل محمد باقر الصدر كمرجع في العراق، إلا إن ذلك تعذر عليه بسبب إقامته في إيران. فأصبح مستشاراً أو ناصحاً لمقتدى الصدر الذي بدوره صرح سابقاً بأنه يتبع نصائح الحائري بإخلاص. غير أن الهوة بين "قم"، التي تتبع مدرسة ولاية الفقيه (المذهب السياسي) و"النجف" التي لا تؤمن بولاية الفقيه بل بانفصال المذهب عن السياسة، بدأت تتسع بشكل كبير حتى من قبل ما تبدأ أزمة الانتخابات العراقية الأخيرة. بل هناك صراع تاريخي بين المدرستين. وقد عبرت "قم" عن نفاذ صبرها لفشل محاولاتها المستمرة نقل المرجعية الشيعية إلى إيران، في حين أن هذه المرجعية كان مركزها تاريخياً وما زال في مدينة النجف في العراق. وقد جاء اعتزال الحائري من مرجعيته بحجة المرض والشيخوخة، وتوصيته لأتباعه باتباع خامنئي بمثابة إقصاء لمرجعية العراق وضربة للصدر الذي يحاول منذ فترة إبعاد نفسه عن إيران وإضفاء صبغة عراقية على خطابه، منادياً بالإصلاح والقضاء على الفساد والسلاح المنفلت - الذي يقع جله بيد تياره الصدري من جهة والتيارات الموالية لإيران من جهة أخرى.
بين الحين والآخر يقرر فصيل مسلح استعراض قوته في الشارع ضد فصيل مسلح آخر، فتمتلئ شاشات الإعلام العراقية بممثلي تلك الفصائل يرعدون ويزبدون لبضعة أيام ثم يهدؤون ليبدأوا جولة جديدة بطريقة أخرى مبتكرة. آخرها كان اعتزال كاظم الحائري، المرجع الشيعي العراقي، من مرجعيته. وهو الحاصل على لقب آية الله العظمى، في سابقة لم يسجل مثلها في تاريخ المذهب الشيعي!
ما أن أعلن الحائري اعتزاله المرجعية في 29 آب/أغسطس الجاري، حتى سارع الصدر إلى إعلان اعتزاله السياسة، مما دفع بأتباعه للخروج بمظاهرات واقتحام المنطقة الخضراء والقصر الرئاسي في بغداد. وبدأت الاشتباكات المسلحة بين أتباع التيار الصدري والمليشيات الموالية لإيران تمطر سماء بغداد وبعض المدن الجنوبية بالرصاص. أعادت الأحداث شريطاً يعرفه العراقيون جيداً. فهذه حرب، تشبه حرب الفصائل عام 2006-2008 التي قادت البلاد إلى جحيم وموت عبثي، حيث كانت مشاهد الجثث هي ما يستيقظ عليها الناس وما يصادفه الأطفال في طريقهم إلى المدرسة. عاد الشعب داخل العراق أولاً ثم خارجه إلى استذكار صدمات لم ينسها يوماً ويعيش تبعاتها حتى في تفاصيل حياته اليومية. صوت الرصاص ومدفعية الهاون التي كانت نتيجتها مقتل 33 عراقياً خلال يومين فقط، علاوة على مئات الجرحى، كانت بمثابة القضاء على الأمل لدى كل العراقيين، والذي كان ضعيفاً بالأساس بعد كل هذه الأزمات السياسية. فقد أضيف هذا الهم والإحباط إلى الكوارث البيئية التي تهدد بإنهاء الحياة في مناطق متعددة من العراق، بسبب الفساد والسياسات العشوائية التي أدت إلى التصحر وجفاف المياه في الأهوار وانخفاض مستواها في نهري دجلة والفرات، وفشل الحكومة العراقية المعتاد في أن تجد حلاً دبلوماسياً لمشكلة السدود التي تبنيها الجارتين إيران وتركيا على منابع الأنهار ومجاريها.
جاء خطاب مقتدى الصدر غاضباً ومقتضباً، دعا فيه أتباعه إلى إنهاء الاحتجاجات والعودة إلى بيوتهم خلال ساعة. "لا مظاهرات ولا حتى سلمية" قالها غاضباً، "القاتل والمقتول في النار، ما أريد أكررها بعد"، لأنهم حسب قوله هددوا حياة العراقيين. رفض الصدر الحديث عن السياسة، وأكد عدم اعترافه "بالسنينة العشائرية" أي خروج أبناء العشائر ليأخذوا بثأر من قُتلوا من أبنائهم المنتمين للتيار الصدري في الاحتجاجات الأخيرة. وأكد أنه يؤمن بالشرع فقط وبـ " إن الدم العراقي حرام، حرام، حرام". ما أن أنهى الصدر خطابه وأجاب باقتضاب شديد على سؤالين، حتى بدأت الشوارع تعود لحركتها الطبيعية، وبدأ أتباعه بالعودة إلى بيوتهم، ورفع حظر التجوال. بينما عبر رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي عن ارتياحه وشكره لمقتدى الصدر لأنه وضع حداً للعنف الذي لف البلاد ليومين متتالين.
تتسع الهوة بين "قم"، التي تتبع مدرسة ولاية الفقيه و"النجف" التي لا تؤمن بولاية الفقيه بل بانفصال المذهب عن السياسة، حتى من قبل ما تبدأ أزمة الانتخابات العراقية الأخيرة. وهناك صراع تاريخي بين المدرستين. وقد عبرت "قم" عن نفاذ صبرها لفشل محاولاتها المستمرة نقل المرجعية الشيعية إلى إيران، في حين أن مركزها تاريخياً وما زال في مدينة النجف في العراق.
بدأت الاشتباكات المسلحة بين أتباع التيار الصدري والمليشيات الموالية لإيران تُمطر سماء بغداد وبعض المدن الجنوبية بالرصاص. أعادت الأحداث شريطاً يعرفه العراقيون جيداً. فهذه حرب، تشبه حرب الفصائل عام 2006-2008 التي قادت البلاد إلى جحيم وموت عبثي، حيث كانت مشاهد الجثث هي ما يستيقظ عليها الناس وما يصادفه الأطفال في طريقهم إلى المدرسة.
ولكن السؤال بقي عالقاً، أين الحل؟ متى ستشكل الحكومة؟ هل سيحل البرلمان كما كان الصدر يطالب منذ أسابيع مما أدى إلى تفاقم خلافه مع أحزاب الإطار التنسيقي؟ إلى متى سيبقى العراقيون يعيشون تحت رحمة الحلول المؤقتة وخطر اندلاع حرب فصائل جديدة؟ ماذا سيكون شكل التيار الصدري في المرحلة المقبلة؟ كم جيلاً من العراقيين سيبقى متوارثاً لاضطراب ما بعد الصدمة؟ وهل ستصبر أرض العراق التي صبرت آلاف السنين، أم أن الوقت قد حان لتلفظ من تبقى منا إلى الأبد، فترتاح منا بعد أن حولناها إلى صحراء جافة في حين كانت أرض الرافدين وأرض السواد لكثرة النخيل فيها.