في ليالي منطقة وادي القمر بغرب محافظة الإسكندرية، لا رسائل تُبث من القمر، بينما تنعكس أشعة الشمس على جدران البيوت مكسورة أو مشوشة. فالسماء الملبدة بانبعاثات مصنع الأسمنت - الملاصق للكتلة السكانية - تتواطأ لتحد من عزيمة الأهالي ليل نهار، حتى تخفت مطالبهم بنقل المصنع المملوك لشركة متعددة الجنسيات واسعة النفوذ بعيداً عن مساكنهم.
على أرض الواقع ليس ثمة ما ينبئ بحل قريب، على الرغم من صدور العديد من الأحكام القضائية والدراسات والتقارير البيئية والصحية التي تنحاز لمطالب الأهالي، وتثبت الضرر الواقع عليهم من الناحية الصحية والبيئية، فضلاً عن انخفاض قيمة ممتلكاتهم بالمنطقة للسبب نفسه.
لكن الأمل تجدد مرة أخرى مع صدور تقرير من مكتب "المحقق" التابع للبنك الدولي، يؤكد على "مصداقية شكوى الأهالي بوجود تأثير سلبي للمصنع على البيئة وصحة السكان، وحدوث انتهاكات لحقوق العمال تسبّبَ فيها مصنع الأسمنت التابع للشركة" وفقاً لما ذكره بيان صادر عن "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية".
فهل من شأن التقرير المشار إليه أن يحرك المياه الساكنة، فيتكرر ما حدث مع سكان مقاطعة "نيوهانوفر" الأمريكية، حين أثمرت حملتهم الشعبية فى وقف توسعات أحد فروع مصانع "شركة تيتان للأسمنت" عام 2016؟
علماً بأن حملتي سكان "نيوهانوفر" و"وادي القمر" تقاطعتا منذ عام 2011، حين تبادل الأهالي الأفكار والتضامن قبل أن ينتصر أحدهم ويتعثر الآخر، لأسباب تخص اختلاف القوانين والظروف السياسية والاجتماعية.
صناعة ملوِّثة
تعد صناعة الأسمنت فى مصر من الصناعات الملوِّثة بوجه عام، فقد جاء في تقرير "حالة البيئة فى مصر" لعام 2019 (1) أن عدد المداخن التي تدخل ضمن منظومة رصد الانبعاثات الصناعية تصل إلى 299 مدخنة، أكثر من نصفها -169 مدخنة - تتبع مصانع للأسمنت. ويذكر التقرير أيضاً أن نتائج الرصد للمداخن الخاصة بمصانع الأسمنت لا تتوافق في مجملها مع الحد القانوني للانبعاثات، وخاصة فيما تطلقه من جسيمات صلبة وأكسيد النيتروجين.
وتصل عدد شركات الأسمنت المالكة لخطوط الإنتاج في مصر إلى 18 شركة بواقع 22 مصنعاً وفقاً لتقدير شعبة الأسمنت، بعضها حكومي وبعضها مملوك لمستثمرين أجانب. وتتركز شكاوى التلوث في المصانع القديمة التي بنيت قبل فترة التسعينات من القرن الماضي، وتحديداً قبل صدور قانون البيئة رقم 4 لسنة 1994، الذي وضع بنوداً تبلورت مع كل تعديل جديد حول الاشتراطات البيئية، ومن ضمنها المسافة الآمنة بين المنشآت الصناعية والكتلة السكنية، فضلاً عن نسبة الانبعاثات المسموح بها.
في مصر، لم تسفر جهود الأهالي في المحافظات المختلفة عن وقف منشآت صناعية ملوِّثة بشكل كامل، وحتى حين نجح أهالي محافظة "دمياط" في وقف مصنع للأسمدة - وصف وقتها بـ "مصنع الموت" - عام 2008، بعد حملة بيئية تعد الأقوى خلال السنوات الأخيرة، أعيد افتتاحه مرة أخرى بعد بضع سنوات.
الزحف السكاني ضمن ظاهرة البناء العشوائي هو أيضاً من العوامل الإضافية التي زادت من مخاطر المنشآت الصناعية على حياة السكان، والخطأ هنا لا يقع على أصحاب المساكن المخالفة وحدهم، فهناك أيضاً الوحدات المحلية التي لم تمارس دورها في منع التعديات وفي تسليم المساكن المخصصة للإسكان الاجتماعي لمستحقيها.
