في 21 حزيران/يونيو من العام الجاري، وافق مجلس النواب المصري في جلسته العامة على مشروع قانون مقدّم من الحكومة المصرية بشأن إنشاء الكلية العسكرية التكنولوجية، وهي تسمح بمنح الشهادات التعليمية المدنية لخريجي هذه الكليات، وأيضاً تفتح باب الحصول على الدراسات العليا. وقد صدّق الرئيس عبد الفتاح السيسي على القانون الجديد بإنشاء الأكاديمية العسكرية المصرية، كما أصدر قراراً يحمل رقم 150 لسنة 2022 بإنشاء الكلية العسكرية التكنولوجية، لنشره في الجريدة الرسمية في 5 تموز/يوليو الماضي، وبهذا أصبح الأمر رسمياً ونهائياً وقيد التنفيذ.
وحسب القرار الذي نشرته الجريدة الرسمية، فإن الأكاديمية التي تتبع وزير الدفاع المصري شخصياً، تتكون من كليات الحربية، والبحرية، والجوية، والدفاع الجوي بشكل أساسي، فضلاً عن أي كليات أو معاهد عسكرية تعليمية أخرى قد يصدر قرار رئاسي بشأنها في المستقبل، وتختص بإعداد وتخريج ضباط الجيش وإجراء البحوث العسكرية، والمؤهلات التكتيكية والفنية والعلمية. ولم يقتصر القانون على تحديد أهمية الأكاديمية الجديدة بكل ما يتعلق بالدراسات العسكرية فقط، بل تخطى ذلك إلى كل المجالات الأخرى التي ترتبط بتدعيم المقومات الاستراتيجية لمصر، بينما تختص الكلية العسكرية التكنولوجية بتخريج الضباط الفنيين في التخصصات العلمية والتطبيقية والتكنولوجية المختلفة، على أن يتم منح الشهادات والدرجات العلمية التي تمنحها الجامعات التكنولوجية المدنية المنشأة وفقاً لأحكام قانون إنشاء الجامعات التكنولوجية الصادر بالقانون 72 لسنة 2019.
ولعل القرار قد يبدو عادياً إذا ما طالعه المواطن، بل قد يشعر بالفخر. فها هو الجيش المصري يدعم قطاعاته بخبرات تعليمية وأكاديمية وفق أحدث النظم المماثلة في دول العالم المتقدم. لكن المشهد المصري يستدعي تفحصاً أدق للمسألة.
عسكرة التعليم المصري.. البداية
مع صعود محمد علي باشا - رأس الأسرة العلوية في مصر- إلى سدة الحكم في العام 1805، انتصبت أحلام تكوين الدولة القومية المصرية أمام عينيه، فسعى إلى الاستقلال عن الخلافة العثمانية، ووضع جل هدفه في بناء جيش قوي لتحقيق ذلك الأمر الذي حاول الكثيرون ممن سبقوه تحقيقه: حلم الاستقلال. وكانت أداته الأولى الاهتمام بنظام التعليم الحديث للنهوض بقدراته الحربية، ومن ثم أرسل البعثات للتعلم في فرنسا وإيطاليا، لإعداد القوة البشرية اللازمة لتحقيق ذلك. وأهمل التعليم في الأزهر والكتاتيب (مدارس بدائية داخل القرى والنجوع لتلقي أساسيات القراءة وحفظ القرآن)، فكان اهتمامه بالتعليم الحديث وليس الديني، فهو الذي سيحقق هدفه في التحول من مجرد والٍ تابعٍ للباب العالي العثماني إلى سلطان على القطر المصري بأكمله. وهنا نستطيع أن نقول إن دولة محمد علي باشا قد قامت بداية على عسكرة التعليم المصري، لتنفيذ أهدافها (1).
كان النشيد الوطني المصري هو الفقرة الرئيسية التي اعتاد الطلاب تأديتها في الإذاعة المدرسية الصباحية يومياً. لكن، وعقب العام 2013، بعد عزل الرئيس محمد مرسي وجماعة الإخوان المسلمين عن الحكم - التي صُنفت كجماعة إرهابية محظورة - أُقحم نشيد للصاعقة المصرية في الإذاعة الصباحية للطلاب.
