66 عاماً على صدور مجلة الأحوال الشخصية: كيف حال التونسيات؟

66 عاماً مرت على إعلان "مجلة الأحوال الشخصية" التي عُدّلت عدة مرات مع تطور أوضاع المرأة التونسية، والتي أردفت بنصوص أخرى، خاصة بعد ثورة 2011. مكاسب كثيرة على مستوى النصوص لا تنعكس دائماً على أرض الواقع، وحتى وإن انعكستْ فبشكل غير متساوٍ بين نساء البلاد.
2022-08-25

شارك
مظاهرة نسائية في صفاقس - تونس 1960.

تحتفل المرأة التونسية "المحظوظة" بعيدين بدلاً من عيد واحد: اليوم العالمي للمرأة في 8 آذار/مارس وعيد المرأة التونسية في 13 آب/أغسطس من كل سنة. ويوافق التاريخ الثاني ذكرى إصدار "مجلة الأحوال الشخصية" في سنة 1956 بعد أقل من أربعة أشهر من استقلال البلاد (شباط/مارس 1956) وقبل سنة من إعلان الجمهورية (1957) وثلاث سنوات من إصدار أول دستور في تونس المستقلة (1959). ولطالما اعتبرت هذه المجلة مدونة حقوقية رائدة في العالمين العربي والإسلامي مكّنت التونسيات من عدة حقوق أساسية.

66 سنة مرت على إعلان المجلة التي عُدّلت عدة مرات مع تطور أوضاع المرأة التونسية، والتي أردفت بنصوص أخرى، خاصة بعد ثورة 2011. مكاسب كثيرة على مستوى النصوص لا تنعكس دائماً على أرض الواقع، وحتى وإن انعكستْ فبشكل غير متساوٍ بين نساء البلاد. ويأتي عيد المرأة هذه السنة في ظرف سياسي استثنائي بكل المقاييس.

صورة "الأب" بورقيبة تهيمن على عيد المرأة..

"يرحم بورقيبة"، "بورقيبة حرر المرأة التونسية"، "الاستثناء التونسي"، "بورقيبة سابق عصره".. تتكرر هذه العبارات مع كل احتفال بعيد المرأة. طبعاً لا يمكن إنكار فضل الرجل وجرأته في فرض مدونة قانونية تقدمية وصادمة للمجتمع التونسي ولمحيط تونس العربي-الإسلامي بمقاييس سنة 1956 (وحتى سنة 2022 للأسف، إذا نظرنا لحال النساء في عدة دول عربية وإسلامية). لكن بورقيبة ومعه آلة الدعاية الرسمية (إعلام وكتب مدرسية ومؤرخي البلاط ومنظمات نسائية مرتبطة بالسلطة) حجبوا الضوء عن عدة نساء رائدات ناضلن من أجل حقوق المرأة قبل الاستقلال وبعده.

مقالات ذات صلة

كما أن ارتباط المنظمات النسائية والأجيال الأولى من النسويات ببورقيبة "المحرِّر" ونظامه "الحداثي" جعلها تبدو كجزء من المشروع السلطوي "المسْقَط" على الشعب. وحتى مع ظهور أجيال جديدة من النسويات اليساريات أواخر السبعينات/بداية الثمانينات الفائتة، يحملن خطابات ونضالات أكثر راديكالية واستقلالية عن السلطة، بقيت مسألة "حقوق المرأة" وكأنها مسألة "سلطوية" يستعملها النظام لضمان ولاء النساء في الداخل وتزيين صورته في الخارج.

مكاسب "كثيرة" ولكن..

