اليسار التونسي وسرديته الكبرى: نقد الاقتصاد الريعي ونقد نقده

يعود عزيز كريشان في كتابه الجديد «اليسار وسرديته الكبرى: من أجل فهم الاقتصاد الريعي»، إلى واحدة من أشهر المعارك النظرية داخل اليسار التونسي. لا بوصفه أحد قيادات اليسار الماركسي تاريخيًا وإنما باعتباره باحثًا، يحاول كريشان أن يستفيد من تجربته العملية داخل تنظيمات اليسار الثوري في سبعينيات القرن الماضي، في إجراء مراجعة نقدية للأسس النظرية لهذه التنظيمات، والتي أدت في النهاية -إلى جانب أسباب موضوعية أخرى- لما يعيشه اليسار من انحسار، ذلك أن «الثورة عندما كانت تطرق الباب شتاء 2011، كان حزب الثورة غائبًا».
2022-06-30

شارك
تصميم محمد شحادة.

يعود عزيز كريشان في كتابه الجديد «اليسار وسرديته الكبرى: من أجل فهم الاقتصاد الريعي»، إلى واحدة من أشهر المعارك النظرية داخل اليسار التونسي. لا بوصفه أحد قيادات اليسار الماركسي تاريخيًا وإنما باعتباره باحثًا، يحاول كريشان أن يستفيد من تجربته العملية داخل تنظيمات اليسار الثوري في سبعينيات القرن الماضي، في إجراء مراجعة نقدية للأسس النظرية لهذه التنظيمات، والتي أدت في النهاية -إلى جانب أسباب موضوعية أخرى- لما يعيشه اليسار من انحسار، ذلك أن «الثورة عندما كانت تطرق الباب شتاء 2011، كان حزب الثورة غائبًا». وما يحسب لكريشان (1947) أنه من بين قلة من قيادات اليسار الذين حافظوا على اهتمام لصيق بتحليل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، كونه قد حصّل تكوينًا أكاديميًا في الاقتصاد السياسي، خلافًا لرفاقه الذين تفرقت بهم السبل نحو العمل الحقوقي والفني والسياسي الحزبي.

لكن كريشان بقدر ما يقوم بعملية نقد جذري وشامل للنظريات اليسارية المتصارعة حول طبيعة المجتمع وطبيعة النظام الاقتصادي القائم في البلاد، وطبيعة الثورة وبرنامجها، فإنه يحاول وضع تحليل جديد باعتباره التحليل الأكثر صحة ودقة، أو يمكن القول إنه يحاول تصحيح خطأ تاريخي، من خلال إضفاء الطبيعية الريعية على النظام الاقتصادي التونسي، عبر رسم مسار تاريخي لنشوء هذا النظام وتأثيراته على طبيعة التشكيلات الاجتماعية القائمة، ثم رسم برنامج «النضال الاجتماعي» ضده وضد السلطة السياسية التي تحميه.

«دع مائة زهرة تتفتح»: سبعينيات السرديات المتصارعة

في القسم الأول من الكتاب يعود كريشان إلى الصراع النظري بين المجموعات اليسارية الثورية حول طبيعة المجتمع وطابع الثورة القادمة. في نهاية ستينيات القرن الماضي كان النظام التعاضدي القائم في البلاد (الاشتراكية الدستورية) يشارف على الهلاك، تحت تأثيرات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي عاشتها البلاد، بعد سنوات من تركيز نظام رأسمالية الدولة وهيمنة الدولة على السلطة والثروة على نحو احتكاري. بموازاة هذه الأزمة كانت القوى اليسارية الماركسية والقومية الاشتراكية قد توحدت قبل سنوات داخل تنظيم «تجمع الدراسات والعمل الاشتراكي في تونس» المعروف اختصارًا بحركة «آفاق»، وكان التحليل اليساري السائد لنمط الإنتاج القائم في البلاد هو «رأسمالية احتكار الدولة»، اعتمادًا على كلاسيكيات الماركسية اللينينية، خاصةً لينين في دراسته حول الإمبريالية، وبول بوكارا في دراسته حول رأسمالية «احتكار الدولة: أزمتها ونتائجها».