تعاقب الحكام على مصر وانتقلت من النظام الملكي في الحكم إلى النظام الجمهوري، وقد خرجت من أذهان الحكام مسألة عسكرة التعليم من بعد محمد علي، ووقعت مصر تحت الانتداب البريطاني، وسيطر المستعمر على كافة مناحي الحياة المصرية وأُهمل الجيش حتى بداية عصر الجمهورية، ليعود حلم محمد علي في بناء جيش مصري مستقل يكون التعليم أحد أهم أدوات نجاحه.
مصر: "بندول" دولة ما بعد الاستعمار
11-02-2021
أثر الفراشة: إبراهيم النبراوي نموذجاً
17-02-2022
ووفقاً للموقع الرسمي للكليات العسكرية المصرية، فقد أنشئت الكلية الفنية العسكرية في العام 1958 بعد أن ظلت مصر بدون مدارس للتعليم العسكري التكنولوجي بشكلها المعاصر، كما وُضع القانون الأساسي للكلية البحرية العسكرية والتي كانت قد أنشئت في العهد الملكي في العام 1946، قبل سنوات قليلة من "حركة الضباط الأحرار". وفي العام 1968 أنشئ المعهد الفني للقوات المسلحة والذي يتبع هيئة التسليح بالجيش. أما في عصر حروب الاستنزاف، فقد بدأت خطة الرئيس السادات بمحو أمية جنود الجيش، وعمل على استقدام حمَلة المؤهلات العليا والتخصصات الفنية والطبية التي تخدم الجيش.
العهد الحالي
لم يسلم قطاع التعليم في عهد الرئيس السيسي من مفهوم العسكرة، فالسلطة التي ارتأت في الماضي ضرورة استحداث كليات ومعاهد عسكرية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بخدمة قطاعات في الجيش بعينها، لم تتجاوز حتى صعود الرئيس الحالي إلى سدة الحكم ذلك المفهوم إلى التخصصات المدنية الأخرى. بدأت خطة جديدة لعسكرة التعليم وأسست كلية للطب العسكري في العام 2013، ثم مدارس خاصة مملوكة للقوات المسلحة، وأيضاً مدرسة تكنولوجية تطبيقية تابعة لوزارة الإنتاج الحربي.
ولم يكن ذلك هو التدخل الوحيد للقوات المسلحة في قطاع التعليم المدني، فقد أشرف جهاز الخدمة الوطنية بالقوات المسلحة على توريد وجبات التغذية المدرسية إلى المدارس والإشراف على مطابخ المدينة الجامعية لجامعة القاهرة. وأشرفت الهيئة الهندسية على بناء المدارس اليابانية (2)، إضافة إلى بناء الهيئة الهندسية في العام 2016، 257 مدرسة نموذجية في 18 محافظة، والاستمرار ببناء 225 مدرسة من بينها 98 مدرسة في محافظات الصعيد، وأيضاً بناء 100 مدرسة في 17 محافظة بتمويل مباشر من دولة الإمارات العربية المتحدة، ما يعني سيطرة الهيئة الهندسية على قطاع الإنشاءات بالوزارة والتي من المفترض أن تتولى مسؤوليته هيئات هندسية ومقاولون مدنيون. وفي العام 2018، أنشأت الهيئة "جامعة زويل" بتكلفة بلغت 966 مليون جنيه، كما سيطرت هيئة التسليح بالجيش في العام التالي على مناقصة خاصة بتوريد أجهزة "التابلت" التي تم تطبيقها ضمن تحديث النظام التعليمي في مدارس الوزارة (3).
عقدت وزارة التعليم بروتوكولاً مع قيادة الدفاع الشعبي التابعة لوزارة الدفاع المصرية، بموجبه يتم استغلال السنة الدراسية الأولى بمدارس التعليم الفني قبل الجامعي كفترة تأسيس عسكري للطلاب، وكان ذلك بدءاً من العام الدراسي 2019.