أغلب حقوق المرأة الأساسية في تونس سُنّت في عهد الرئيس الحبيب بورقيبة، وتدعمت في عهد الرئيس بن علي: تحديد سن دنيا للزواج (15 ثم 17 ثم 18)، تمكين المرأة الراشدة من حق تزويج نفسها دون اشتراط موافقة الولي، الحرية في اختيار الزوج ورفضه، إلغاء الزواج العرفي، منع تعدد الزوجات، منع الطلاق الشفهي وإقرار وجوب إعلام الطرفين وإجبارية المرور بالمحاكم المدنية لطلب الطلاق والحصول عليه، حق الزوجة في طلب الطلاق حتى دون موافقة الزوج أو وقوع أضرار مثل العنف أو الخيانة (وفي هذه الحالة يمكن أن يدفع طالب الطلاق، رجلاً كان أو امرأة، الذي يفعل من دون الاعتداد باضرار لاحقة به تعويضاً للزوج-ة)، الحصول على حضانة الأطفال بشكل شبه آلي عند الطلاق أو وفاة الأب إلى حد بلوغهم سن الرشد، التمتع بحق الولاية على الأطفال الذين هم في حضانتها فيما يتعلّق بسفر المحضون ودراسته والتصرّف بحساباته المالية، حق المرأة الراشدة في السفر دون ترخيص مسبق من الزوج أو الأب أو "ولي الأمر" عموماً، حقها في منح جنسيتها لأبنائها من زوج أجنبي، إلغاء واجب طاعة الزوج، إلغاء مفهوم بيت الطاعة ومعاقبة الزوجة "الناشز"، إلغاء مصطلح القوامة وتعويضه بعبارة "رئيس العائلة"، حق المرأة الراشدة في الإجهاض بدون ترخيص سواء كانت متزوجة أو عزباء، حق البنات في الحصول على إرث آباءهم وأمهاتهم كاملاً عندما لا يكون لهن إخوة ذكور وعدم توزيع الإرث على الأعمام والأخوال وأبنائهم.

بعد ثورة 2011 وعلى الرغم من صعود "الإخوان المسلمين" إلى السلطة والحضور الكبير للتيارات السلفية في الشارع مع ما تحمله من أفكار مناهضة لحقوق المرأة، استطاعت التونسيات بفضل نضالاتهنّ - وإسناد المجتمع المدني والتيارات التقدمية، وحتى الضغط الدولي - تحصيل مكاسب جديدة: سحب الدولة التونسية لبيان وتحفظات كانت عبّرت عنها رسمياً عند توقيعها على اتفاقية "سيداو" الأممية (اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة) (1)، إقرار المساواة بين الجنسين في دستور 2014 والتأكيد على تحصين مكاسب المرأة، إصدار القانون عدد 58 لسنة 2017 المتعلق بالقضاء على العنف ضد المرأة، السماح للمطلّقة بالسفر خارج البلاد مع أطفالها المحضونين دون ترخيص من والدهم، إلغاء منشور 1972 الذي كان يمنع رؤساء البلديات وعدول الإشهاد من تحرير عقود زواج التونسيات المسلمات من غير المسلمين.

لا تقتصر اللامساواة بين الجنسين في تونس على الإرث بل تشمل أيضاً الأجور في القطاع الخاص. وحتى في القطاع العام الذي يضمن المساواة في الأجور بين الجنسين نظرياً فإنه يخرقها عملياً عبر سيطرة الذكور على المناصب القيادية العليا. النساء أكثر عرضة للاستغلال الاقتصادي والتشغيل الهش، ولعل أبرز مثال على ذلك النساء الريفيات اللاتي يعملن كأجيرات في أراضي كبار المزارعين بأجور تقل بنسبة الثلث إلى النصف عن أجور الرجال، مع التنقل في شاحنات معدة لنقل السلع والدواب بلا أي وسيلة لضمان سلامتهنّ الجسدية أو حتى حمايتهنّ من البرد القارس أو الحر الشديد. كل سنة تجُرح وتموت عاملات الفلاحة في حوادث مرورية: ما بين 2015 و2022 أصيبت 710 عاملة بجروح متفاوتة الخطورة ولقيت 51 عاملة حتفهنّ، آخرهنّ ماتت يوم 12 آب/أغسطس 2022 في حادث انقلاب شاحنة ليلة عيد المرأة. وليس الأمر بأفضل بكثير في مصانع النسيج وتعليب المواد الغذائية وغيرها، حيث تشتغل عشرات آلاف العاملات مقابل راتب لا يصل أحياناً الى نصف "الأجر الأدنى المضمون"، بلا عقود تشغيل أو بعقود قصيرة المدى حتى لا يطالبن بتثبيتهنّ في المصنع والتمتع بحد أدنى من الحقوق الاجتماعية.

