بعد موسم زراعي مرهق، شهد ارتفاعاً جنونياً في أسعار مدخلات الإنتاج وفي أجور العمال، ظن شعبان أحمد أن عائد محصوله الوفير من القمح سيكافئ جهده هذا العام، بعد خيبة كبيرة عاشها العام الماضي، جراء دمار محصوله نتيجة تقلبات الأجواء. انتظر المزارع الأربعيني والأب لخمسة أطفال من محافظة الفيوم - الذي شاهد على مدار الموسم، ارتفاع أسعار الدقيق المحلي بسبب التضخم المتسارع، وكذلك حدوث أزمة عالمية في الحبوب بسبب الحرب الروسية الأوكرانية - ارتفاعاً في أسعار القمح سيمكّنه من التخلص من ديونه. ذهبت كل آماله سدى، حينما وجد نفسه مجبراً على بيع محصوله هذا العام للحكومة، بأسعار تنخفض بأكثر من الثلث عن تلك الأسعار التي تدفعها تلك الحكومة نفسها للقمح المستورد من روسيا ورومانيا وبلغاريا، والذي يطابق الأسعار الدولية.
مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، سارعت السلطات المصرية للإعلان عن رغبتها بجمع 6 ملايين طن قمح محلي خلال الموسم الحالي. كانت بوادر الموسم مبشّرة مع توقعات بحصاد 10 ملايين طن من القمح هذا العام. حاولت السلطات إغراء المزارعين بإضافة 65 جنيه (3.45 دولارات) على كل أردب قمح (150 كيلوجراماً) لترفع سعره إلى ما بين 865 و885 جنيهاً (46 أو 47 دولاراً) وذلك لتستحوذ على الكمية الأكبر من الإنتاج المحلي. احتفت الصحف والحكومة بـ "هدية الرئيس" إلى المزارعين خلال هذا الموسم، بينما انتاب الغضب هؤلاء الأخيرون تجاه هذه الزيادة الطفيفة، التي لم تأخذ في الاعتبار التضخم الكبير خلال العام الأخير والانخفاض المتزايد لسعر الجنيه. طالب المزارعون بأن يتخطى سعر الأردب حاجز الألف جنيه، لكن كالعادة، لم يتم سماع طلبهم ولم ينقل الإعلام شكواهم.
ترغيب... وخصوصاً ترهيب
انطلق موسم الحصاد مع تردد المزارعين في بيع محصولهم للحكومة بالأسعار التي تطرحها عليهم. لوحت السلطات بالعصى لإجبارهم على تسليم محصولهم لها. في منتصف نيسان/ أبريل، أعلنت الحكومة إلزام كل مزارع ببيع 60 في المئة من محصوله إليها، والباقي يظل للاستخدام المنزلي، إلا إذا قرر بيعه فهو ملزم ببيعه للحكومة أيضاً. ومن يخالف القرار عليه تحمل غرامة بضعف سعر القمح المحدد من قبل السلطات، إضافة إلى حرمانه من الأسمدة والبذور المدعومة ومن الاستفادة من خدمات البنك الزراعي. ولعدم ترك أي باب مفتوح أمامهم، فرضت الحكومة على تجار القطاع الخاص المحليين الحصول على تصريح أمني من أجل مزاولة عملهم، وإلا سيتم اتهامهم بالإتجار وتداول القمح خارج منظومة التوريد.
دفعت هذه العقوبات جزءاً من المزارعين لتوريد النسبة المقررة من إنتاجهم للدولة، بينما ظل الكثيرون في حالة تردد. ولجأت السلطة حينها إلى اللعب على وتيرة الوطنية، إذ خرج وزير الزراعة ليقول إن الدولة "تراهن على وطنية الفلاح والمزارع المصري في زيادة توريد القمح هذا العام". وبين يوم وليلة، وجد المزارعون أنفسهم الضحية الرئيسية لأزمة القمح الحالية، وأن عليهم أن يدفعوا فاتورة هذه المأساة التي ورطت الدولة نفسها فيها منذ البداية قبل أن يكون سببها الحرب الأوكرانية.
