تونس: قُضي الأمر الذي فيه تُستَفتون..

النسب التسعينية التي اعتقد التونسيون أنها انتهت بسقوط بن علي لم تكن مفاجِئة، فكل المؤشرات في الأسابيع الأخيرة كانت تدل على أننا نتجه إلى مبايعة لرئيس الجمهورية وليس إلى التصويت على مشروع دستوره. ليست هناك تقارير أو مؤشرات على تزوير أو تلاعب واسع النطاق، وربما حدثت بعض الخروقات هنا وهناك لكن دون تأثير حقيقي على النتا
2022-07-31

شارك
حيدر جبار - العراق

 94.6 في المئة! بهذه النسبة المئوية أصبح لتونس دستوراً جديداً كان رئيس الجمهورية قد عرضه على الاستفتاء يوم 25 تموز/يوليو 2022 الموافق للذكرى ال 65 لتأسيس الجمهورية والذكرى الأولى لإجراءات 25 تموز/يوليو 2021 الاستثنائية. في كل المحافظات بلا استثناء، كانت نسبة المصوِّتين بنعم تفوق ال90 في المئة.. هذه النسب التسعينية التي اعتقد التونسيون أنها انتهت بسقوط بن علي لم تكن مفاجِئة، فكل المؤشرات في الأسابيع الأخيرة كانت تدل على أننا نتجه إلى مبايعة لرئيس الجمهورية وليس إلى التصويت على مشروع دستوره. ليست هناك تقارير أو مؤشرات على تزوير أو تلاعب واسع النطاق، ربما حدثت بعض الخروقات هنا وهناك لكن دون تأثير حقيقي على النتائج. مثلاً خلت مكاتب اقتراع عديدة من المراقبين، وتعرض بعض الصحافيين للمضايقة خلال تغطيتهم لسير العملية.. كما أن هناك عدم تطابق بين الأرقام (تقدر ببضعة آلاف من الأصوات) التي قدمتها بعض المكاتب الجهوية للهيئة العليا المستقلة للانتخابات وما نشره مكتبها المركزي. مقاطعة الاستفتاء من قبل عدة أحزاب ومواطنين رافضين للدستور الجديد جعلت الرئيس وأنصاره ينافسون أنفسهم ويحتلون المرتبة الأولى في سباق ليست فيه مرتبة ثانية. فضلاً عن النسبة التسعينية "المحرجة" (حتى وان كانت حقيقية وليست مزورة) في بلد يُفترض أنه "ديمقراطي وتعددي"، فإن نسب المشاركة كانت أيضاً "محرجة" فهي الأضعف في تاريخ تونس قبل 2011 وبعده: 2.8 مليون مواطن شاركوا في الاستفتاء من جملة 9.2 مليون ناخب، أي أقل من الثلث.

محطة ثانية على سكة قطار الرئيس السريع

يمثل الاستفتاء المحطة الثانية في خارطة الطريق التي أعلن عنها قيس سعيّد في كانون الأول/ديسمبر 2021 كخطوات وسقوف زمنية للخروج من مرحلة "الإجراءات الاستثنائية". وهو يأتي بعد أربعة أشهر من نهاية الاستشارة الوطنية الالكترونية (كانون الثاني/ يناير - اذار/مارس 2022). استشارة كان يفترض أن تكون نتائجها ومخرجاتها أساساً لحوار وطني حول تعديلات دستورية يفضي إلى استفتاء 25 تموز/ يوليو 2022. لم تنشر مخرجات الاستشارة التي لم يشارك فيها إلا حوالي نصف مليون تونسي واعتبرها الرئيس ناجحة ومعبّرة عن إرادة الشعب. وفي بداية شهر أيار/مايو المنصرم، وبعد ضغوط، دعى قيس سعيد إلى تنظيم حوار وطني.. بلا أحزاب. نعم هكذا. 

كلف الرئيس العميد الصادق بلعيد - أستاذ قانون - برئاسة " الهيئة الاستشارية من أجل الجمهورية الجديدة" ووجه الدعوة في البداية للاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري والاتحاد الوطني للمرأة التونسية والرابطة التونسية لحقوق الإنسان، وبعض الخبراء، وشخصيات وطنية بعضها لا يعرفه التونسيون أصلاً وبعضها الآخر أكل على كل الموائد.. رفض اتحاد الشغل المشاركة في حوار وطني يقصي أطرافاً أساسية ويضع شروطاً وسقوفاً للنقاشات. كما رفض الكثير من عمداء كليات الحقوق وأساتذة القانون والخبراء المشاركة في فعاليات الحوار. حينها اضطر الرئيس لتزيين الحوار ببعض الأحزاب المناصرة له وبعضها لا ثقل شعبي له بتاتاً.