هناك أيضاً مسألة حقوق المرأة الحامل. عطلة الأمومة في تونس قصيرة جداً ولا تشجع النساء على الحمل أو تجبرهن على الجمع بين أعباء مرهقة، فهي لا تتجاوز شهراً واحداً للمرأة العاملة في القطاع الخاص وشهرين للموظفة في القطاع العام (مع إمكانية التمتع بعطلة أمومة بأربعة أشهر بنصف راتب).

تفاوت بين النص والواقع، و"تطور غير متكافئ"..

من أبرز النقائص فيما يخص منظومة حقوق المرأة في التونس البون الشاسع بين النص والواقع، وكذلك اللامساواة والتفاوت في التمتع بها.

النصوص متقدمة على وعي عامة الشعب وقافزة على واقعه، وهذا ليس بالأمر السلبي كلياً، فلو انتظرنا أن تتطور الشعوب لتتطور منظومة حقوق المرأة لربما كنا ما زلنا نناقش هل المرأة كائن بشري مثلها مثل الرجل أم لا. المشكلة هي في عدم اقتران النصوص بترتيبات وآليات لتفعيلها في الواقع. مثلاً قانون القضاء على العنف مكسب كبير لكن ما قيمته إذا لم تستطع الدولة توفير مآوٍ للنساء المعنّفات وضمان الحماية والتعهد الفوريان وحد أدنى من الاستقلالية المادية حتى تتخلص النساء المعنّفات من مخاوفهنّ وتقدمن الشكاوى دون خشية التشرد والجوع ودون الرضوخ لضغوط العائلة والرعب من ردة فعل المعنِّف وانتقامه. ماذا عن مقرات الشرطة والحرس الوطني التي تتلقى الشكايات؟ هل تخضع هذه الأجهزة "الذكورية" بامتياز إلى مراقبة الدولة وتقييمها لجديتها في التعامل مع الشكاوى المودعة؟ الكثيرات ممن يتعرضن للعنف من ذكور عائلاتهنّ يذهبن للمقرات الأمنية وفي كثير من الأحيان يحاول الأعوان ثنيهنّ - بالضغط والعنف أحياناً - عن المضي قدماً في رفع قضية. الكثير من الشكاوى تبقى في أدراج مكاتب الأمن ولا تصل إلى المحكمة.

حاول القانون الصادر في 2017 معالجة هذه المسألة فنص على أن "تحدث بكل منطقة أمن وطني وحرس وطني في كل الولايات، وحدة مختصة بالبحث في جرائم العنف ضد المرأة طبقاً لأحكام هذا القانون. ويجب أن تضمّ من بين عناصرها نساء" وأن "يعاقب بالسجن من شهر إلى ستة أشهر العون التابع للوحدة المختصة بالبحث في جرائم العنف ضد المرأة الذي يتعمد ممارسة ضغط على الضحية أو أي نوع من أنواع الإكراه لحملها على التنازل عن حقوقها أو لتغيير مضمون شكواها أو الرجوع فيها".

لكن يبقى أغلب هذا الكلام حبر على ورق. في سنة 2021 قتلت على الأقل 10 نساء تونسيات (الرقم مستقى من وسائل الإعلام، فليست هناك أرقام رسمية، وفي كل الحالات لا تصنف جرائم قتل النساء féminicides بصفتها تلك من قبل الأمن والمحاكم) من قبل زوج أو عشيق أو فرد ذكر من العائلة، قتلن لأنهنّ نساء وليس لأن الصدفة وضعتهنّ هناك.

69777 شكاية في جرائم العنف ضد المرأة والطفل في سنة 2021 تلقتها وزارة الداخلية.. أكثر من ثلاثة أرباعهنّ وقعت داخل الوسط العائلي. دون احتساب حالات العنف التي لا يبلّغ عنها إما خوفاً أو جهلاً بالقانون أو لعدم استطاعة المرأة الوصول إلى الجهات المختصة.

الولوج إلى الفضاء العام في أي مكان ووقت متاح قانوناً للنساء لكن في الواقع يشكل التحرش الجسدي واللفظي والمعنوي وعدوانية الذكور عقبات تمنعهنّ من التمتع بهذا الحق كاملاً. الولوج الحر والآمن للفضاء العام شرط ضروري للمساواة وتحقيق أسسها، وإن كانت الدولة تجرّم التحرش فإنها لا تحاربه جدياً عبر أجهزتها الأمنية والقضائية.