بطاقات التموين في مصر: تهديد رغيف الخبز
09-06-2022
مصر كأكبر مستورد للقمح: أزمة الاكتفاء الذاتي
27-02-2022
لطالما قيل للمزارعين أن الجيد من بينهم هو الذي لا يشتكي آلامه، وأنه مجبر على القبول بسياسات متناقضة تفرضها الدولة دائماً عليهم، دون أن يكون لهم رأي فيها وإلا ستتم إدانتهم. الأشد مرارة من ذلك هو أنهم مجبرون على قبول أسعار تقل بأكثر من الثلث عن الأسعار التي تدفعها الحكومة للمزارعين في الخارج التي تتعاقد مع دولهم لشحنات القمح. ففي الوقت الذي تشتري السلطات القمح في السوق المحلي بسعر 5900 جنيه للطن (312 دولاراً)، تعاقدت على شراء شحنة 465 ألف طن من القمح الروسي والروماني والبلغاري، بداية حزيران/ يونيو بسعر 485 دولار للطن، قبل أن تتعاقد على شحنة جديدة تبلغ 815 ألف طن من القمح الفرنسي والروماني والروسي والبلغاري، بقيمة 440 دولاراً في المتوسط.
انطلق موسم الحصاد مع تردد المزارعين في بيع محصولهم للحكومة بالأسعار التي تطرحها عليهم. لوحت السلطات بالعصى لإجبارهم على تسليم محصولهم لها. في منتصف نيسان/ أبريل، أعلنت الحكومة إلزام كل مزارع ببيع 60 في المئة من محصوله إليها، والباقي يظل للاستخدام المنزلي، إلا إذا قرر بيعه فهو ملزم ببيعه للحكومة أيضاً.
أُجبر المزارعون على قبول أسعار تقل بأكثر من الثلث عن الأسعار التي تدفعها الحكومة للمزارعين في الخارج والتي تتعاقد مع دولهم لشحنات القمح. ففي الوقت الذي تشتري السلطات القمح في السوق المحلي بسعر 5900 جنيه للطن (312 دولاراً)، تعاقدت على شراء شحنة من 465 ألف طن من القمح الروسي والروماني والبلغاري، بداية حزيران/ يونيو بسعر 485 دولار للطن.
لم يساهم كثيراً التلويح بالعقوبات في تحقيق طموح السلطات بشأن الكمية المراد تحصيلها. حولت الحكومة تهديداتها إلى واقع، إذ أعلنت بعض المحافظات أن عدم تسليم المزارعين للقمح "جريمة"، في حين أقر مجلس الوزراء منع أي بيع للقمح لغير الدولة حتى شهر آب/ أغسطس. ووصف مسؤولون حكوميون المزارعين الرافضين لبيع محصولهم لها بـ "المتقاعسين"، كما بدأت عمليات التوقيف والملاحقات. ففي 5 حزيران/ يونيو، أعلنت الأجهزة الرقابية اعتقال 201 مواطن بينهم مزارعون وتجار بتهمة "التهريب خارج منظومة القمح، والتخزين الخارجي للأقماح المحلية". بعدها بأسبوع، أوقفت السلطات 5 مزارعين للقمح في الأسكندرية، وحررت ضدهم محاضر جنح، مطالبة إياهم بغرامة بقيمة 1.548 مليون جنيه. في الأقصر، أعلنت المحافظة عن غرامات بقيمة 13.3 مليون جنيه ضد مزارعين امتنعوا عن بيع محصولهم للدولة. في المنيا، حررت السلطات محاضر ضد 20 مزارعاً حولوا القمح إلى فريك للاستهلاك المنزلي. في مدينة المحلة بمحافظة الغربية، تم توقيف 111 مزارعاً لعدم توريد القمح، و73 مزارعاً آخراً في محافظة البحيرة. الاعتقالات لا تتوقف والجريمة هي عدم القبول بأسعار الحكومة المتردية، في حين يواجه المتهمون عقوبات تتراوح بين الغرامة أو السجن لمدة قد تصل إلى 3 سنوات، وفق قانون العقوبات. يعلق مزارع في محافظة بني سويف بمرارة، "يا ليتني لم أزرع قمحاً هذا العام".