وفي العام 2013، أعلن الجيش عن تأسيس "مدارس بدر الدولية للغات" بالسويس، وتكلّف إنشاؤها 90 مليون جنيه على مساحة 30 فداناً، وأعلن عن مصروفاتها التي تتراوح ما بين 20 إلى 32 ألف جنيه مصري وقتها، ما يدخل تلك المدارس الجديدة ضمن منظومة المدارس الاستثمارية. ولم يقتصر الأمر عليها فقط، فهي ستكون البداية لعدد من المدارس الدولية التي ستمتلكها القوات المسلحة - حسبما أُعلن - سعياً وراء تطوير نظام التعليم المصري. وفي العام 2019، أعلن عن بدء الفصل الدراسي الأول بالمدرسة التكنولوجية التطبيقية التابعة لوزارة الإنتاج الحربي، والتي تركز على تخصصات تكنولوجيا الميكانيكا وتكنولوجيا الكهرباء والإلكترونيات، وهي خطوة لتزويد المصانع الحربية بفنيين وعمال متخصصين.
مظاهر أخرى للعسكرة
كان النشيد الوطني المصري هو الفقرة الرئيسية التي اعتاد الطلاب تأديتها في الإذاعة المدرسية الصباحية يومياً. لكن وعقب العام 2013، بعد عزل الرئيس محمد مرسي وجماعة الإخوان المسلمين عن الحكم - التي صنفت كجماعة إرهابية محظورة- أقحم نشيد للصاعقة المصرية في الإذاعة الصباحية للطلاب. ففي آذار/ مارس من العام 2018، أصدرت وزارة التربية والتعليم، أمراً داخلياً بإذاعة نشيد الصاعقة المصرية "قالوا إيه" في طابور الصباح بالنسبة لمدارس العاصمة، مبررين ذلك بأنه غرس للقيم النبيلة وتدعيماً لروح الانتماء إلى الوطن لدى النشء. وبعد حملة من الاعتراضات التي رأت أن ذلك عسكرة للتعليم وخلطاً للحياة العسكرية بالمدنية، خرج الدكتور رضا حجازي رئيس قطاع التعليم بالوزارة، لينفي كل تلك الاتهامات ويؤكد أن نشيد الصاعقة "العسكري" ليس بديلاً عن النشيد الوطني "المدني".
في العام 2020 أجرى الرئيس تعديلاً قانونياً تم بموجبه تعيين مستشار عسكري لكل محافظة في الدولة المصرية، من بين مهامه المتابعة الميدانية للخدمات والمشروعات، والتواصل مع المواطنين بشأن المشكلات التي يتعرضون لها، والتنسيق مع الجهات المعنية فيما يخص الأمور الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، وهي مهام مدنية في الأساس، ما يعني تحول كل محافظة لثكنة عسكرية.
وفي شباط/فبراير من العام 2016، فوجئت الدكتورة خلود صابر - المدرِّسة المساعدة بكلية الآداب جامعة القاهرة حينها- بإنهاء منحتها لدراسة الدكتوراه في بلجيكا، والمبرر "عدم موافقة الجهات الأمنية"، ما أثار ضجة كبيرة داخل الأوساط الأكاديمية المصرية، خاصة وأن الأمر يعد انتهاكاً واضحاً للمادة 21 من الدستور المصري والتي تؤكد على استقلالية الجامعات. ولم تكن هذه الحالة الوحيدة التي رفض سفرها للخارج تحت مبرر "الرفض الأمني"، وهو رفض مبهم للكثيرين، خاصة وأن الدستور وقانون تنظيم الجامعات المصرية يؤكدان على حرية البحث العلمي. وفي العام نفسه فوجئ المصريون بحادثة غير مسبوقة في تاريخ الجامعات، حينما اصطف الطلاب بالأمر ليؤدوا تحية العلم في أول يوم دراسي جامعي، ما رآه بعض المعارضين نوعاً من الابتزاز باسم الوطنية.
كانت تلك بعض المظاهر لتدخلات القوات المسلحة في قطاع التعليم، ولكن ما تأثير مثل تلك الخطوات على الحياة المدنية في مصر؟
مصر: في ضرورة تحرير الفائض البشري
05-03-2022
يرى بعض المعارضين لتدخل القوات المسلحة في قطاع التعليم، أن الأمر تعدى كونه مساندة من الجيش لقطاعات داخل الدولة في وقت الحرب على الإرهاب - كما أطلق عليها النظام الحالي - إلى أنه أصبح عسكرة في مفهومها المباشر، وذلك عن طريق 3 مناحٍ: إدارية وفكرية واقتصادية. فالجيش الذي كانت وظيفته حماية الحدود المصرية من الأعداء الخارجيين، أصبح يتطلع إلى مهام أكثر مدنية، ما يعني بطالة مزيد من الكفاءات والمؤسسات المدنية المتخصصة في مثل تلك الشؤون.