وكان هذا التحليل التقليدي المطمئن إلى وجود رأسمالية يقود مباشرة إلى أن الطبقات الاجتماعية الرئيسية هي الطبقة البرجوازية والطبقة العاملة، وأن طبيعة الثورة المفترضة يجب أن تكون «ثورة اشتراكية» تقود إلى ديكتاتورية البروليتاريا. لكن نهاية النظام التعاضدي وإقالة قائده، أحمد بن صالح (1926-2020)، وسجنه بتهمة الخيانة العظمى في أيار 1970، طرح العديد من المشاكل حول مقولة «رأسمالية احتكار الدولة»، خاصةً بعد دخول البلاد في حالة من «الانفتاح» الاقتصادي، قادها الوزير الجديد هادي نويرة. فلم يعد التحليل السائد متماسكًا أمام التحولات السياسية والاقتصادية، فيما وجد التنظيم نفسه داخل المعتقل بعد هجمة قاسية من السلطة، وعند هذه اللحظة بدأت المراجعات النظرية تقرع أبواب حركة آفاق، مدفوعة ببروز مرجعيات نظرية جديدة في عالم الماركسية، بعضها قادم من الصين، وبعضها الآخر صادر عن مثقفين وباحثين ماركسيين غربيين مستقلين، أي لم تعد كلاسيكيات الماركسية الأساسية مرجعًا وحيدًا لتحديد طبيعة النظام وطبع الثورة وشكل التنظيم وبرنامجه. هذه الديناميكية الفكرية أدت إلى بروز «منظمة العامل التونسي» كامتداد تنظيمي لحركة آفاق لكن بثوب نظري جديد، تشقها ثلاثة اتجاهات رئيسية؛ الاتجاه القديم الذي يُقرّ بأن النظام السائد رأسمالي، واتجاه جديد متأثر بالطرح الماوي يعتبر النظام كمبرادوري، واتجاه ثالث ينادي بالماركسية اللينينية المناهضة للتحريفية وفقًا لأطروحات أنور خوجة، الأمين العام لحزب العمال الألباني، بعد القطيعة مع الصين عام 1972. وعلى هامش هذه الحركية داخل «العامل التونسي» بدأت مجموعات ماوية في التشكل تحت تأثيرات شيوع الماوية عالميًا بعد الثورة الثقافية في الصين، ثم أخذت هذه المجموعات المتشرذمة في الالتفاف حول جريدة سرية تسمى «الشعلة»، كانت تعبر عن صوت جديد ومغاير داخل خارطة اليسار الثوري التونسي، مدفوعة بالمد الماوي عالميًا ومقولاته السحرية، كون الصين في ذلك الوقت كانت ذات أوضاع شبيهة بما تعيشه الدول العربية. وكانت «الشعلة»، التي ما لبثت أن تحولت إلى منظمة سرية، تدافع عن «الطرح الوطني الديمقراطي» في مواجهة خصميها: اليسراوية التروتسكية والتحريفية.

وسط هذه الغابة من الطروحات، التي تناقش سرًا تحت الأرض في ظل حالة من القمع الذي أخذ أشكالًا غير مسبوقة من القسوة، برز إلى دنيا اليسار الثوري، وخاصةً داخل أسوار الجامعة التونسية، خطان ثوريان تقودهما «أطروحتان خاطئتان»، كما يسميهما عزيز كريشان، «لأن كلتاهما لا تتطابق مع الواقع الاقتصادي والاجتماعي للبلاد، وهو ما يفسر دون شك استحالة تغلب الواحدة على الأخرى رغم مرور السنين، لأن الخطأ لا يمكن أن يصلح بالخطأ».

بقية النص على موقع "حبر".

مقالات من العالم العربي

بغداد وأشباحٌ أخرى

نبيل صالح 2024-12-01

عُدتُ إلى بغداد ولم أعد. تركتُ قُبلةً على قبر أُمي ورحلتُ. ما حدث ويحدث لبغداد بعد الغزو الذي قادته جيوش الولايات المتحدة الأمريكية، هو انتقامٌ من الأسلاف والتاريخ معاً.

لبنان مجدداً وغزة في القلب منه

... أما أنا فأفرح - الى حدّ الدموع المنهمرة بصمت وبلا توقف - لفرح النازحين العائدين بحماس الى بيوتهم في الجنوب والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية. لتلك السيارات التي بدأت الرحلة...