حوار هزيل وهزلي

لا تقتصر طرافة الحوار/المونولوغ الرئاسي على غياب الأحزاب وعدم إلزامية نتائجه للرئيس بل شملت أيضاً طريقة تنظيمه ومناقشة آراء المشاركين والكيفية التي تعامل بها الرئيس مع "نسخة الدستور" التي صاغها المتحاورون.

"أريد منكم أن تكتبوا صفحتين تعبرون فيهما عن تصوراتكم للدستور، وأن تسلموها خلال 72 ساعة. من يسلم الصفحتين قبل يوم الثلاثاء فشكراً له ومن يتخلف عن ذلك سنعتبر أنه اعتذر عن المشاركة".. هكذا خاطب العميد بلعيد المشاركين في أولى جلسات الحوار التي انطلقت يوم السبت 4 حزيران/يونيو 2022، وكأنه يتوجه إلى طلبته في مدارج الجامعة. لم يخالف أغلب التلاميذ أوامر الأستاذ وأرسلوا فروضهم المنزلية في الآجال حتى يتمكنوا من المشاركة في الجلستين المتبقيتين (11 و18 حزيران/يونيو) من الحوار.

في بداية أيار/مايو المنصرم، وبعد ضغوط، دعى قيس سعيَّد إلى حوار وطني.. بلا أحزاب. نعم هكذا. كلف أستاذ القانون العميد الصادق بلعيد برئاسة " الهيئة الاستشارية من أجل الجمهورية الجديدة" ووجه الدعوة في البداية للاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري والاتحاد الوطني للمرأة التونسية والرابطة التونسية لحقوق الإنسان، وبعض الخبراء، وشخصيات وطنية.. 

 لم تُنشَر مناقشات المشاركين في الحوار.. وفي 20 حزيران/يونيو سلم العميد بلعيد "مسودة دستور" إلى رئيس الجمهورية.. نسخة أولية قال عنها عميد المحامين إبراهيم بودربالة - المكلف بلجنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في الهيئة المسيرة للحوار - أنها جيدة جداً وأنه اطلع عليها قبل عشرة دقائق (أكثر من 140 فصل) من تسليمها لقيس سعيّد. بعدها بعشرة أيام نشر رئيس الجمهورية نص الدستور موضوع الاستفتاء في الجريدة الرسمية، فتبين للمشاركين في الحوار أن "دستورهم" لم يرق لقيس سعيّد فصاغ واحداً آخر. أحد الذين كتبوا دستور "الهيئة الاستشارية"، أستاذ القانون أمين محفوظ، اغتاظ من الأمر فنزّل على حسابه الفيسبوكي أغنية فرنسية تقول احدى مقاطعها " ce n'est pas mon fils" ("هذا ليس ابني")، أما العميد بلعيد فلم يجد من حل غير تسريب النسخة الأولى لوسائل الإعلام انتقاماً لكبريائه المجروح.. لكن مشاركين في الحوار صرحوا بأن نسخة بلعيد هي أيضاً غير مطابقة لما اتُفق عليه خلال النقاشات. دستور الحوار "أكله الحمار".

دستور على مقاس قيس سعيّد..

"إليّ شاهي شهوة يديرها في عشاه" (من يشتهي شيئاً ما فليضعه في عشائه) هكذا يقول المثل التونسي، وهكذا فعل قيس سعيّد. 

