ينص مشروع الدستور الذي عرض على الاستفتاء على أن "القضاء وظيفة مستقلّة يباشرها قضاة لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون" ساحبا منها صفة "السلطة" المستقلة. وفي حين عوض المجلس الأعلى للقضاء كهيئة دستورية مستقلة، بأغلبية أعضاء منتخبين لمراقبة المسار المهني للقضاة، والتشاور في سن القوانين المتعلقة بالقضاء "ويشرف على كلّ صنف من هذه الأقضية مجلس أعلى يتولى القانون ضبط تركيبته واختصاصاته"، تراقب هذه المجالس المسار المهني للقضاة ومن بينهم سيختار رئيس الدولة أعضاء المحكمة الدستورية، لم ينص صراحة على طريقة إرساء هذه المجالس إن كانت معينة أم منتخبة ومستقلة أم تابعة لوزارة العدل إضافة إلى انتزاع حق المجالس في رأي مطابق في تسمية القضاة لتصبح هذه الأخيرة من مشمولاته وحده.
في الحقيقة لا يمكن اعتبار التغيير مفاجئا، إذ صرّح الرئيس في أكثر من مناسبة بأن القضاء "مرفق عمومي كسائر المرافق العمومية يتمتع بالاستقلالية ولا تتدخل فيه أي سلطة أخرى ولكنه لا يجب أن يتحول إلى سلطة داخل الدولة ومستقلا عنها." فالقضاء وفق سعيد مستقل والقاضي ملزم بالاستقلالية، ولكنه يرفض فكرة وجود سلطة قضائية تشرّع، بل يعتبر مهمة القضاء هي تطبيق القانون الذي وضعه صاحب السيادة بشرط أن يكون الذي يمثل صاحب السيادة بدوره مستقلا.
ماذا يعني تغيير القضاء من سلطة إلى وظيفة؟
يعرف معجم لسان العرب الوظيفة كالتالي:"الوظيفة من كل شيء ما يُقدَّر له في كل يوم من رِزق أَو طعام أَو علَف أَو شَراب وجمعها الوَظائف والوُظُف ووظَف الشيءَ على نفسه ووَظّفَه توظِيفاً أَلزمها إياه".
هذا التعريف اللغوي يمكن أن يكون مدخلا إلى تحويل القضاء من أداة علوية قاهرة -وهنا أيضا نستند إلى التعريف اللغوي للسلطة- إلى أداة موظفة وملزمة بإرادة خارجة عنها. في المقابل، يسهب قيس سعيد في الكثير من الأحيان في تبرير رؤيته عن السلط، مستشهدا بنظرية مونتسكيو المعروفة بـ"فصل السلطات الثلاث" وداعيا معارضيه إلى أن "يعودوا إلى مونتسكيو أو إلى عدد من الفلاسفة الآخرين الذين تحدثوا عن مبدأ الفصل بين السلطات" وكما يررد أيضا "السلطة هي للشعب والوظائف توزع".
في الواقع تؤكد نظريات مونتسكيو ضرورة توزيع سلطات الدولة الثلاث على هيئات منفصلة، لتراقب كل سلطة |السلطة الأخرى. والرقابة على السلطات وفق مونتسكيو تكون على نحو يمكن بموجبه إيقاف السلطة بالسلطة، بأن يكون هناك انفصال بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وكذلك بين الهيئات الوسيطة واللامركزية حتى يتسنى منع الحكم من الوقوع في الاستبداد.
أعطى مونتسكيو عدة تبريرات لنظريته، أهمها كون السيادة ملك للشعب، ولا يستطيع ممارستها بنفسه إلا في حالة الديمقراطية المباشرة، وعلى الشعب أن يختار ممثليه، وفي هذه الحالة فإن الجهاز الذي يضم ممثلي الشعب يمتلك السلطة، فإنه يمكن أن يغتصب السيادة وبالتالي فإن الفصل يسمح بتوزيع ممارسة السيادة بين عدة هيئات لا يمكن لأي منها أن تدعي تمثيل الشعب.
تونس: سقوف الرئيس وأعمدته وخرائطه..
31-12-2021
في الحقيقة هذا بالضبط ما يفعله قيس سعيد الذي سعى إلى احتكار تمثيل سيادة الشعب منذ 25 جويلية 2021، فإن كان يتعلل اليوم بأنه يمنح الشعب حق تقرير مصيره بالاستفتاء على الدستور، إلا أنه قدم دستورا كتبه بمفرده ووفق تصوراته الشخصية لنظام الحكم وتوزيع السلطات، والتي لم يقع التداول فيها ولا مناقشتها. كما أن تفعيل العمل بالدستور المقترح لم يرتبط صراحة بضرورة التصويت عليه بـ"نعم" بل جعل شرط دخوله حيز التطبيق هو إعلان نتائج الإستفتاء.
بقية التقرير على موقع "انكفاضة".