عيد اليمنيين مختصَراً باللحم وكسوة الأولاد

كانت "العُوّادة" (العيدية) تمنح أيضاً، علاوة على الاطفال، للأقارب من النساء لدى زيارة رجال العائلة لهن، خاصة الأخوات والأمهات والعمّات والخالات والجدات. لكن صارت الهواتف المحمولة تنوب عن زيارة الرجال لمن تنطبق عليهن صفة "الأرحام" من نساء العائلة، خاصة في ظل تردّي الأوضاع المعيشية وصعوبة التنقل في ظروف الحرب.
2022-07-14

لطف الصَّرَاري

قاص وصحافي من اليمن


شارك
رجال يتمرجحون لتوديع الحجاج

أثّرت الحرب الدائرة في اليمن منذ ما يقارب ثمان سنوات على كل جوانب الحياة، بما في ذلك طقوس وتقاليد العيدين: الفطر والأضحى. عادةً ما تكون هذه الطقوس منهكِة اقتصادياً لميزانية الأسرة، لكن أربابها يحرصون على توفير الحدّ الأدنى من المال ووضع همومهم جانباً، لكي يصنعوا أجواء الفرح العيدي وينخرطون فيه.

لا تختلف طقوس العيدين الاجتماعية، عدا في وجوب ذبح الأضاحي وتزامن عيد الأضحى مع موسم الحجّ الإسلامي إلى مكّة. وكان هذا الفرق كافياً ليسمّي اليمنيون عيد الفطر بـ"العيد الصغير" والأضحى بـ"العيد الكبير". أما مشتركاتهما فتشمل ارتداء الملابس الجديدة، نقش الحنّاء و"الخِضاب" بالنسبة للنساء، صنع وشراء "جِعالة العيد" وهي الحلويات والكعك والمكسّرات المخلوطة بالزبيب، منح الأطفال "العيدية" التي تسمى في صنعاء "عَسَب"، وفي مناطق أخرى "عُوّادَة". تُمنح "العُوّادة" أيضاً للأقارب من النساء لدى زيارة رجال العائلة لهن، خاصة الأخوات والأمهات والعمّات والخالات والجدات. كما تشمل هذه الطقوس النزهة، لكنها ليست في متناول جميع العائلات، لذلك يكتفي غير القادرين على التنزّه بتبادل الزيارات خلال أيام العيد.

عيد الأضحى هذا العام

للمرة الثامنة يحلّ عيد الأضحى على اليمنيين ممتزجاً بقسوة الحرب ونتائجها الكارثية المتراكمة على مدى السنوات الفائتة. وقد تضاعفت أسعار السلع الأساسية والخدمات بصورة قاصمة للظهور المنحنية تحت ثقل الأزمات التي أفرزها استمرار الاقتتال، ودائماً كان تدهور العملة الوطنية مفتاح كل أزمة. في السنة الأولى من التدخّل العسكري لـ"التحالف العربي" بقيادة السعودية (2015)، كانت قيمة الريال اليمني أمام الدولار الأمريكي 220 ريالاً لكل دولار، و57 ريالاً لكل ريال سعودي، ومثلها بالنسبة للدرهم الإماراتي. وفي العام 2018، انقسم الريال بين طبعة قديمة بقيت في مناطق سيطرة الحوثيين، وطبعة جديدة لجأت إليها الحكومة المعترف بها دولياً لتوفير السيولة النقدية في مناطق سيطرتها، دون دراسة لكمية العملة المطبوعة. ترافق ذلك مع نقل الحكومة للبنك المركزي من صنعاء إلى عدن. ومنذ العام 2018- 2022، تأرجحت قيمة العملة في مناطق سيطرتها بين 1700 و985 ريال لكل دولار أمريكي، وبالتزامن مع عيد الأضحى انهار الريال أمام الدولار في عدن مرة أخرى مسجلاً 1126 ريالاً لكل دولار. 

في ليلة العيد، كان الأطفال والفتيان، خاصة في الأرياف، يُشعلون أكواماً صغيرة من الرماد المعجون بالكيروسين على أسطح منازلهم، وهو تقليد عُرف باسم "التَّناصِير". في بعض المناطق يشعلون إطارات السيارات على قمم التلال. ومع أن الحرب نالت من الإمكانيات المادية للمواطنين، لا يزال فتيان الأرياف يحيون هذا التقليد، على الرغم من مخاطر الحرائق المصاحبة له.

أثّرت الحرب كثيراً على طقوس العيد، وصار الهمّ الأول لربّ العائلة يتمثّل بشراء الأضحية وملابس العيد لأطفاله، كما صار سؤال التكافل الاجتماعي مقتصِراً على هذين الاحتياجين: هل كسوتَ الأولاد واشتريتَ كبش العيد؟ هنا يمكن أن تنشط بعض مبادرات التكافل من أجل توفير هذين الاحتياجين فقط.