مبارك.. بداية العسكرة الإدارية للدولة
يشير تقرير صادر عن "مركز كارنيغي" في آب/أغسطس من العام 2012، إلى أنه، ومع تولي المشير محمد حسين طنطاوي منصب وزير الدفاع بدءاً من العام 1991 (وهو العام نفسه الذي أطلق فيه مبارك مشروعاً يهدف إلى خصخصة ممتلكات اقتصادية وتجارية للدولة)، بدأ رجال من ضباط القوات المسلحة في التغلغل داخل قطاعات عدة في الحياة المدنية المصرية، بناء على وعد ضمني من الرئيس مبارك بتوليهم مناصب قيادية كبرى داخل الوزارات والمؤسسات الحكومية والشركات المملوكة للدولة، وأيضاً في حركة تعيين المحافظين، ما شكّل أداة سياسية عتيدة للسلطة الرئاسية أطلق عليها مجازاً "جمهورية الضباط"، متمثلة في شبكات عسكرية متشعبة تخترق كل فروع وقطاعات الدولة، ما عزز نفوذ القوات المسلحة بشكل كبير خارج الحدود الرسمية للمؤسسة العسكرية. على سبيل المثال، في حركة تعيين المحافظين رقم 30 في عهد مبارك والتي أجريت في العام 2006، كان نصيب العسكريين ممن تولوا منصب محافظ 14 مقعداً، إضافة إلى 7 مقاعد أخرى كانت لضباط سابقين في جهاز الشرطة، ما يعني سيطرتهم على 21 مقعداً من أصل 27، وأيضاً سيطرة العسكريين على منصب رئيس هيئة الرقابة الإدارية ذات النفوذ الرقابي على كل الانتهاكات الإدارية والمالية المتعلقة بقطاعات الدولة.
وظهر هذا جلياً عقب انهيار حكم مبارك بعد ثورة العام 2011، حينما تولى المجلس العسكري حكم البلاد في الفترة الانتقالية التي تلت الثورة مباشرة. فقد تصدر المجلس العسكري المشهد السياسي للدولة المصرية، في الوقت نفسه رفض أي تصور سياسي من شأنه إحداث إصلاحات جوهرية أو هيكلية، فالأمر انطوى حينها على تهديد مباشر لسلطة "جمهورية الضباط".
أشرف جهاز الخدمة الوطنية بالقوات المسلحة على توريد وجبات التغذية المدرسية إلى المدارس والإشراف على مطابخ المدينة الجامعية لجامعة القاهرة. وفي شباط/فبراير من العام 2016، فوجئت مدرسة مساعدة بكلية الآداب جامعة القاهرة حينها بإنهاء منحتها لدراسة الدكتوراه في بلجيكا، والمبرر "عدم موافقة الجهات الأمنية"
في عهد الحكم الحالي سيطر العسكريون على مقاعد السلطة المحلية. ففي العام 2019، الذي شهد تعيين حركة محافظين لمرتين في العام نفسه، سيطر 19 لواءاً من الجيش والشرطة على منصب المحافظين، اضيف إليهم 11 آخرين في الحركة التالية في نهاية العام.
وفي عهد الحكم الحالي، لم يتغير الوضع كثيراً. فقد سيطر العسكريون على مقاعد السلطة المحلية، ففي العام 2019، والذي شهد تعيين حركة محافظين لمرتين في العام نفسه، سيطر فيها 19 لواءاً من الجيش والشرطة على منصب المحافظين، أضيف إليهم 11 آخرين في الحركة التالية في نهاية العام، فيما عين 23 نائباً للمحافظين من خريجي البرنامج الرئاسي لتأهيل الشباب. وفي العام التالي أجرى الرئيس تعديلاً قانونياً تم بموجبه تعيين مستشار عسكري لكل محافظة في الدولة المصرية، من بين مهامه المتابعة الميدانية للخدمات والمشروعات، والتواصل مع المواطنين بشأن المشكلات التي يتعرضون لها، والتنسيق مع الجهات المعنية فيما يخص الأمور الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، وهي مهام مدنية في الأساس، ما يعني تحول كل محافظة لثكنة عسكرية.