بصمة وصوت وأفكار رئيس الجمهورية في نص الدستور الذي وافق عليه الناخبون لا تخطئها عين ولا ذاكرة من أول كلمة في التوطئة إلى آخر حرف في آخر فصل. نُشرت النسخة الأولى منه يوم 30 حزيران/يونيو فأثارت عاصفة من الانتقادات تعلقت أساساً ب"الرئاسوية" المفرطة للدستور الجديد مقابل تهميش السلطة التشريعية وتجزئتها عبر سحب صلاحيات اختيار رئيس الحكومة ومحاسبة الحكومة منها لصالح رئيس الجمهورية وإحداث غرفة برلمانية ثانية (مجلس الجهات والأقاليم) تتقاسم بعض صلاحيات مجلس نواب الشعب، والذي لم يحدد النص طريقة اختيار أعضائه (هل بالانتخاب المباشر؟) وسلط على رقاب النواب سيفاً حاداً: إمكانية سحب التفويض الشعبي الممنوح للنائب واستبداله بنائب آخر. وطالت الانتقادات أيضاً الفصول الخاصة بالسلطة القضائية التي أصبحت مجرد "وظيفة" خاضعة أكثر فأكثر للسلطة التنفيذية. كما عبّر كثيرون عن تخوفهم من الفصول المتعلقة بالهوية مثل الفصل الخامس الذي يقر أنه "على الدولة وحدها أن تعمل على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النفس والعرض والمال والدين والحرية"، والذي وإنْ ألغى الفصل الأول من دستورَي 1959 و2014 الذي ينص على أن الإسلام هو دين الدولة، فإنه قد يفتح الباب أمام تأويلات رجعية ل "مقاصد الإسلام". وأثار الفصل 55 الجدل باعتباره يعطي الدولة إمكانية تقييد بعض الحريات الفردية والجماعية إذا ما خالفت "الآداب العامة". وكُتبت بعض الفصول بنبرة ذكورية واضحة تقصي المرأة: "تونسي، النائب، الناخب، التونسيين".

خاطب العميد بلعيد المشاركين في أولى جلسات الحوار قائلاً: "أريد منكم أن تكتبوا صفحتين تعبرون فيهما عن تصوراتكم للدستور، وأن تسلموها خلال 72 ساعة. من يسلم الصفحتين قبل يوم الثلاثاء فشكراً له ومن يتخلف عن ذلك سنعتبر أنه اعتذر عن المشاركة"، فعاملهم كتلامذته على مدرج الجامعة! 

أجبرت ردود الفعل الداخلية والخارجية - وقد تكون الثانية هي التي حظيت باهتمام أكبر من قبل الرئيس - قيس سعيّد على التراجع بضعة خطوات صغيرة. ففي 8 تموز/يوليو أعلن خلال خطاب تهنئة الشعب بعيد الأضحى بأن هناك بضعة أخطاء "تسربت" إلى النسخة المنشورة من الدستور المعروض على الاستفتاء. أخطاء "تسربت" إلى 46 فصلاً بالتمام والكمال. أضافت النسخة المعدلة عبارة "في إطار نظام ديمقراطي" إلى الفصل الخامس، وحذفت عبارة "الآداب العامة" من الفصل 55 وعدّلت صياغة بعض الفصول لتشمل المرأة. كما أنها أوضحت أن انتخاب أعضاء مجلس نواب الشعب يتم بشكل مباشر من قبل عموم الشعب. وأدخلت تغييرات طفيفة على فصول أخرى. لكن جوهر الدستور بقي مطابقاً لبرنامج قيس سعيّد: نظام رئاسي صلب ومجالس نيابية متعددة تبدأ من المحليات وصولاً إلى البرلمان الوطني.

يوم الثارات والرهانات..