مسألة الإرث أيضاً فيها تعقيدات، ففي حين تنادي النسويات، والتقدميون عموماً، بالمساواة هناك نساء في مناطق تونسية ذات طابع ريفي و/أو قبلي - وحتى في قلب عائلات "ارستقراطية" مدينية - لا تتحصلن على نصيبهنّ من الإرث حسب الشرع الإسلامي، وعندما تطالبن به تنبذن من أخوتهنّ الذكور والعائلة الموسعة. وفي كثير من الحالات يتلكأ الورثة الذكور في قسمة الإرث لمدة سنوات طويلة جداً يسيطرون خلالها على التركة وينتفعون من إيراداتها (أراض فلاحية، تجارة، عقارات مؤجرة).

وقس على هذا في عدة مسائل قامت فيها السلطة التشريعية بإصدار نصوص شبه مثالية ميعتها السلطة التنفيذية ولم تحمها كما يجب السلطة القضائية.

المشكلة هي في عدم اقتران النصوص بترتيبات وآليات لتفعيلها في الواقع. مثلاً قانون القضاء على العنف مكسب كبير لكن ما قيمته إذا لم تستطع الدولة توفير مآوٍ للنساء المعنّفات وضمان الحماية والتعهد الفوريان وحد أدنى من الاستقلالية المادية حتى تتخلص النساء المعنّفات من مخاوفهنّ وتقدمن الشكاوى دون خشية التشرد والجوع ودون الرضوخ لضغوط العائلة والرعب من ردة فعل المعنِّف وانتقامه. 

كما لا يجب أن نغفل عن اللامساواة بين النساء في التمتع بحماية القانون، فالانتماء الطبقي والجغرافي لهما تأثير كبير جداً. مثلاً، طبيبة أو أستاذة أو سيدة أعمال تقطن في حي فخم في العاصمة أو إحدى المدن الكبرى تقل احتمالات تعرضها للعنف والاستغلال بشكل كبير عن عاملة فلاحية في ريف إحدى المدن الداخلية، في حين تكون حظوظها في الحصول على حماية قانونية ومؤسساتية أكبر.

هذا العيد...

يأتي عيد المرأة التونسية 2022 في ظرفية فريدة. لأول مرة منذ 2011 يكون الإسلاميون خارج السلطة، الكثير من النساء تنفسن الصعداء بعد عقدٍ من المخاوف على مكتسباتهنّ.. لكن هذا لا يمنع أن هناك رجلاً، محافظٌ اجتماعياً يقود البلاد حالياً ويجمع كل السلطات بين يديه، خاصة بعد المصادقة الشعبية الساحقة على دستوره الجديد في استفتاء 25 تموز/ يوليو (جويلية) 2022. صحيح أنه لم يصدر عنه إلى حد الآن إشارات ملموسة عن نيته المس بمنظومة حقوق المرأة لكن لم يبدر منه ما يفيد أنه سيسير فيها قدماً.

رئيسة حكومة "الرجل القوي"..

لأول مرة في تاريخ البلاد يتزامن عيد المرأة التونسية مع وجود امرأة على رأس الحكومة: السيدة نجلاء بودن التي عينها قيس سعيّد في خريف 2021 خلفاً لهشام المشيشي. تقود السيدة بودن واحدة من أكثر الحكومات تمثيلية للمرأة في تاريخ تونس: تسع وزيرات مع احتساب الرئيسة من جملة 26 وزير. لم تقصر وسائل الإعلام التونسية والعربية والدولية، خاصة تلك المساندة علناً أو ضمنياً للرئيس سعيّد، في الاحتفاء بهذا الإنجاز، كما استغله أنصاره في نشاطهم الدعائي كدليل على "حداثة" الرجل وتقدميته. لطالما استغل الرؤساء التونسيون قضايا المرأة ومكتسباتها كأداة دعاية وتزيين لحكمهم.