أما مصنع وادي القمر المشار إليه فتعود نشأته إلى عام 1948. وقتها كانت المنطقة عبارة عن حيازات زراعية ومساكن محدودة وفقاً لإفادة الأهالي. ضُم المصنع إلى ملكية الدولة عام 1961 بموجب قانون التأميم رقم 117 للعام نفسه، وانتقلت ملكيته إلى القطاع الخاص عبر الخصخصة - بيع أصول مملوكة للدولة - خلال التسعينات من القرن الماضي.
حجب المصنع تماماً - بالتوسعات المتلاحقة - مشهد البحر عن أهالي منطقة وادي القمر. لكن الاحتجاجات ضد المصنع لم يحركها هذا الضرر بل هي اشتعلت بعد خصخصته، وإنشاء فرن الإنتاج الخامس في العام 2002، الذي حصل على تصريح مؤقت مدته 6 أشهر، وبدأ الأهالي يلمسون زيادة الحالات المرضية بالمنطقة. وذلك فضلاً عن انتهاج إدارة "شركة تيتان" سياسة تقليل العمالة إلى 320 عاملاً فقط، بعد أن كان عدد العمال 2503 عاملاً قبل الخصخصة، أغلبهم من سكان "وادي القمر".
أسس الأهالي اللجنة الشعبية لدعم سكان وادي القمر، وجاء اندلاع الثورة الشعبية المصرية - عام 2011 - ليعزز أمل الأهالي في التغيير، وتحسين الأوضاع البيئية والصحية.
حملة بيئية
مع زيادة ضغط الأهالي لتحقيق مطالبهم المشروعة في بيئة آمنة، شاعت أخبار حول إمكانية نقل المصنع إلى خارج الكتلة السكانية، وفقاً لعادل عبد الجواد مؤسس حركة شباب وادي القمر، إلا أن ذلك الخيار سرعان ما تلاشى، بالتزامن مع التضييق على الحريات العامة وحق الاحتجاج والتجمع السلمي فى مصر.
ويعتبر عادل شاهد عيان على مخالفات المصنع خلال فترة عمله ضمن العمالة المؤقتة، حيث لمس بنفسه امتناع إدارة المصنع عن إجراء الصيانة اللازمة للفلاتر الخاصة بالمداخن، والتي من شأنها تقليل نسبة الانبعاثات الملوثة. يقول عادل أنه طالب إدارة المصنع أكثر من مرة بضرورة صيانة الفلاتر بصفته أحد المتضررين من سكان المنطقة لكن دون جدوى، علماً بأن المسافة الفاصلة بين المصنع والكتلة السكنية لا تتعدى العشرة أمتار.
تقاطعت منذ عام 2011 جهود سكان "نيوهانوفر" و"وادي القمر" وحملاتهما ضد الآثار المضرة بصحتهم وبالبيئة التي يتسبب بها "مصنع تيتان للاسمنت" حين تبادل الأهالي الأفكار والتضامن قبل أن ينتصر أحدهم ويتعثر الآخر، لأسباب تخص اختلاف القوانين والظروف السياسية والاجتماعية.
على أرض الواقع ليس ثمة ما ينبئ بحل قريب، على الرغم من صدور العديد من الأحكام القضائية والدراسات والتقارير البيئية والصحية التي تنحاز لمطالب الأهالي، وتثبت الضرر الواقع عليهم من الناحية الصحية والبيئية، فضلاً عن انخفاض قيمة ممتلكاتهم بالمنطقة للسبب نفسه.
وقد أثمرت احتجاجات الأهالي عن عدد من القرارات والأحكام الهامة. ففي عام 2008 أوصت لجنة مشكلة من مجلس الشعب باتخاذ إجراءات حازمة ضد مصنع "تيتان" بسبب ما تسببه الانبعاثات من آثار وصفها التقرير بالخطيرة، ليس على السكان فقط، ولكن على المصانع القريبة ومنتجاتها، مثل "شركة المكس للملاحات" المتخصصة في إنتاج ملح الطعام، والتي بدورها رفعت دعوى قضائية ضد الشركة حملت رقم 238 لسنة 2010.