يندر أن تجد من ذهب يوم الاستفتاء على الدستور للاستفتاء على الدستور بحد ذاته فقط. الأغلبية الساحقة ذهبت للصناديق تريد الثأر من النخب التي حكمت تونس بعد الثورة. هناك من ذهب ليثأر من الثورة نفسها إما لأنها سلبته امتيازات كان يتمتع بها أو لأنه اعتبر أنها جلاّبة فوضى نسفت "الأمن والأمان" اللذين كانت تونس "تنعم" بهما. وهناك من دخل الصندوق لينهي "مسار الانتقال الديمقراطي" الذي ركّز الحكم بين أيدي بضعة قوى سياسية - على رأسها حركة النهضة - تقاسمت السلطة وتقاذفت المسؤولية ثم تنصلت منها تماماً. وهناك من أراد إسقاط النظام شبه البرلماني والقانون الانتخابي الذي يرى الكثيرون أنهما فُصِّلا على مقاس حركة النهضة لتتمكن من حكم البلاد حتى بعدد أصواتٍ متدنٍ. هناك من قال "نعم" ثأراً للسياسيين والجنود والأمنيين والمواطنين "العاديين" الذي اغتالتهم الجماعات الإرهابية في السنوات التي تلت الثورة، ولأكثر من عشرين ألف مواطن قتلهم ال "كوفيد" والإهمال والاستخفاف بوجع الناس، وللمواطنين الذين مورس عليهم العنف وضُربوا وعُذبوا وفقئت أعينهم خلال احتجاجهم على سياسات حكومات ما بعد 2011، وللطبقات الوسطى والشعبية التي كشط الفساد وغلاء المعيشة جلدها، وكذلك للثورة التي أجهضتها الصفقات والتوافقات المغشوشة والوكالات للقوى الدولية والإقليمية. ولم يكن الثأر منطلق المواطنين "العاديين" وحدهم، هناك أيضا نخب أرادت أن تثأر من النخب التي استولت على كل الضوء وتركتها في الظلام البارد، وحرمتها من امتيازات وتشريفات وأدوار سياسية، فقط لأنها بعيدة على "المركز" أو لم تمتلك العلاقات والمفاتيح الضرورية لنيل نصيبها من الشمس والأوكسيجين.. منهم شباب كانوا حاضرين في مواجهات 2010 –2011، ومنهم من كان مناضلاً سياسياً وطلابيا قبل الثورة، ومنهم كتاب وفنانون وصحافيون لم ينالوا الدعم نفسه والظهور الذي تمتع من يعتبرونهم أقل منهم موهبة. حمل الكثيرون غضبهم ونقمتهم إلى مراكز الاقتراع غير آبهين بما سُطُّر في الدستور، اعتبروها فرصة للعقاب فاستغلوها. ربما عاقبوا أعداءهم.. وقد ينجو الأعداء ويولد أعداء جدد ويكتشف المعاقبون أنهم عاقبوا أنفسهم.

نشر رئيس الجمهورية نص الدستور موضوع الاستفتاء في الجريدة الرسمية، فتبين للمشاركين في الحوار أن "دستورهم" لم يرق لقيس سعيّد فصاغ واحداً آخر! 

ومع الإحباط واليأس هناك أيضاً الأمل والرجاء. كثيرون يوقدون الشموع لقيس سعيّد ويروجون لكتابه ("الدستور الجديد") أملاً في أن يكون "العهد الجديد" طالع خير وبركة عليهم وعلى مشاريعهم الفكرية. هناك من يعتبرون أن النظام الرئاسي الصلب هو المنقذ لتونس من حالة الفوضى والعطالة التي تسبب فيهما تقاسم السلطة بين ثلاثة رؤوس (رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ومجلس نواب الشعب)، وأنه سيركّز القرار بين أيدي شخص مسؤول وحازم مما قد يعيد استقرار البلاد ويحرك عجلة الاقتصاد.. وهذا يعبر بقوة عن المزاج الشعبي وحتى عن أفكار جزء من النخب الاقتصادية. هناك "الحداثيون" و"العلمانيون" و"الليبراليون" الذين يحلم بعضهم بسيناريو شبيه بما حصل في مصر، والكثير منهم مبتهج بعداء قيس سعيّد لحركة النهضة الإسلامية وعلاقته المتينة بالنظام المصري. هؤلاء عولوا سابقاً على الرئيس الراحل باجي قايد السبسي ومنحوه أصواتهم في انتخابات 2014 ليخلِّصهم من الإسلاميين لكنه تحالف معهم.. واليوم يرون في رئيس الجمهورية الحالي مخلصاً أكثر عزماً وإخلاصاً. القوميون، خاصة الناصريون، يراهنون على الرئيس على الرغم من أنه لا يلقي لهم بالاً وهمّشهم كما همش بقية الأحزاب.. لكنهم يرون فيه الرجل القوي المعادي للتطبيع (لم يُجرّم التطبيع في دستوره) والمؤمن بعروبة تونس (نص الدستور الجديد على أنها جزء من الأمة العربية) والمعادي للإخوان المسلمين والساعي إلى بناء تحالفات عربية-عربية (علاقاته مع النظامين المصري والجزائري). هناك أيضاً جزء من اليسار يتمسح بأعتاب قيس سعيّد والنظام السياسي الذي يبشر به، إما لاعتبارات براغماتية تتعلق بتحصيل بعض فتات شعبية الرئيس، أو انطلاقاً من فرضيات فكرية-سياسية، إذ أن هناك شخصيات ومجموعات يسارية صغيرة تعتبر أن معاقبة النخب التي هيمنت في العشرية الأخيرة وإبعادها عن المشهد سيفسح المجال للقوى الثورية والتقدمية الصغيرة للظهور في مشهد سياسي لا يسيطر عليه المال وتحالفات الأحزاب الكبرى وتدخلات السفارات والمانحين الدوليين. وهناك حتى من يجد في "الديمقراطية القاعدية" التي يبشر بها سعيّد وأنصاره ريحاً من "الشيوعية المجالسية". رهانات كثيرة من منطلقات مختلفة وأحياناً متناقضة تشبه المناديل الملونة التي يعلقها زوار أضرحة "أولياء الله الصالحين".