المشكلة في تعيين السيدة بودن أنه جاء وكأنه منّة من "السلطان" وليس كتتويج لانتخابات برلمانية أفرزت فوز قوى سياسية تقدمية تقودها نساء أو رجال قرروا تصعيد امرأة لقيادة الحكومة. كما أنه أتى عقب إجراءات 25 تموز/يوليو (جويلية) 2021 الاستثنائية التي جمعت السلطات في يد رئيس الجمهورية وبعد أيام من إصدار مرسوم 116 لسنة 2021 الذي استولى بموجبه رئيس الجمهورية على صلاحيات رئيس الحكومة التي نص عليها دستور 2014 ليجعله مجرد موظف تابع، مسؤول فقط عن تنفيذ توجيهات وتعليمات الحاكم الفعلي للبلاد.

هناك 69777 شكاية في جرائم العنف ضد المرأة والطفل في سنة 2021 تلقتها وزارة الداخلية.. أكثر من ثلاثة أرباعهنّ وقعت داخل الوسط العائلي. دون احتساب حالات العنف التي لا يبلّغ عنها إما خوفاً أو جهلاً بالقانون أو لعدم استطاعة المرأة الوصول إلى الجهات المختصة.  

تتحدث السيدة بودن بصوت منخفض في خطاباتها ومداخلاتها القليلة، تعلو محياها ابتسامة لطيفة، وتشبه بهندامها المحافظ والأنيق جدة "شابة" حنون. كل أسبوع تذهب مرة أو مرتين إلى قصر قرطاج لملاقاة رئيس الجمهورية الجالس خلف مكتبه، في حين تجلس هي باستحياء على كرسي ملاصق للجهة المقابلة. يشبعها الرئيس خطباً عصماء وشعارات وحِكَم وأمثال بعربية فصحى متقعرة وتؤمن هي على كلامه بهز الرأس وابتساماتها اللطيفة.. على الأقل هذا ما نراه في فيديوهات اللقاءات التي تنشرها الصفحتان الرسميتان لرئاستي الحكومة والجمهورية.

رئيسة الحكومة نجلاء بودن خلال لقاء دوري مع رئيس الجمهورية قيس سعيّد

عودة "السيدة الأولى"؟

أسقطت ثورة 2011 رئيس الجمهورية آنذاك، ثم أسقطت فترة المجلس التأسيسي الانتقالية (2011 – 2014) النظام الرئاسي لصالح المجلس التشريعي ورئاسة الحكومة فلم يعد لرئيس الجمهورية موقع الرجل الأول في السلطة، خاصة مع إقرار دستور 2014 لنظام شبه برلماني. مع تراجع صورة الرئيس تراجعت معه صورة أخرى طالما كانت سلبية في أذهان التونسيين: زوجة الرئيس أو السيدة الأولى. يتذكر الكبار في السن "الماجدة" وسيلة بن عمار، زوجة الرئيس بورقيبة التي لعبت أدواراً سياسية متقدمة منذ آخر السبعينات إلى أواسط الثمانينات الفائتة وكانت تعتبر بمثابة حاكمة الظل في تلك الفترة، في حين يتذكر الأصغر سناً ليلى الطرابلسي زوجة بن علي التي لعبت رفقة أشقائها دوراً هاماً في السياسة وخاصة في "الاقتصاد" خلال العقد الأخير من حكم زوجها.

المشكلة في تعيين السيدة بودن كرئيسة للوزراء أنه جاء وكأنه منّة من "السلطان"، كما أنه أتى عقب إجراءات 25 تموز/يوليو (جويلية) 2021 الاستثنائية التي جمعت السلطات في يد رئيس الجمهورية وبعد أيام من إصدار مرسوم 116 لسنة 2021 الذي استولى بموجبه رئيس الجمهورية على صلاحيات رئيس الحكومة التي نص عليها دستور 2014 ليجعله مجرد موظف تابع 

منذ أواخر 2010 لم تعد زوجات الرؤساء يظهرن في الإعلام إلا نادراً ولا يشاركن في الشأن العام بصفتهنّ تلك. وبعد 12 سنة كُسر هذا "العرف" ما بعد الثوري على يد القاضية "إشراف شبيل" زوجة الرئيس سعيّد، التي وإنْ تجنبت الظهور كثيراً في الفترة الأولى من حكم زوجها فإن ظهورها أصبح أكثر تواتراً بعد 25 تموز/يوليو 2021. السيدة الأنيقة أصبحت إحدى "الوسائل" الدعائية التي يستعملها أنصار الرئيس - بوصفها سيدة عصرية تشغل وظيفة سامية ولا ترتدي الحجاب - للتدليل على "حداثة" قيس سعيّد وللبرهنة على كونه لا يمكن أن يمثل خطراً على حقوق المرأة.