كذلك تمت عسكرة المناصب القيادية بوزارة التربية والتعليم (تتولى شؤون التعليم ما قبل الجامعي)، حيث ندب 6 لواءات من القوات المسلحة إلى وزارة التربية والتعليم في العام 2015، وكان ذلك في عهد الوزير محب الرافعي، وقد تولوا مناصب قيادية داخل الوزارة المدنية تمثلت في رئاسة قطاع شؤون مكتب الوزير، ورئاسة الإدارة المركزية للأمن، ومستشار الوزير لتنمية الموارد، ورئاسة هيئة الأبنية التعليمية، ورئاسة قطاع الكتب، وأخيراً رئاسة قطاع الأمانة العامة بديوان عام الوزارة والتي تضم الشؤون المالية والإدارية... وهي القطاعات الأهم في الوزارة والتي استطاع من خلالها الجيش فرض سيطرته على الأوضاع داخلها (4).
سيطرة فكرية
بدأ الحكم الحالي في تطبيق بعض السياسات التي من شأنها أن تحدث سيطرة فكرية على النشء من الطلاب في مراحل التعليم الجامعي وما قبله. على سبيل المثال: في العام 2013، صدر قرار رسمي بوضع المدارس المملوكة لجماعة الإخوان بشكل نهائي تحت سيطرة وزارة التربية والتعليم (وصل عددها إلى 84 مدرسة في 16 محافظة)، تحت شعار "حماية عقول الطلاب من التطرف". في الوقت نفسه، عقدت وزارة التعليم بروتوكولاً مع قيادة الدفاع الشعبي التابعة لوزارة الدفاع المصرية، بموجبه يتم استغلال السنة الدراسية الأولى بمدارس التعليم الفني قبل الجامعي كفترة تأسيس عسكري للطلاب، وكان ذلك بدءاً من العام الدراسي 2019، ووفقاً لهذا البروتوكول يتم تدريس مقررات ذات طبيعة عسكرية من قبل ضباط، وتعتبر المقررات العسكرية مواد نجاح ورسوب، أي إلزامية، والغرض هو "تعزيز الانتماء إلى الوطن" و"ضبط سلوك الطلاب". وبهذا تحولت 27 مدرسة كخطوة أولى في العام 2019 من مدرسة فنية إلى مدرسة عسكرية فنية. وتعزز هذه السيطرة الفكرة الأبوية التي تتبعها المؤسسة العسكرية تجاه المصريين حيث تعتبرهم عيالاً (أي صغار) يجب رعايتهم وضمان سلوكهم وتربيتهم الفكرية. وهو ما اتضح جلياً في محاولة المؤسسة العسكرية عسكرة المجال العام من خلال تعميم نشيد الصاعقة المصرية في المدارس.
عسكرة اقتصادية
تدخلت المؤسسة العسكرية وبشدة في السنوات القليلة الماضية، فيما يمكن أن نطلق عليه اقتصاديات التعليم في مصر، فقد سعت إلى الاستحواذ على صفقات وعقود خاصة بالوزارة، كانت تديرها مؤسسات اقتصادية مدنية، على سبيل المثال، صفقة التابلت تلك التي أسندتها الوزارة إلى هيئة التسليح بالقوات المسلحة، وتعاقدت على 708 ألف جهاز في العام 2018 كدفعة أولى، ومشروع الفصول المتحركة والذي أسس لمجابهة الكثافة داخل المقرات التعليمية، حيث تعاونت وزارة الإنتاج الحربي مع وزارة التعليم في توفير فصول متنقلة لحل أزمة قرابة 100 منطقة تواجه كثافات بالفصول ومناطق أخرى نائية تعاني من نقص الفصول التعليمية الموجودة بها.
انتدب 6 لواءات من القوات المسلحة إلى وزارة التربية والتعليم في العام 2015، تولوا مناصب قيادية داخل الوزارة المدنية تمثلت برئاسة قطاع شؤون مكتب الوزير، ورئاسة الإدارة المركزية للأمن، ومستشار الوزير لتنمية الموارد، ورئاسة هيئة الأبنية التعليمية، ورئاسة قطاع الكتب، وأخيراً رئاسة قطاع الأمانة العامة بديوان عام الوزارة التي تضم الشؤون المالية والإدارية... وهي القطاعات الأهم في الوزارة.