وغداً؟

سويعات بعد إعلان نتائج الاستفتاء انطلق قطار الرئيس نحو المحطة الثالثة والأخيرة في خارطة طريقه: الانتخابات التشريعية المزمع تنظيمها في 17 كانون الأول/ ديسمبر 2022. فلقد كلف رئيسة الحكومة، نجلاء بودن، بإعداد مشروع قانون انتخابي خاص بكل واحدة من الغرفتين التشريعيتين: مجلس نواب الشعب ومجلس الجهات والأقاليم. لكن، حتى مع التأييد الشعبي الواسع (وهو يتجاوز عدد المصوتين بنعم في الاستفتاء) واحتكار الرئيس لكل السلطات تقريباً وفرضه لشروط اللعبة، فلا يبدو أنه مطمئن تماماً. يسعى الرئيس وأعوانه إلى تحييد كل سلطة مضادة أو "مصدر إزعاج" معتمداً على سلاحين "ناعمين" (إلى حد الآن): المراسيم والقوانين من جهة، والتحريض من جهة أخرى. بدأ الأمر مع الجمعيات والمنظمات التي لوح قيس سعيّد منذ الشتاء الفائت بتعديل الإطار التشريعي المنظِّم لها (المرسوم 88 لسنة 2011) بهدف محاربة التمويل الأجنبي ذي الغايات الإرهابية والاختراقية.. والحال أنه لا شيء يمنع الدولة وأجهزتها الرقابية من التثبت من كل المخالفات، مما يرجح فرضية سعي الرئيس إلى كسر شوكة المجتمع المدني واعتماد سياسة "تجفيف المنابع". وما يعزز الفرضية الثانية ظهور حملة فيسبوكية - بعد الاستفتاء - يقودها مناصرون للرئيس تدعو إلى إغلاق جمعيات ومنظمات مركِّزة على مسألة التمويل الأجنبي. أما الأحزاب التي لم يخفِ سعيّد يوما كرهه لها وإيمانه العميق بعدم جدواها في الحياة السياسية (ليس في تونس فقط بل في العالم بأسره)، فسيوجه لها قريباً ضربة قوية باعتماد قانون انتخابي يقوم على الأفراد وليس على القوائم الحزبية والائتلافية. ويبدو الرئيس وأنصاره (وهم جسم غير واضح المعالم ومتغيّر) في طريق مفتوح لاحتلال الغرفتين وإطلاق العصر "الجماهيري" "القاعدي".

حيال موجة الرفض، قال الرئيس أن هناك بضعة أخطاء "تسربت" إلى النسخة المنشورة من الدستور المعروض على الاستفتاء. أخطاء "تسربت" إلى 46 فصلاً بالتمام والكمال. أضافت النسخة المعدلة عبارة "في إطار نظام ديمقراطي" إلى الفصل الخامس، وحذفت عبارة "الآداب العامة" من الفصل 55 وعدّلت صياغة بعض الفصول لتشمل المرأة. 

