عن اختفاء العقارب وما يعنيه ذلك..

لم تعد هناك الكثير من العقارب بل يبدو أنّها انقرضت بشكلٍ شبه تام.. لم تعترضني أي عقرب طيلة قرابة العشر سنين، لكن بقيت ذكريات كثيرة مرتبطة بهذه الكائنات الصغيرة، لا يشوبها الخوف أو الاشمئزاز بل نوع من الحنين إلى عوالم تفسخت معالمها: الطفولة والنسخة القديمة من "الحومة" (الحي/الحارة).
2022-07-28

شارك
عبد الله الشيخ - السعودية

"أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ، مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ، وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ"
"أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ"

هذه الأذكار والأدعية ظلت منقوشة في ذاكرتي منذ الطفولة المبكرة. في شهر حزيران/يونيو من كل سنة كان أبي يحرص على إلصاق أوراق صغيرة مستطيلة على أبواب المنزل الخارجية وكذلك أبواب الغرف. كانت توزع مجاناً في المسجد أو تباع بملاليم في المكتبة المجاورة له، وكان تعليقها على الأبواب بمثابة إعلان رسمي عن دخول الصيف. الوريقات نفسها أجدها في بيوت أجدادي وأعمامي وأصدقائي. في سن السادسة أو السابعة صرتُ أستطيع تهجئة الكلمات والجمل القصيرة، وقرأت بصعوبة المكتوب على تلك الوريقات لكنني لم أفهم شيئاً. قال لي أبي أنّ المكتوب هو "كلام ربي والرسول" نلصقه على الأبواب حتى نحمي بيوتنا وأنفسنا من العقارب ولسعاتها المسمومة. كنت أعرف العقرب جيداً وشاهدت أبي ورجال العائلة يقتلون الكثير منها كل صيف. لم أكن أعلم أنّها خطرة جداً، وما أثار استغرابي أنّ بضع كلمات متراصفة على ورقة صغيرة يمكن أن تؤثر في حيوان صغير لا يستطيع القراءة أصلاً. ربما لم أستوعب كثيراً تفسير أبي في ذلك الوقت لكنني أحسستُ بالطمأنينة.. الآباء يعرفون دائماً ما يفعلون، أليس كذلك؟ يومها تكون لدي اقتناع سيترسخ عبر السنوات والتجارب بأنّ الكلمات ليست مجرد حروف متلاصقة وأنّ لها قدرات سحرية..

ومنذ تلك الفترة أيضاً - بداية سنوات التسعين من القرن الفائت - ستصبح العقرب ملازمة للصيف في ذهني وذاكرتي.. بالإضافة إلى "الدلاّع" (البطيخ الأحمر) طبعاً. رأيت عشرات وربما مئات العقارب خلال العشرين عاماً الأولى من حياتي. ثم انتقلتُ للعيش خارج المدينة كما أنّ الحي الذي قضيت فيه طفولتي شهد متغيرات كبيرة، ولم تعد هناك الكثير من العقارب بل يبدو أنّها انقرضت بشكل شبه تام.. لم تعترضني أي عقرب طيلة قرابة العشر سنين، لكن بقيت ذكريات كثيرة مرتبطة بهذه الكائنات الصغيرة، لا يشوبها الخوف أو الاشمئزاز بل نوع من الحنين إلى عوالم تفسخت معالمها: الطفولة و"النسخة القديمة" من "الحومة" (الحي/الحارة).

***

طيلة طفولتنا كانت العقرب أحد أكبر مخاوف أهلنا، خاصة الأمهات. كل أم تنهى أبناءها عن اللعب حفاة في حديقة وفناء المنزل وتزجرهم عندما يقتربون من الأماكن المظلمة. وبما أنّ الطقس كان حاراً في مدينتي الواقعة على تخوم الجنوب ذي المناخ الجاف، ولم تكن المكيفات حينها رائجة كما هو الحال اليوم، فكنا نتناول العشاء ونقضي السهرة على الشرفة (veranda في المنازل العصرية) أو "السطحة" (في المنازل القديمة التي تسمى "البرج"). وحتى تهدأ حركة الحشرات الصيفية ونخفف الإحساس بالحرارة كنا نخفت الإضاءة بشكل كبير، وعندها يجب أن تظل منتبهاً وتلقي من حين لآخر نظرة دائرية حولك لتتثبت من عدم وجود عقارب أو حشرات أو سحالي صغيرة. يتكون لديك تدريجياً نوع من الحاسة السادسة أو جهاز الاستشعار. 

