أزمة تفتح على أزمة، والصراع يتنقل بين جبهة وأخرى، وتغيب مظاهر تسوية النزاع الذي مرّ بمراحل عديدة، بدءاً بالانتخابات والاعتراض على نتائجها مروراً بتأويل وتفسير النصوص الدستورية وليس انتهاءً بعرقلة انتخاب رئيس للجمهورية ورئيس للوزراء ومن ثم احتجاجات الصدريين مؤخراً. جميع الخلافات لا تتعلق بطبيعة الحال بمصالح العراقيين المعطّلة بفعل حالة الانسداد، بل تتعلق بنفوذ وسلطة خصمين، ومصالحهما، وذلك أمر لا تريده شريحة كبيرة من العراقيين الناقمين على مجمل النظام السياسي المبني على المحاصصة.
في العاشر من تشرين الأول/ أكتوبر 2021 أجري أول اقتراع مبكر في عراق ما بعد 2003، جاءت نتائجه بعكس ما تريد القوى المهيمنة، إذ أطاحت الانتخابات بعد الاحتجاجات بسلطان تلك القوى. ومنذ ذلك الحين حاولت بشتى الطرق تغيير الموازين لصالحها، وإعاقة استكمال الاستحقاقات المتمثلة في اختيار رؤساء البرلمان والجمهورية والوزراء، إذ تمكنت قيادات "الإطار التنسيقي" المتمثلة بزعيم "دولة القانون" نوري المالكي ورئيس "تحالف الفتح" هادي العامري، إلى جانب قوى أخرى، من جمع أكثر من ثلث نواب البرلمان، وعطّلت جلستي انتخاب رئيس الجمهورية مرتين متتاليتين قبل أشهر. تعامل "الإطار" مع نتائج الانتخابات المبكرة الذي هيمنت عليه محاولات الترهيب والصفقات والإغراءات لجمع المؤيدين داخل البيت التشريعي وخارجه، كبّده خسارة كبيرة على المستويين السياسي والشعبي، وأذكى العداء القديم الجديد بين المالكي والصدر. وهو لم يجد الحاضنة السياسية والترويج الإعلامي بسبب دفاعه عن خيار يرفضه كثير من العراقيين، الذين خرجوا محتجين على تدهور أوضاعهم.
أجريت الانتخابات المبكرة وهي إحدى أهم مطالب احتجاجات تشرين الأول/ أكتوبر 2019، لكن تعطيل نتائجها من قبل الخاسرين فيها بقي مطروحاً. وهو تمثّل بخرق الدستور في مرات عديدة، وبتفسير معنى "الكتلة الأكبر" التي تشكّل الحكومة. وقد سوّق بعض الخاسرين في الاقتراع لفكرة إجراء انتخابات جديدة، لكنهم تخلوا عنها بعد قرار التيار الصدري الانسحاب من البرلمان، إذ أعلن الصدر بقرار الانسحاب المفاجئ صعوبة المضي في حكومة الأغلبية، ورفع الحرج عن حلفائه في مشروع "إنقاذ وطن". ويسعى زعيم التيار إلى أن يكون رقماً صعباً بكل ما يتعلق بالعملية السياسية حتى وإن كان خارجها، ويحاول تقديم نفسه كقوة معارضة وليس كحزب في الحكومة، وبذلك يستطيع جذب مزيد من الأصوات لصالحه.
الأغلبية تصارع التوافقية
جرى الصراع في بداية الأمر بين فريقين سياسيين، الأول يريد أغلبية حاكمة، وهم من باتوا يُعرفون بــ"التحالف الثلاثي" الذي يضم التيار الصدري و"الحزب الديمقراطي الكردستاني" برئاسة مسعود بارزاني، و"تحالف السيادة" (السنّي) برئاسة خميس الخنجر وقد ترشح عنه محمد الحلبوسي رئيساً للبرلمان.
ترك الانسداد السياسي العراقيين من دون موازنة عامة لعام 2022، فتوقف الإنفاق على المشاريع الأساسية وتعطلت الإصلاحات الاقتصادية المفترضة أو الموعودة، وزاد ذلك من نقص الخدمات فالكهرباء مفقودة في صيف ساخن، والماء نادر، أما الرعاية والصحة والتعليم فيشكوان من إهمال تام حتى مع تحقيق العراق لعائدات نفطية قياسية بسبب ارتفاع أسعار النفط الخام العالمية.