وكان لافتاً أن تُشرف السيدة شبيل على الاحتفال الرسمي يوم 13 آب/أغسطس 2022 وتلقي خطاباً على الرغم من أنه لا صفة رسمية لها، فلا يوجد منصب السيدة الأولى حتى في البروتوكولات، كما أن قيس سعيّد كان قد صرح في 2019 أنه في صورة فوزه بالرئاسة فإن زوجته لن تحمل لقب السيدة الأولى مؤكداً أنها لن تذهب معه إلى قصر قرطاج بل ستبقى في بيتهما وتواصل عملها بشكل عادي. لذا استغرب الكثير من التونسيين عودة "السيدة الأولى" إلى الواجهة وعبّر الكثير منهم بسخرية أو توجس حقيقي عن مخاوفهم، خاصة وأن النظام السياسي في تونس أصبح رئاسياً بحتاً بعد المصادقة على دستور جديد إثر استفتاء 25 تموز/ يوليو 2022.

بعيداً عن السياسة (أو ربما في قلبها) قام البريد التونسي بشراكة مع وزارة المرأة ببادرة جميلة تمثلت في إصدار مجموعة طوابع بريدية حمل كل واحد منها صورة لمرأة تميزت في مجالها أو لعبت أدواراً هامة في تاريخ البلاد أو تحتل مكانة مميزة في الذاكرة التونسية الرسمية والشعبية 

مما زاد من مخاوف المتوجسين أن رئيسة الحكومة كرّمت زوجة الرئيس خلال الاحتفال ضمن مجموعة من النساء المتميزات في عدة قطاعات، دون أن يكون هناك مبرر واضح، فلم يعرف عن السيدة شبيل أنها كانت مناضلة في سنوات الجمر أو لها مآثر في القضاء وفقهه أو حتى العمل الخيري والمدني.