المزارعون أمام الدولة
على الرغم من هذه الاعتقالات ومن العقوبات الشديدة، فشلت خطة السلطات. فمع قرب انتهاء الموسم، أعلنت وزارة التموين المصرية أنها جمعت بالكاد 4.1 ملايين طن حتى 20 حزيران/ يونيو، وهي نسبة تزيد قليلاً عن ال 3.5 ملايين طن التي تمّ جمعها العام الماضي دون عقوبات. هرعت السلطات إلى الخارج لطلب المزيد من شحنات القمح بأسعار مرتفعة وبعملة صعبة شحيحة لديها. في 29 حزيران/ يونيو الماضي، حصلت مصر على قرض بقيمة 500 مليون دولار من البنك الدولي لتمويل عمليات شراء القمح. قبلها بشهر تقريبا، اضطرت القاهرة لطلب تمويل إضافي بقيمة 3 مليارات دولارات من المؤسسة الدولية الإسلامية لتمويل التجارة، لمساندة مصر في شراء القمح.
يكشف فشل الحكومة في تحصيل النسبة التي كانت تطمح لها من القمح المحلي، على الرغم من التهديد والقمع والغرامات، القطيعة التي تأكدت بين الدولة والمزارعين. وهم استطاعوا جراء السياسات المعتمدة حيالهم أن يربّوا استقلالهم ومعيشتهم دون الاعتماد عليها. ولطالما ظلوا متشككين وخائبي الأمل من كل برنامج "إصلاح زراعي" تعلن عنه الحكومات الواحدة تلو الأخرى.
احتفت الصحف والحكومة بـ "هدية الرئيس" إلى المزارعين خلال هذا الموسم حين أضاف نسبة مالية على السعر المقرر، بينما انتاب الغضب هؤلاء تجاه هذه الزيادة الطفيفة التي لم تأخذ في الاعتبار التضخم الكبير خلال العام الأخير والانخفاض المتزايد لسعر الجنيه. طالب المزارعون بأن يتخطى سعر الأردب حاجز الألف جنيه. لكن كالعادة، لم يتم سماع طلبهم ولم ينقل الإعلام شكواهم.
وعلى الرغم من الاستدانة من الخارج، لم تفكر الحكومة ولو للحظة بزيادة سعر القمح في الداخل وإن بنسبة بسيطة وبعملة محلية، لإقناع المزارعين ببيع محصولهم لها. يعلق المزارع شعبان، "أغبط المزارع البلغاري والروماني، الذي يجد حكومة أخرى غير بلاده تهتم به وتشتري منه محصوله بسعر مرتفع"!
لا يفهم الفلاحون لماذا تدفع الدولة لمزارعين في الخارج أكثر بكثير ما تدفعه لهم مقابل القمح، أيّ تفسير يمكن أن يشرح ذلك لهم؟ تكثر النقاشات بينهم، ويتفق الجميع على نقطة واحدة: تريد الحكومة مواصلة استغلالهم وإفقارهم والحفاظ على دخلهم المنخفض للمدى البعيد، حتى لا تجد نفسها مضطرة لدفع مزيد من الأموال لهم خلال المواسم المقبلة.
منذ التسعينات الفائتة، أطلقت الدولة برنامجاً "إصلاحياً" معادياً لصغار المزارعين. أصدرت عدداً من القوانين التي تؤدي إلى تركيز الرقع الزراعية في يد عدد أقل، وبالتالي تعظيم الإنتاجية التي تخدم توجهات تصديرية. وعلى مدار ثلاثة عقود، استهدفت سياسات الدولة إنهاك المزارعين الصغار ومعاقبتهم لإحباطهم كل محاولات زيادة استفادتها من القطاع، من بينها وقف غالبية الدعم المقدم لهم. لكنها فجأة، تدرك أهميتهم وتبدأ بملاحقتهم لإنقاذها وقت الأزمة، حينما احتاجت إلى القمح الذي يزرعونه.