في أيام "العجاج" (الرياح الرملية) و"الشهيلي" (رياح السيروكو الصحراوية الحارة) كنا نرش حديقة المنزل وفناءه بكميات كبيرة من الماء بعد المغرب حتى نبرّد الأجواء وننقص كمية التراب في الهواء. في تلك الليالي يكون الحذر أكبر، فالتراب البارد والرطب منعش يغري العقارب بالخروج.. ومن العادي أن يقوم فجأة أحد أفراد العائلة - الذكور خاصة - فيتناول أول خفّ يعترضه ثم تسمع صوت ضربة قوية فنقوم جميعاً لرؤية العقرب المسحوقة التي ستصبح في اليوم القادم موضوعاً للحديث الذي لا يخلو أحياناً من المبالغات.."البارح لقينا عقرب شبراوية" (طولها يناهز الشبر أو أكثر)، "حمراء خضراء يا لطيف" (شديدة السميّة)، "قد ما هي بعظمها" (ضخمة محمّلة ببيضها) ... عندما تنتهي السهرة ويدخل كل واحد لغرفته للنوم لا يجب أن ينسى القيام بجولة تفقدية في الأرجاء ليتثبت من عدم وجود عقرب تسللت من النوافذ أو شقوق الأبواب.

***

خطر ظهور العقارب يصبح مضاعفاً عندما يقوم واحد من الأهل أو الجيران باقتلاع "طابية الهندي" (الصبار ويبلغ طوله أمتاراً ويغرس أساساً لرسم حدود الأراضي المتجاورة، ثماره تسمى هنا "الهندي" ويعتبره التونسيون "سلطان الغلة"، كما يستفيد صغار مربي الماشية من ظلفه كعلف للحيوانات) لتعويضها بسياج. حينها تتسرب العقارب التي كانت تعشش هناك وتسرح في أرض الله..

كنا نرش حديقة المنزل وفناءه بكميات كبيرة من الماء بعد المغرب حتى نبرّد الأجواء وننقص كمية التراب في الهواء. في تلك الليالي يكون الحذر أكبر، فالتراب البارد والرطب منعش يغري العقارب بالخروج.. ومن العادي أن يقوم فجأة أحد أفراد العائلة - الذكور خاصة - فيتناول أول خفّ يعترضه ثم تسمع صوت ضربة قوية فنقوم جميعاً لرؤية العقرب المسحوقة 

وكان لنا في حروبنا الصيفية مع العقارب حليف مهم وهو الدجاج. في "الحومة" التي نشأتُ فيها كان من النادر أن تجد بيتاً ليس فيه قن دجاج في الفناء الخلفي، كنّا نربيه لأمرين أساسيين: اطعامه بقايا طعامنا إذ لا يجوز إلقاء "نعمة ربي" في مكب الزبالة مباشرة، والتمتع بنكهة "العظم" (البيض) و"السردوك" (الديك) "العربي" ("البلدي" كما يقال في المشرق). فضلاً عن كل هذا، يستطيع الدجاج قتل وأكل العقارب مما يجعله "سلاحاً بيولوجياً" فعالاً نطلقه آخر النهار في الفضاء الخارجي للبيت. الأذكار والأدعية لا تكفي لوحدها..