ولعل مثال تأسيس المؤسسة العسكرية لـ "مدارس بدر الدولية للغات" يثير العديد من الأسئلة. فالمدارس التي تصنف استثمارية، فهل من حق القوات المسلحة اقتحام هذا النوع من الاستثمارات التي يفترض أن يقتصر على الجمعيات الأهلية والأفراد فقط، إعمالاً بالقرار الوزاري رقم 306 لسنة 1993المتعلق بتنظيم التعليم الخاص؟ وقد ظهرت موجة معارضة على مواقع التواصل الإلكتروني عقب الإعلان عن تلك المدارس، رأت أن تبني الجيش بناء عدد من المدارس الدولية تلغي فكرة المواطنة. وقد علق رئيس المعاهد القومية التعليمية الأسبق، ناجي الشهابي، في تصريحات سابقة له مع موقع الجزيرة الصحافي، على مسألة دخول الجيش إلى معترك بيزنس التعليم الدولي في مصر، قائلًا أنه "التعليم مسألة أمن قومي، لذا فإن دخول الجيش هذا المجال لن يحقق المصلحة الوطنية لأن المناهج التي تدرس في تلك المدارس أجنبية".
لقد انكمشت الأدوار التي يتقلدها المدنيون في مواجهة الأدوار المتزايدة لرجال المؤسسة العسكرية وقطاعاتها المختلفة. ورجوعاً إلى القرار الأخير الذي سمح بتأسيس الأكاديمية العسكرية المصرية كجامعة عسكرية هي الأولى في مصر، وأحقيتها في منح شهادات معادلة للشهادات الجامعية التي تمنحها الجامعات المدنية، فقد بات الأمر مثيراً للقلق أكثر ويدعو للتساؤل: هل تؤدي تلك الخطوة إلى مزيد من الشرعية المدنية للضباط المتقاعدين في حصولهم على مناصب مدنية؟ وهل سيسعى النظام الحالي إلى مزيد من العسكرة غير المباشرة للتعليم المصري؟
1 - أصدر محمد علي أمراً في 8 آب/أغسطس من العام 1821، يقضي بإنشاء "مدرسة أسوان الحربية"، وبدأ فيها بتعليم ألفاً من المماليك الشبان كافة أنواع العلوم، ليتكون منهم نواة الجيش المصري الحديث، وقد وضع لهذا الغرض وبمساعدة الكولونيل سليمان الفرنساوي، برنامجاً تعليمياً يستغرق 3 سنوات. ثم كوّن "قومسيون المدارس العسكرية" وكان تحت إشرافه كثير من المدارس التي تؤهل سواء للدراسة العسكرية أو المدنية، مثل: مدرسة قصر العيني، ومدرسة البيادة، و مدرسة أركان الحرب، والمدفعية، والسواري، ومدرسة الطب، ومدرسة الطب البيطري، والهندسة العسكرية، حتى إنه قد بنى المطبعة الأميرية (وهي المطبعة الرسمية حتى الآن في مصر) لتكون نواة للصحافة العسكرية، وقد وصل عدد المدارس في نهاية حكمه إلى ما يقارب 1500 مدرسة.
2 - في العام 2016، أعلن الرئيسان المصري عبد الفتاح السيسي و الياباني شينزو آبي، عن الشراكة المصرية اليابانية للتعليم، والتي بمقتضاها يتم إعادة هيكلة النظام التعليمي في مصر. وقد وصل عدد المدارس اليابانية في العام الدراسي الحالي 2022 إلى 48 مدرسة في 25 محافظة، بواقع 11 ألف طالب.
3 - عسكرة الوزارات المدنية في مصر: وزارة التعليم العالي نموذجاً، يمكن الاطلاع على الدراسة كاملة من خلال الرابط: https://ei-journal.org//
4 - تجنبنا ذكر أسماء القيادات نظراً لطبيعة القانون رقم 341 لسنة 1956 والكتاب الدوري رقم 10 لسنة 2008 ، بشأن حظر ذكر أسماء الضباط السابقين بالقوات المسلحة والمصالح والهيئات ذات النظم العسكرية مقرونة برتبهم العسكرية في المحررات المتعلقة بأعمالهم الجديدة في الوظائف المدنية التي يتقلدونها بعد ترك الخدمة العسكرية.