في صنعاء، تدهورت قيمة العملة متخطية حاجز الـ600 ريال لكل دولار قبل أن تعود إلى 557 ريالاً منذ نيسان/ أبريل 2022، على أن سعر الصرف في صنعاء يتّسم بالثبات النسبي أكثر من عدن. والملاحظ في كل انهيار أو تعافي نسبي للريال، سواءً في عدن أو صنعاء، أن لتوفُّر النقد الأجنبي (الدولار الأمريكي تحديداً) الدور الرئيسي في ذلك، وقد صار توفّر النقد الأجنبي في بنك عدن مرتبطاً شرطياً بالودائع السعودية التي تُستنفد في استيراد الوقود والسلع الأساسية، إضافة لما يرافق التصرف بالودائع من فساد وسوء إدارة مصرفية.

  أسفر انهيار العملة عن ارتفاع متصاعد لأسعار السلع الأساسية والخدمات، وعلى الرغم من تزامن عيد الأضحى هذا العام مع هدنة برعاية الأمم المتحدة بين طرفي الحرب الرئيسيَّين، برزت أزمة وقود حادة في مناطق سيطرة الحكومة المعترف بها دولياً، وارتفع سعر صفيحة البنزين سعة 20 لتراً من 22500 ريال (20$) إلى 25800 ريال (23$). وفي صنعاء والمحافظات الواقعة تحت سيطرة الحوثيين، استقبلت شركة النفط عيد الأضحى بجرعة سعرية على صفيحة البنزين ذات السعة نفسها، من 12300 ريال (22$) إلى 14 ألف ريال (25$)، مبررة هذه الزيادة بارتفاع سعر الوقود وتكاليف الشحن عالمياً بسبب الحرب الروسية في أوكرانيا، والمبرر نفسه ساقته سلطات عدن.

"المَدْرَهَة" هي التسمية المحلية للأرجوحة، وتُنصب في ساحة الحيّ الذي يسكنه الحاج/ الحاجة بعد ذهابه إلى مكة، وتثبت جيداً لأن سقوطها أو اختلالها يعتبر نذير شؤم عليه. وأثناء تأرجح أقارب الحاج أو الحاجّة، يُنشدون أهازيج حوارية مع الحجاج في ما يشبه طقوس التخاطر معهم أو الابتهال لأجل عودتهم سالمين. وتشمل طقوس "المدرهة" تعليق بعض من ثياب الحجاج على قوائمها.

في هذا الوضع الخانق قضى اليمنيون عيد الأضحى هذا العام، متمسكين بما تطاله قدرتهم المادية والنفسية من بهجة العيد. والملاحظ أنه كلما اشتدت الأزمات، زاد لجوؤهم إلى طقوس العيد الدينية أكثر من الدنيوية. فخلال العشر الأيام الأولى من شهر ذي الحجة، تزايد عدد الذين يصومون نهاراتها أو على الأقل الأيام الأخيرة منها، وفي المدن ترتفع تكبيرات العيد من مكبرات صوت جوّالة، ويلجأ ملاك بعض المحلات التجارية لبثّ تسجيل لهذه التكبيرات في سياق إشاعة أجواء العيد واجتذاب المتسوّقين.

ما تبقى من تقاليد وطقوس

تختلف تقاليد وطقوس الاحتفال بعيد الأضحى في اليمن من منطقة لأخرى، لكن جميعها يتمحور حول استقبال العيد، لحوم الأضاحي، الملابس الجديدة، الزيارات، وتوديع واستقبال الحجّاج. أولى التقاليد تبدأ بشراء الأضحية والملابس الجديدة وقد تتضمن تجديد طلاء المنازل كما في بعض مدن محافظة حضرموت (شرق) ومحافظة الحديدة (غرب). وفي ليلة العيد، كان الأطفال والفتيان، خاصة في الأرياف، يُشعلون أكواماً صغيرة من الرماد المعجون بالكيروسين على أسطح منازلهم، وهو تقليد عُرف باسم "التَّناصِير". في بعض المناطق يشعلون إطارات السيارات على قمم التلال، ومع أن الحرب نالت من الإمكانيات المادية للمواطنين، لا يزال فتيان الأرياف يحيون هذا التقليد، على الرغم من مخاطر الحرائق المصاحبة له. تقلّصت هذه الطقوس، ليس فقط بسبب الحرب وتأثيراتها الاقتصادية، فتغيّر نمط الحياة ودخول أدوات وسلع استهلاكية جديدة على أفراد المجتمع، كان له دور في ذلك بلا شك.