لطالما كان المزارعون أكثر واقعية وذكاء في التعامل مع الأزمات التي عاشوها جراء سياسات السلطات العدائية لهم. في التسعينات الفائتة، حينما اعتمدت مصر، بالتعاون مع الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي، تحولاً ليبرالياً في قطاع الزراعة، بهدف نقل القطاع من زراعة استهلاكية محلية إلى زراعة تصديرية تجلب العملة الأجنبية، ظنت أن هذا هو الحل السحري الذي سيساعد على تدفق الأموال الصعبة على خزانة الدولة. اعتقدت أن المزارعين سيهرعون لتبني مثل هذه الزراعات ذات العائد العالي من أجل الحصول على مزيد من المكسب. لكن المفاجأة لم تكن سارة لها، إذ زاد تمسك المزارعين بزراعة المحاصيل التقليدية مثل القمح والذرة، التي تضمن تأمين طعامهم، على الرغم من قلة دخلها في حالة البيع، في وقت ارتمت الدولة في سياسات تبعدها عن تحقيق الأمن الغذائي. اختار المزارعون أسلوباً حمائياً لأنفسهم أمام هذه السياسات المتهورة للغاية. سار كل طرف في اتجاه: المزارعون يركزون على تأمين مأكلهم، والدولة تبحث عن العملة الصعبة، بعيداً عن المحاصيل الهامة مثل القمح. جاء اليوم وثبتت نجاعة نظرة المزارعين وباتت الحكومة تبحث عن القمح في كل اتجاه، دون أن تمتلك العملة الصعبة اللازمة لشرائه من الخارج.
إفقار المزارعين
يكشف فشل الحكومة في تحصيل النسبة التي كانت تطمح لها من القمح رغم كل المحاولات، القطيعة التي تأكدت بين الدولة والمزارعين. على مر العقود الأخيرة، سعت السلطة لترك المزارعين لمصيرهم. وهم استطاعوا جراء هذه السياسات أن يربّوا استقلالهم ومعيشتهم دون الاعتماد عليها. لطالما ظلوا متشككين وخائبي الأمل من كل برنامج إصلاح زراعي تعلن عنه الحكومات الواحدة تلو الأخرى، هو ليس "إصلاحاً" بالنسبة لهم. جاء كل برنامج حكومي ليضيف فقراء جدد في المناطق الريفية. في الفترة من التسعينات وحتى 2010، زادت نسبة الفقر من 39 في المئة إلى 50 في المئة في المناطق الريفية، قبل أن تصل إلى 57 في المئة وفق الصندوق الدولي للتنمية الزراعية "إيفاد".
في حزيران/ يونيو الماضي، حصلت مصر على قرض بقيمة 500 مليون دولار من البنك الدولي لتمويل شراء القمح. وقبلها بشهر تقريباً، اضطرت القاهرة لطلب 3 مليار دولار من المؤسسة الدولية الإسلامية لتمويل التجارة، لمساندة مصر في شراء القمح. ولكن الحكومة لم تفكر أبداً بزيادة سعر القمح المنتج محلياً، وإن بنسبة بسيطة وبعملة محلية، لإقناع المزارعين ببيع محصولهم لها.
منذ التسعينات الفائتة، أطلقت الدولة برنامجاً "إصلاحياً" معادياً لصغار المزارعين، فأصدرت عدداً من القوانين التي تؤدي إلى تركيز الرقع الزراعية في يد عدد قليل، وبالتالي تعظيم الإنتاجية التي تخدم توجهات تصديرية. وعلى مدار ثلاثة عقود، استهدفت سياسات الدولة إنهاك المزارعين الصغار كوقف غالبية الدعم المقدم لهم وكذلك معاقبتهم لإحباطهم كل محاولات زيادة استفادتها من القطاع.
تصاعدت السياسات المعادية تجاه المزارعين خلال الأعوام الأخيرة، بدءاً برفع ما تبقى من الدعم عنهم في ظل سياسات نيوليبرالية صارمة تتبناها السلطات منذ 2014. أصبح المزارعون – على الرغم من فقرهم الواسع - هدفاً أيضاً للحكومة الحالية لتحقيق عوائد للموازنة العامة. فمؤخراً، حررت الحكومة أسعار إيجارات أراضي الأوقاف التي يستأجرها المزارعون، الأمر الذي أثار غضباً واسعاً بينهم. وفرضت هذا العام، ضريبة على الحصول على مياه الري، وهي تنتظر التطبيق.