رئيسة الحكومة تكرم زوجة رئيس الجمهورية

"رسالة" جميلة من البريد التونسي

بعيداً عن السياسة (أو ربما في قلبها) قام البريد التونسي بشراكة مع وزارة المرأة ببادرة جميلة تمثلت في إصدار مجموعة طوابع بريدية حمل كل واحد منها صورة لمرأة تميزت في مجالها أو لعبت أدواراً هامة في تاريخ البلاد أو تحتل مكانة مميزة في الذاكرة التونسية الرسمية والشعبية: الكاهنة (ديهيا) الأمازيغية، وصوفونيسبا القرطاجية (235 – 203 ق.م) ملكة نوميديا التي فضلت تجرع السم على الأسر الروماني، أروى القيروانية (735 – 764 م) التي اشترطت أن يتضمن عقد زواجها من أبي جعفر المنصور بنداً يمنعه من تعدد الزوجات والتمتع بالجواري طالما ظل متزوجاً بها وأن تبقى العصمة بيدها، وهو ما سمي ب"الصداق القيرواني"، الجازية الهلالية أو "الزازية" كما ينطقها التونسيون (القرن العاشر ميلادي) رمز المرأة الشجاعة قائدة المعارك التي تركت مكة لتقود قبيلتها نحو إفريقيا (تونس) مروراً بصعيد مصر، وكانت عنصراً مؤثراً في "التغريبة الهلالية"، عائشة المنوبية أو "السيدة المنوبية" ( 1190 - 1266 م) الولية الصالحة ورائدة التصوف النسائي في تونس التي رفضت الزواج وكرست حياتها للعلم والدعوة والعمل الخيري وعاشت حرة تجالس الرجال وتجادلهم، شريفة المسعدي (1908 –1990) إحدى رائدات العمل النقابي والنضال ضد الاستعمار الفرنسي، فطومة النملة (1935 –1994) التي ناضلت ضد الاستعمار الفرنسي ثم ضد القمع البورقيبي للحركة النقابية في كانون الثاني/ يناير 1978 واعتقال زوجها على خلفية أحداث "الخميس الأسود"، غلاديس عدة (1921 – 1995) التونسية اليهودية التي ناضلت من أجل استقلال تونس والديمقراطية ولعبت دوراً في اشتداد عود الحركة النسوية التونسية، فاطمة الحداد (1936 – 2013) أول تونسية حائزة على دكتوراه دولة في الفلسفة وناشطة نسوية، سامية عكروت (1955 – 2015) المهندسة المعمارية والمناضلة من أجل حماية التراث المعماري التونسي الحائزة على جائزة الأغا خان في مناسبتين، عزة حمّو (1950 –2017) المتخصصة في طب الأطفال الإشعاعي والتي كانت في فترة ما خبيرة دولية في الوقاية من الطب الإشعاعي والنووي، ميّة الجريبي (1960 –2018) المناضلة السياسية التقدمية التي قارعت نظام بن علي بشجاعة وأصبحت في سنة 2006 أول امرأة تشغل منصب الأمين العام لحزب سياسي، "الحزب الديمقراطي التقدمي"، الزهرة فائزة (1919 – 1999) من رائدات المسرح التونسي والتمثيل الإذاعي والتلفزي، رجاء بن عمّار (1954 – 2017) الفنانة المتعددة والمتكاملة (تمثيل، كوريغرافيا، تأليف، إخراج) ، السيدة نعمة (1934 – 2020) إحدى أشهر المغنيات التونسيات، مفيدة التلاتلي (1947 – 2021) المخرجة السينمائية والسيناريست التونسية التي حازت على عدة جوائز دولية، زينب فرحات (1957 – 2021) أستاذة الإعلام وصاحبة المركز الثقافي "التياترو" والمناضلة النسوية المساندة للقضية الفلسطينية، عروسية النالوتي (1957) الكاتبة والقاصة والسيناريست التي عدت روايتها "تماس" ضمن أهم 100 رواية عربية في القرن العشرين، "الرايسة" سعيدة الجلالي (1934 – 2014) أول ربّان مركب صيد، أنس جابر (1994) البطلة العالمية في رياضة التنس والتي بلغت في سنة 2022 أفضل ترتيب عالمي للاعبة أفريقية وعربية، زعرة السلطاني (1955 – 2020) "خنساء تونس" التي قتل الإرهابيون المتحصنون في "جبال مغيلة" (محافظتي القصرين وسيدي بوزيد الأفقر) ابنها الراعي مبروك سنة 2015 وأرسلوا لها رأسه في كيس بلاستيكي ثم ذبحوا ابنها الثاني بعد أقل من سنتين بـ "تهمة" التعاون مع الجيش التونسي. طابع واحد لم يحمل وجهاً بل "ظهراً" لعاملة فلاحية أريد من خلاله تكريم كل النساء العاملات في مجال الفلاحة ضحايا تأنيث العمل الهش اللواتي لا وجوه لهنّ.

مجموعة الطوابع البريدية التي أصدرها البريد التونسي بالشراكة مع وزارة المرأة

طبعاً هناك مئات التونسيات الأخريات اللواتي يستحققن التكريم، بعضهنّ سبق تكريمه في مناسبات سابقة مثل المناضلة لينا بن مهني، وأخريات ما زلن لم ينلن الاعتراف الرسمي. 

وكان البنك المركزي قد قام بمبادرة مشابهة في 2020 عبر إصدار ورقة نقدية تحمل صورة أول طبيبة تونسية: توحيدة بن الشيخ. نالت مبادرة البريد إعجاب الكثير من التونسيين، في حين اعتبرها البعض مجرد توظيف سياسي جديد لمسألة حقوق المرأة، وهناك من سخر منها قائلاً إن المرأة لا تكرَّم إلا على الورق فهذا الأمر لا يكلف الدولة الكثير.  

______________________

1- مع الإبقاء على "الإعلان العام" الذي ينص على أنه "لن يتخذ، طبقاً لمقتضيات هذه الاتفاقية، أي قرار إداري أو تشريعي من شأنه أن يخالف أحكام الفصل الأول من الدستور التونسي" الذي ينص على أن الإسلام دين الدولة التونسية، وعلى الأغلب قصد بهذا الاستثناء عدم إصدار قانون مواريث مخالف للشريعة الإسلامية. 

مقالات من تونس

للكاتب نفسه