***

في كثير من أيام الصيف، يدق أحد الأقارب أو الجيران باب بيتنا حاملاً معه صحناً مليئاً بكسكسي "العلوش" (لحم الخروف) أو "العصبان" (أمعاء الخروف أو منديل بطنه محشوة لحماً وكبدةً)، نصيبنا من "وعدة" أعدت إثر نجاة شخص من لدغة عقرب. تتمثل "الوعدة" في طبخ كميات كبيرة من الطعام وتوزيعها على الجيران والأهل وفقراء الحي وحتى عابري السبيل، تنفيذاً لوعد قطع لله أو لأحد "الأولياء الصالحين" بإطعام الناس عند تحقق غاية ما أو النجاة من مرض/ خطر.

***

وحدها جدتي لم تكن تخاف من العقارب. كنت أتعجب من شجاعتها فهي واهنة وبالكاد تتحرك ولا تستطيع قتل نملة فما بالك بالعقرب. عندما كنت أسألها عن السر كانت تقول أنّ "العقرب مرسولة " أي أنّها لا تلدغ الناس اعتباطياً بل الله هو من أرسلها لشخص بعينه.. ولا مرد لقضاء الله. وكانت تحكي لي عن "العيساوية" (أتباع طريقة صوفية) الذين يبتلعون عقارب دون أن يحصل لهم أي شيء. لا شيء في الكون يضاهي قوة اعتقادها في كرامات أولياء الله الصالحين. في إحدى المرات أخبرتني أنّ جدنا الأكبر كان "قادرياً" (الطريقة القادرية نسبة إلى عبد القادر الجيلاني) وأنّه كان من حين إلى آخر يغادر المدينة وحتى البلد مع أتباع الطريقة. لم يكن يترك أهل بيته بدون حماية، في الليل كانوا يشاهدون حصاناً أبيض يطوف بالبيت كأنه يحرسه ويحميه. "حصان سيدي عبد القادر الشي لله يا أولياء الله"، تقول جدتي.

***

العقرب لم تكن مصدر خوف وخطر فقط، أحياناً كانت مصدر رزق. في بدايات سنوات مراهقتي كان هناك رجل في الحي يشتري العقارب الحية أو المحنطة في الكحول شرط أن يكون جسمها كاملاً لم يتعرض للسحق والكسر. فيما بعد كانت توضع في علب خاصة أو أطر وتباع للسياح في المدن الساحلية.

خطر ظهور العقارب يصبح مضاعفاً عندما يقوم واحد من الأهل أو الجيران باقتلاع "طابية الهندي" (الصبار ويبلغ طوله أمتاراً ويغرس أساساً لرسم حدود الأراضي المتجاورة، ثماره تسمى هنا "الهندي" ويعتبره التونسيون "سلطان الغلة"، كما يستفيد صغار مربي الماشية من ظلفه كعلف للحيوانات) لتعويضها بسياج. حينها تتسرب العقارب التي كانت تعشش هناك وتسرح في أرض الله.. 

 كنا مجموعة من الأولاد نخرج ليلاً مرتدين أحذية مطاطية تلهب أقدامنا مع حرارة الجو لكنها تحميها من اللدغات السامة، وكل واحد منا يحمل معه "بيلة" (كشاف ضوئي محمول، لم تكن وقتها الهواتف المحمولة قد دخلت البلاد بعد). نذهب إلى الأمكنة التي نتوقع أن نجد فيها جحوراً للعقارب: طوابي الهندي، الخرائب، مقبرة السيارات الصدئة التي جرفتها فيضانات سنة 1982، الجدران القديمة المتشققة. نبحث بعناية وحذر شديدين، وأحياناً "نساعد الحظ" عبر دلق مياه باردة قريبة من الجحور المحتملة حتى تغري العقارب بالخروج. كنا نستعمل ملقطاً من الحديد لإمساك العقرب من ذيله ووضعه في علبة أو زجاجة.