دون استباق الأحداث، يبدو أن سنوات صعبة تنتظر الناشطين السياسيين والمدنيين غير الموالين للسلطة.. حتى وإن لم/لن يلتجئ رئيس الجمهورية إلى القمع العنيف والمباشر فإن مراسيمه وقوانينه وخطاباته تخلق مناخاً غير صحي من التحريض والتخوين والتحشيد

أما القضاء فلقد قام سعيّد بحل مجلسه الأعلى ونصب مجلساً آخر مكانه، ثم استغل سخط جزء هام من التونسيين على المؤسسة القضائية المتهمة بالفساد والعلاقات المشبوهة مع السياسيين وحتى الإرهابيين، ليقوم بعزل 57 قاضياً دون إعطائهم إمكانية الدفاع عن أنفسهم (بعضهم مضرب عن الطعام إلى حد كتابة هذه السطور).. وإن كانت بعض الأسماء قد "فاحت ريحتها" منذ سنوات، فإن أسماء أخرى يبدو أنها ذهبت - كما يدافع بعض القضاة - ضحية لمواقفها من قيس سعيّد أو عدم تعاونها مع أجهزة أمنية في بعض القضايا. وتَرافق العزل مع حملة هتك أعراض وشيطنة للقضاة مست خاصة القاضيات. وبالنسبة للصحافة والإعلام فلم تصدر قوانين أو مراسيم، لكن تغيب "الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري" من الدستور الجديد (كانت موجودة في دستور 2014)، والمضايقات المتزايدة (آخرها اعتداء قوات الأمن على صحافيين بالضرب يوم 23 تموز/يوليو 2022 في الشارع الرئيسي بالعاصمة) التي يتعرض لها الصحافيون على الأرض، وعلاقة الرئيس المتوترة بالإعلام وحديثه المتواصل عن "الأجندات" التي تخدمها وسائل الإعلام، كلها أعلام حمراء لا تنبئ بخير.

***

دون استباق الأحداث، يبدو أن سنوات صعبة تنتظر الناشطين السياسيين والمدنيين غير الموالين للسلطة.. حتى وإن لم/لن يلتجئ رئيس الجمهورية إلى القمع العنيف والمباشر فإن مراسيمه وقوانينه وخطاباته تخلق مناخاً غير صحي من التحريض والتخوين والتحشيد.. كالزيت الذي يُصب على نار مزاج شعبي كاره للأحزاب والنخب عموماً ومتأفف من الديمقراطية وحرية التعبير. كما أن اعتماد الرئيس على وزارة الداخلية - مع تاريخها الأسود واستمرار انتهاكها لحقوق المواطنين إلى حد اليوم - وتردده المستمر على مقرها في المحطات الهامة - آخرها الاحتفال بتمرير الدستور الجديد - ليست مؤشرات مطمئنة.

ما يزيد الأمور صعوبة أن المعارضة الحالية للرئيس أو بالأحرى الجزء الأكثر ظهوراً منها تقوده حركة النهضة وحلفاؤها في البرلمان المنحل، وهذا يفقدها أي مصداقية. وحتى المعارضات الأخرى فبعضها مكروه لمشاركته سابقاً في الحكم أو معدوم الشعبية تماماً. من الصعب أن تلعب الأحزاب دوراً كبيراً ومؤثراً في المرحلة القادمة، وقد يجد المجتمع المدني - وعلى رأسه الاتحاد العام التونسي للشغل - نفسه في الواجهة.

مقالات ذات صلة

ربّما ستشكل السياسات الاقتصادية-الاجتماعية الخاصرة الرخوة لسلطة قيس سعيّد، فالرجل لم يظهر إلى اليوم حداً أدنى من التمكّن في إدارة هذا الملف ولا يبدو أن عنده تصوراً واضحاً في هذا الصدد. كما أنه لم يصطدم إلى حد اليوم مع أباطرة التهريب والاقتصاد الموازي و"المانحين الدوليين" والسياسات الهجرية-الأمنية للاتحاد الأوروبي.. وقد تتغير الأمور قريباً. ونذكر هنا بأن الحكومة التونسية تخوض حالياً مفاوضات مصيرية مع صندوق النقد الدولي الذي وضع على الطاولة حزمة شروط مجحفة للموافقة على صرف قسط جديد من قرض "إنعاش" للاقتصاد التونسي. قد تتعاظم شعبية الرجل إن تمسك بحد أدنى من السيادة الوطنية في مفاوضاته وتبنى خيارات اقتصادية-اجتماعية رحيمة بالطبقات الوسطى والمفقرة المنهكة تماماَ.. وقد تذوب تدريجياً - وحتى بسرعة فائقة - إن سار على درب الحكام السابقين.  

مقالات من تونس

للكاتب نفسه