أما الطرف الثاني من المعادلة فيضم "الإطار التنسيقي"، وتحت جناحيه القوى الشيعية الخاسرة، وكردياً "الاتحاد الوطني الكردستاني"، وسنياً "تحالف عزم". كانت تلك هي الخريطة السياسية قبل أن يفاجئ الصدر، الفائز بأكبر عدد من الأصوات، الجميع بسحب نوابه البالغ عددهم 74 نائباً من البرلمان بعدما أخفق في تشكيل حكومة تستبعد منافسيه، وأغلبهم لديه أجنحة مسلحة. لكنه لوح في مرات عديدة إلى أنه لن يقف صامتاً هو وقاعدته الشعبية ضد سياسة التعطيل التي انتهجها معارضوه، إن حاولت قوى "الإطار" تشكيل حكومة لا يوافق عليها.
تبدو الفوضى نتيجة حتمية يتجه إليها المتصارعون في ظل غياب أي توجّه لدى أي طرف من الأطراف للوصول إلى تسويات، ما يعني أن الوضع سيتجه نحو مزيد من التصعيد.
10 أشهر من الانتخاب والانسداد!
أكثر من عشرة أشهر مضت على إجراء انتخابات تشرين الأول / أكتوبر 2021، ولم يقترب برلمان العراق الخامس ونوابه المكلفون باختيار رئيس جمهورية ورئيس وزراء من شيء. وفي مؤشر جديد على أن الجمود لن ينكسر بأي حال، احتل آلاف من أنصار الصدر المنطقة الخضراء ومبنى البرلمان وهم يرددون هتافات مناهضة لمنافسيه السياسيين الشيعة، وذلك بعد إعلان هؤلاء "محمد شياع السوداني" مرشحاً لرئاسة الوزراء وتلميحهم بقرب عقد جلسة البرلمان لحسم الأمر بعيداً عن "التيار".
في العراق، لا تتشكل الحكومة ببساطة، إذ يستغرق تمريرها شهوراً ويحتاج أيضاً إلى كسب رضى الأحزاب الرئيسية. وتحتفظ تقليدياً الأحزاب الشيعية بمنصب رئيس الوزراء، ويتولى الأكراد رئاسة البلاد، والسنة رئاسة البرلمان. لكن الانقسامات التي أعقبت أول انتخابات مبكرة في البلاد زادت أمد عملية تشكيل الحكومة هذه المرة.
بشكل سلمي وآمِن دخل الصدريون المنطقة الخضراء، من دون أي اشتباك مسلح أو مواجهة مع قوات الأمن على عكس ما كان يواجَه به متظاهرو "انتفاضة تشرين" من عنف وقتل أسفر عن آلاف الضحايا. استعرض أنصار الصدر قوتهم الشعبية وزادوا من الضغط على خصومهم السياسيين، ومرروا بسهولة رسالة زعيمهم بأنه حاضر وفاعل وما على خصومه سوى احترام مواقفه.
العقدة.. شيعية وكردية أيضاً!
في العراق، لا تتشكل الحكومة ببساطة، إذ يستغرق تمريرها شهوراً ويحتاج أيضاً إلى كسب رضى الأحزاب الرئيسية. وتحتفظ تقليدياً الأحزاب الشيعية بمنصب رئيس الوزراء، ويتولى الأكراد رئاسة البلاد، والسنة رئاسة البرلمان. لكن الانقسامات التي أعقبت أول انتخابات مبكرة في البلاد زادت أمد عملية تشكيل الحكومة هذه المرة.
ففي المعسكر الشيعي، سحب الصدر، الفائز بأكبر عدد من الأصوات في الانتخابات نوابه من البرلمان، وبعد أشهر من المفاوضات، ترك زعيم التيار لخصومه، مهمة تشكيل الحكومة بعدما قام بخطوته المفاجئة.