***

تفتتح العقارب الصفراء (المائلة للخضرة) فصل الصيف، وتختتمه العقارب السوداء، وهي أقل خطراً من حيث السميّة وألم اللدغة. تبدأ العقارب السوداء في الظهور أواخر آب/أغسطس، المشكلة أنّها أصغر حجماً من العقرب الصفراء وأسرع حركة مما يسهل الخلط بينها وبين الخنافس السوداء، خاصة إذا كانت الإضاءة ضعيفة. كنت أكره العقارب السوداء ليس بسبب الخطر الذي قد تمثله بل لأن ظهورها يعني اقتراب نهاية العطلة واقتراب العودة للمدرسة ونهاية سهرات الصيف الممتعة التي كنّا نقضيها على "الفيراندا"..

***

بداية من آخر التسعينات الفائتة بدأت أعداد العقارب تتناقص بشكل كبير وأصبح من العادي أن تمر عدة ليالٍ صيفية دون ظهورها. السبب الرئيسي هو التغيرات الاجتماعية-الاقتصادية التي شهدتها "الحومة" (الحي/الحارة)، فمنذ الثمانينات بدأت العائلات الموسعة تتشظى تاركة المجال للعائلات الصغيرة المستقلة التي أصبحت أكثر حرصاً على خصوصيتها فنشأت حركة واسعة لتسييج المنازل بجدران من الحجارة أو الآجر الأحمر، فـ"الطابية" ليست عالية بما يكفي وفيها ثغرات ومداخل طبيعية أو مصطنعة مما يتيح للمارين رؤية أفنية البيوت. كانت البداية بإزالة "الطوابي" بين الجيران الذين لا ينتمون للعائلة نفسها ثم امتد الأمر لأبناء العمومة وبعدها شمل الإخوة. موجة معدية استمرت إلى بداية الألفية الثالثة. ومع كل منزل جديد يُبنى تسقط "طوابي" قديمة حتى صار من النادر أن تجد واحدة تقطف منها "كعبات هندي" (حبات الصبّار)، وأصبحت "الطابية" مرادفاً للأراضي المهجورة أو مظهراً يدل على "التخلف" ونقص النظافة. كما تقلصت المساحات غير المبنية وتزايد عدد السكان بشكل كبير فانتشر نمط "الفلل" (villas) العصرية بحدائق صغيرة ومزوقة، وظهرت البناءات العمودية.

وحدها جدتي لم تكن تخاف من العقارب. كنت أتعجب من شجاعتها فهي واهنة وبالكاد تتحرك ولا تستطيع قتل نملة فما بالك بالعقرب. عندما كنت أسألها عن السر كانت تقول أنّ "العقرب مرسولة " أي أنّها لا تلدغ الناس اعتباطياً بل الله هو من أرسلها لشخص بعينه.. ولا مرد لقضاء الله. 

 لعبت التحويلات المالية واستثمارات أبناء الحي المهاجرين في فرنسا وإيطاليا دورا محورياً في هذه التحولات. بالتزامن مع هذه المتغيرات العمرانية/المعمارية، انقرضت تدريجياً - مع وفاة جيل الأجداد ثم أبنائهم وتطور المستوى الدراسي العام للسكان - الأنشطة الفلاحية العائلية الصغيرة التي كانت حاضرة بقوة في الحي حتى بداية التسعينات الفائتة. وهكذا انحسر "المجال الحيوي" للعقرب بشكل كبير جداً حتى أصبح ظهورها أمراً مستغرباً بعد أن كانت "ضيفاً" صيفياً يومياً.

وحتى العقارب التي صمدت لم تعد تثير خوفاً كبيراً وصار ضررها محدوداً، ففي بداية التسعينات أيضاً انتشرت الهواتف الأرضية في البيوت وتمت "دمقرطة" حيازة وقيادة السيارات لتشمل الطبقات الوسطى بعد أن كانت حكراً على الأثرياء والعائدين من المهاجر، كما تزايد عدد مراكز الرعاية الصحية و"الحماية المدنية" (الدفاع المدني)، مما يعني سرعة الحصول على الإسعافات والمصل المضاد لسم العقرب. لم ترحم الحداثة - وما بعدها - العقارب.. 

مقالات من تونس

للكاتب نفسه