رفع الأهالي أيضاً في العام 2013 دعوى قضائية حملت رقم 11623 لوقف تشغيل الخط الخامس المؤقت، ودعوى أخرى عام 2016 لوقف استخدام الفحم كوقود في المصنع، والذي قلّل من جودة ما يتنفسه الأهالي من هواء، بعد تطبيق قرار رئيس الوزراء رقم 964 لسنة 2015 بتعديل اللائحة التنفيذية لقانون البيئة. إضافة إلى عشرات المحاضر المسجلة ضد الشركة من قبل جهاز شؤون البيئة بالإسكندرية، والصور والفيديوهات التي بثها الأهالي عبر شبكات التواصل الاجتماعي، مثل الفيديو الذي بث بتاريخ 18 أيار/ مايو 2017، ويظهر انبعاثات دخانية كثيفة بأحد مداخن الشركة. وبعد تضامن 4 منظمات حقوقية مع الأهالي، رد مسؤولي المصنع باقتضاب بأنه "حادثة مؤقتة".
وفي عام 2015 قدم الأهالي بمساندة "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية"، شكوى إلى مكتب المحقق التابع للبنك الدولي عن مخالفة المصنع لمعايير الأداء المعنية بالاستدامة البيئية والاجتماعية لمؤسسة التمويل الدولية (IFC)، التي تمول المصنع وتتبع أيضاً البنك الدولي. وذكرت الشكوى عدم التزام شركة "تيتان" بمعيار الأداء الثانية الخاصة بالعمالة وظروف العمل، والثالثة الخاصة بكفاءة استخدام الموارد ووضع التلوث، والمعيار الرابع أيضاً الخاص بصحة وسلامة وأمن المجتمع المحلي. وبداية العام الحالي، وبعد ست سنوات كاملة، خلصت نتائج التحقيق إلى تأكيد مصداقية الشكوى بوجود تأثير سلبي للمصنع على البيئة وصحة السكان، وحدوث انتهاكات لحقوق العمال تسبب فيها مصنع الأسمنت التابع للشركة، والذي تموله مؤسسة التمويل الدولية (IFC) منذ عام 2010. وأكد التحقيق أن: "مؤسسة التمويل أخطأت منذ البداية عند التعاقد، حيث لم يتم تقييم الآثار البيئية والاجتماعية بما يتناسب مع طبيعة المشروع وحجمه والقرب من المنطقة السكنية، وأكدت نتائج التحقيق التأثير السلبي لانبعاثات الأتربة لمستويات أعلى بكثير من المعايير المقبولة دولياً، وارتفاع كل من قياسات الضوضاء والاهتزازات، وحدوث تصدعات بجدران المساكن القريبة للمصنع".
وعقّبت "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية" على التقرير السابق مؤكدة أنه بدون إعلان مؤسسة التمويل الدولية التزامها بما جاء بتقرير المحقق، ووضع خطة عمل فعالة لإزالة الضرر وتعويض المتضررين، فإن معايير الاستدامة البيئية والاجتماعية لمؤسسة التمويل الدولية تظل حبراً على ورق.
المحامي الحقوقي هاني عقل المتحدث باسم اللجنة الشعبية لسكان وادي القمر، أكد أن التقرير لا يمكن استخدامه في الدعاوي القضائية ضد شركة "تيتان"، فهو لم يقدم أدلة يمكن الاستعانة بها أمام ساحات التقاضي.
هنا وهناك
ثلاثة مشاهد لخّصت الفرق بين المعركتين ضد مصنع أسمنت "تيتان"، والتي خاضها كلٌ من سكان "وادي القمر" بمحافظة الإسكندرية، وسكان مقاطعة "نيوهانوفر" الأمريكية - التابعة لولاية جنوب كارولينا - في الجانب الآخر من المحيط الأطلسي.
قدّم الأهالي في العام 2015 شكوى إلى مكتب المحقِّق التابع للبنك الدولي عن مخالفة المصنع لمعايير أداء مؤسسة التمويل الدولية (IFC) التي تمول المصنع وتتبع أيضاً البنك الدولي. وبعد ست سنوات صدر التحقيق الذي يؤكد أن: "مؤسسة التمويل أخطأت منذ البداية عند التعاقد، حيث لم يتم تقييم الآثار البيئية والاجتماعية بما يتناسب مع طبيعة المشروع وحجمه والقرب من المنطقة السكنية".