وفي البيت الكردي تحَوُل الخلافات بين الحزب الديمقراطي والاتحاد الوطني دون اختيار رئيس للبلاد، وهو منصب يتيح لصاحبه فور موافقة البرلمان عليه أن يكلف رئيساً للوزراء. ويتولى الاتحاد الوطني الرئاسة منذ 2003، أما منافسه الحزب الديمقراطي والذي حصل على العدد الأكبر من أصوات الأكراد، فيتمسك بمرشحه للرئاسة ولا يبدو أن أي طرف على استعداد للتزحزح عن موقفه.
في المحصلة، شهدت الانتخابات المبكرة وما بعدها، أطول فترة جمود منذ 2003، إذ حال الصراع الداخلي داخل التكتلات الشيعية والكردية دون تشكيل حكومة، وهو ما يعطل إصلاحات مفترضة لبلد يعاني منذ عقود.
مصالح العراقيين معطلة
ترك الانسداد السياسي داخل البرلمان وخارجه العراقيين من دون موازنة عامة لعام 2022، فتوقف الإنفاق على المشاريع الأساسية وتعطلت الإصلاحات الاقتصادية المفترضة أو الموعودة، وزاد ذلك من نقص الخدمات فتبدو مظاهر الإهمال والفساد واضحة في المدن، والكهرباء مفقودة في صيف ساخن، والماء نادر، أما الرعاية والصحة والتعليم فيشكوان من إهمال تام حتى مع تحقيق العراق لعائدات نفطية قياسية بسبب ارتفاع أسعار النفط الخام العالمية.
تبدو الفوضى نتيجة حتمية يتجه إليها المتصارعون في ظل غياب أي توجّه لدى أي طرف من الأطراف للوصول إلى تسويات، ما يعني أن الوضع سيتجه نحو مزيد من التصعيد.
ويشبّه كثير من المواطنين هذه الظروف بتلك التي أثارت احتجاجات تشرين الأول / أكتوبر عام 2019، حين تصاعدت الدعوات برحيل الأحزاب الحاكمة المتهمة بالفساد. وحينها قُتل مئات المتظاهرين.
وقد امتدت تداعيات التعطيل في البرلمان على الأمن أيضاً من خلال نشاط "خلايا الكاتيوشا" والسلاح المنفلت.
التيار كان يستبق صيفاً احتجاجياً
باقتحامهم المنطقة الخضراء، أراد الصدريون استباق العراقيين الذين يريدون صيفاً احتجاجياً ساخناً، ومرروا رسائل عديدة من خلال دخولهم المنطقة المحصنة الأمنية، من أبرزها أن الخريطة السياسية التي رسمتها قوى في "الإطار" لن تمر ما دام التيار خارج اللعبة، إذ يراهن الصدر على الشارع الذي يجيد تحريكه لإسقاط محاولات خصومه تشكيل الحكومة التي يبدو أنها أمام طريق طويل من الاحتجاج والمعارضة.
وقد تعززت ملامح التوتر بين الصدر والمالكي على خلفية تسريبات صوتية منسوبة إلى زعيم "ائتلاف دولة القانون"، يتحدث فيها عن احتمال حصول اقتتال داخلي بين القوى الشيعية، ويهاجم الصدر قائلاً "يريد دم" و"أموال". وعقّدت التسريبات المشهد السياسي المتأزم أصلاً.
وتصر قوى في "الإطار التنسيقي" الذي يقوده "ائتلاف دولة القانون" على تحدي الصدر وأنصاره، وقد بدا ذلك واضحاً من خلال تعليقاتهم على اقتحام "الخضراء". وتشهد العملية السياسية حرب أعصاب، يراد لها نهايةً بتوقيع زعيم التيار الصدري. ويبدو الطريق مرعباً والتكهن فيه مجهولاً.
وبعد أشهر الانسداد أوصل الصدر رسالة إلى خصومه، بأنه لن يتوقف حتى يبارَك كلاعب أساسي أولاً، ومن ثم يأتي لاحقاً دور القوى السياسية، وبأنه قادر على إسقاط النظام المعمول به وجعلهم يفكرون بخيار الذهاب إلى اقتراع جديد، حيث احتمالات اللجوء إلى انتخابات مبكرة تعيد خلط الأوراق، وتأتي بـ329 نائباً جديداً، ويرجح أن يكون ذلك حلاً يسهل قبوله من الصدريين الذين استبدلوا عشرات النواب بآلاف المحتجين داخل البرلمان.