 الهواتف المحمولة أبرز الأمثلة على ذلك، حيث صارت تنوب عن زيارة الرجال لمن تنطبق عليهن صفة "الأرحام" من نساء العائلة، خاصة في ظل تردّي الأوضاع المعيشية وصعوبة التنقل في ظروف الحرب.

في الواقع أثّرت الحرب كثيراً على طقوس العيد، وصار الهمّ الأول لربّ العائلة يتمثّل بشراء الأضحية وملابس العيد لأطفاله، كما صار سؤال التكافل الاجتماعي مقتصراً على هذين الاحتياجين: هل كسوتَ الأولاد واشتريتَ كبش العيد؟ هنا يمكن أن تنشط بعض مبادرات التكافل من أجل توفير هذين الاحتياجين فقط، لكن المتعفّفين لا يحبّون الإحسان المعلن.

توديع واستقبال الحجاج

طقوس توديع واستقبال الحجاج تتسم بالتنوع هي الأخرى، ففي حضرموت كانت المنازل تُطلى باللون الأبيض تعبيراً عن صفاء النفوس في هذا الموسم، وابتداءً من يوم العيد يلتقي الشعراء ومحبّي الأدب لعقد مساجلات في الأحياء تُعرف بـ"المطالع السنوية".

في ظل الوضع الخانق، قضى اليمنيون عيد الأضحى هذا العام متمسكين بما تطاله قدرتهم المادية والنفسية من بهجة العيد. وكلما اشتدت الأزمات، زاد لجوؤهم إلى طقوس العيد الدينية أكثر من الدنيوية. فخلال العشر الأيام الأولى من شهر ذي الحجة، تزايد عدد الذين يصومون نهاراتها أو على الأقل الأيام الأخيرة منها. وفي المدن ترتفع تكبيرات العيد من مكبرات صوت جوّالة..

 وفي صنعاء، يبدأ توديع الحجاج بإنشاد بعض القصائد الصوفية الخاصة بموسم الحج، وأشهرها قصيدة الشيخ عبدالرحيم البُرَعي: "يا راحلين إلى مِنى بقيادي هيّجتمُ يوم الرحيل فؤادي". أما أشهر العادات المصاحبة لسفر الحجّاج فهي "المَدْرَهَة": التسمية المحلية للأرجوحة.

المدرحة او الارجوحة في اليمن لتوديع الحجاج

كانت "المدرهة" تُنصب في ساحة الحيّ الذي يسكنه الحاج/ الحاجة أو أمام بيته بعد ذهابه إلى مكة، ويجب أن تثبت جيداً لأن سقوطها أو اختلالها يعتبر نذير شؤم عليه. وأثناء تأرجح أقارب الحاج أو الحاجّة، يُنشدون أهازيج حوارية مع الحجاج في ما يشبه طقوس التخاطر معهم أو الابتهال لأجل عودتهم سالمين، ومن كلماتها: "يا حاجّنا يا حاجّنا إين قَدَك إين عادَك؟ قال عادني عند الحرم وملتوي بزمزم". هناك أيضاً أهازيج حوارية مع الأرجوحة نفسها في حال لاحظ المتأرجح عدم ثباتها: "يا مدرهة يا مدرهة.. ما لصوتِش واهي (ضعيف).. قالت أنا واهية وما حَدْ كساني.. كِسوتي رطلين حديد والخشب رُمّاني". غير أن كِسوة الأرجوحة لا تقتصر على الحديد والخشب، إذ تشمل طقوس "المدرهة" تعليق بعض من ثياب الحجاج على قوائمها.

على الرغم من أن هذه التقاليد اكتسبت ثباتاً متواتراً منذ العصر الإسلامي المبكر في اليمن، فقد أوشكت على الاندثار مع دخول وسائل النقل الحديث إلى البلاد. وبدلاً من الجِمال والبغال التي كان الحجاج يستغرقون قرابة الثلاثة أشهر للسفر عبرها، صاروا منذ ستينيات القرن العشرين الفائت يختصرون زمن الحجّ بأقل من شهر عبر السيارة، وأقلّ من ذلك عبر الطائرة. ومنذ العام 2015، صار دخول الأراضي السعودية من اليمن مقتصراً على السيارات وحافلات النقل الدولي، وعبر منفذ برّي واحد هو منفذ "الوديعة" غرب محافظة حضرموت. وفي حين كان عدد الحجاج اليمنيين في أزمنة سابقة، خاصة العقود الأخيرة من القرن العشرين والعقد الأول من الألفية الثالثة، يتجاوز المئة ألف حاج، تشير إحصائيات رسمية إلى أن عددهم هذا العام لم يتجاوز 24 ألفاً. 

مقالات من اليمن

للكاتب نفسه