نبدأ من المشهد الأخير في آذار/ مارس 2016 عندما رقص أهالي المقاطعة رقصة الانتصار، بعد منعهم زحف مصنع الأسمنت إلى سواحل بلدتهم، واستخدام الفحم كوقود، وإقامة منجم بطول الساحل، وأن ذلك تحقق بمساعدة سكان المنطقة من قبل الحركات الشعبية والجمعيات الحقوقية والأطباء والنشطاء البيئيين. وجميعهم لم يتوقفوا عن تنظيم الوقفات الاحتجاجية، وإعداد التقارير، وإرسال الخطابات إلى الجهات المسؤولة لحماية مجتمعهم المحلي من التلوث.
أما المشهد الأول فيعود إلى شهر أيار/ مايو 2008، حيث مُنح سكان "نيوهانوفر" الحق في التصويت خلال ثلاثة أيام على عرض مقدم من شركة "تيتان" لإقامة مصنع ومنجم على طول الساحل بمساحة 3 آلاف فدان. أصحاب النفوذ بالمنطقة دعموا المشروع، وبالفعل حصل على الموافقات المطلوبة، إلا أن احتجاجات الأهالي استمرت، حتى اضطر المسؤولون إلى إجراء استبيان آخر عام 2011، وجاءت النتيجة معارضة 52 في المئة من السكان للمشروع، وتأييده من قبل 36 في المئة منهم ، من إجمالي 649 شخصاً ضمّهم الاستبيان.
المشهد الثالث يخص انتصار أهالي "نيوهانوفر"، وتمثل في جمعهم كل المستندات اللازمة التي من شأنها إثبات الضرر الواقع من المصنع على السكان والبيئة. وكواحدة من متابعي تلك القضية كنت أشعر بالدهشة من كمّ التقارير الرسمية التي نجح الأهالي في الحصول عليها من جهات حكومية، على عكس ما يحدث تماماً هنا في مصر. وكان من ضمن تلك المستندات تقرير صدر عام 2012 أثبت أن التكلفة الصحية والبيئية لمعالجة آثار التلوث الناتج عن مصنع "تيتان" ب"نيوهانوفر" ستصل إلى 13 مليون دولار خلال 5 أشهر فقط، باعتبار أنه سيزداد عدد مرضى أزمات التنفس الحاد. وكان هذا التقرير من الأدلة القوية للضغط على صناع القرار، فانتصر أهالي نيوهانوفر.
فرصة قائمة
في مصر لم تسفر جهود الأهالي في المحافظات المختلفة عن وقف منشآت صناعية ملوِّثة بشكل كامل، وحتى حين نجح أهالي محافظة "دمياط" في وقف مصنع للأسمدة - وصف وقتها بـ "مصنع الموت" - عام 2008، بعد حملة بيئية تعد الأقوى خلال السنوات الأخيرة، أعيد افتتاحه مرة أخرى بعد بضع سنوات.
أكد التحقيق الدولي التأثير السلبي لانبعاثات الأتربة لمستويات أعلى بكثير من المعايير المقبولة دولياً، وارتفاع كل من قياسات الضوضاء والاهتزازات، وحدوث تصدعات بجدران المساكن القريبة... لكن، وبدون إعلان مؤسسة التمويل الدولية التزامها بما جاء بتقرير المحقق، ووضع خطة عمل فعالة لإزالة الضرر وتعويض المتضررين، فإن معايير الاستدامة البيئية والاجتماعية لمؤسسة التمويل الدولية تظل حبراً على ورق.
لكن الأمل يظل قائماً في إعادة صياغة العلاقة بين صناع القرار وبين قضايا التلوث البيئي في مصر، في ظل إطلاق "الاستراتيجية الوطنية لتغير المناخ 2050" خلال شهر أيار/ مايو من العام الحالي، إضافة إلى استضافة مصر مؤتمر الأطراف لاتفاقية الأمم المتحدة لتغير المناخ (COP27 ) تشرين الثاني/ نوفمبر القادم... لأنه من غير ذلك تصبح المؤتمرات البيئية والاستراتيجيات التي تصاحبها مجرد ثرثرة بلا طائل، بينما يستمر موت الناس من التلوث المتعاظِم!
1) تقرير منشور على الموقع الالكتروني لوزارة البيئة https://bit.ly/3J8Al3t