يسعى وتصعد باتجاه.. "هنالك"

صعدت شيرين وسط كل ذاك الاحتفاء، شهيدة يحملها شهداء. لم تتعامل مع نفسها بصفتها فدائية ولكن كمهنية، فجاءت روايتها - على عكس كثير من مساحات الالتباس والادعاء في الحياة - لتعلن أنّها كانت هنا مناضلة.
2022-05-30

منى سليم

كاتبة وصحافية من مصر


شارك
شروق غروب، كاظم حيدر - العراق

يسعى بنا "الشغف" حتى تصعد منا "الروح" ثم يأتي مشهد "النهاية / الوداع" ليحكي دون كلمة عن مختصر الرحلة وما حملته من معنى. من أنتِ؟ وماذا أردتِ بعد أن جئتِ؟ وإلى أي مدى أدركتِ ومن ثم صدّقتِ بأنّ "هنالك" هو كل ما يبقى منكِ هنا.

"كانت معكم شيرين أبو عاقلة من رام الله، فلسطين المحتلة ". صعدت لتبقى. ومن مصر، عنا وعنها، أكتب لكم، ولا يقين عمّا يتبقى من شغف لدى أيٍّ منا، ولكن لا زلنا نسعى.

في البدء كانت فلسطين

وهكذا ستبقى، منطلقاً وخاتمة. يشهد على ذلك جسد "شيرين" ومخيم "جنين" وكل من لا يزال يؤمن بحتمية المقاومة في مواجهة العدو.

سقطت الجميلة برصاصة صهيونية أصابت الجمجمة، فاتخذ جسدها الفلسطيني وضعية حنظلة، ظهرها للعالم احتجاجاً وجهها للأرض احتضاناً. وما بين الاحتجاج والاحتضان لطالما تشكلت تفاصيل كل قصة لها حدود الملحمة.

على الأرض ذراعان مسالمان لم يعرِفا يوماً الاستسلام وانمّا حمْل الميكرفون كلما أزفت المواجهة، وقلب توقف عن النبض بعد خمسين عاماً من الشغف المرتهن بالصدق والموضوعية دون مواربة.

في حوار صحافي معها في العام 2008، قالت: "الخوف موجود، ولكنّ التزامك بنقل صورة شاملة عن الأحداث يدفع بالخوف إلى زاوية ثانوية. حدث معنا على سبيل المثال في جنين، حيث اضطررنا بسبب الإغلاق إلى سلوك طرق فرعية ووعرة ومحفوفة بالمخاطر. وعندما نجحنا في ذلك، وجدنا أنفسنا فجأة في خضم المعركة، فالدبابات تطلق قذائفها من كل جانب وأزيز الرصاص يمر من فوق رؤوسنا".

مرّت عشرون عاماً على تلك المجزرة ثم جاء الاستشهاد في لحظةِ اقتحام جديدة ولكن من نقطة تبدو مأمونة هادئة، فكم هي أثمان مقدّرة دون اشتراط للتجانس ولا حضور للمواءمة.

تقول "لارين" ابنة أخيها، في حوار صحافي: كانت شديدة اللطف والتواضع والاهتمام بمشاركة الآخرين، كانت دوماً مصدر فخر للعائلة، صحافية لامعة، فقررتُ أن أدرس المجال نفسه تأسياً بها. الآن وأنا أتابع مشاهد وداعها أقول عاشت عمراً كاملاً باتجاه هدف واحد هو أن تكون صوتاً لفلسطين، وحين صعدت روحها أصبحت كل فلسطين صوتاً لها.

سقطت الجميلة برصاصة صهيونية أصابت الجمجمة، فاتخذ جسدها وضعية حنظلة، ظهْرُها للعالم احتجاجاً وجهها للأرض احتضاناً. وما بين الاحتجاج والاحتضان لطالما تشكلت تفاصيل كل ملحمة. عاشت عمراً كاملاً باتجاه أن تكون صوتاً لفلسطين، وحين صعدت روحها أصبحت كل فلسطين صوتاً لها. خوذة وخصلات مدمّاة متناثرة تغطي أثر تفجر السنبلة، وكوفية تحيط كالنقش بذاك الوجه فوق النعش الذي تحول لساحة معركة.

وتلك السيدة العزيزة الساكنة في مخيم جنين تبكيها على الهواء بعد لحظة الاستشهاد الأولى ولا تصدّق، تحكي عن ذكرياتها معها، كيف كانت تشاركها في العام 2002 البحث عن أجساد أبنائها تحت الركام، وصفتها بأنّها "ريحة دلال المغربي"، وهتفت: "يا شباب قولوا الله هاي شيرين مش حيالله".

خوذة وخصلات مدمّاة متناثرة تغطي أثر تفجر السنبلة، وكوفية تحيط كالنقش بذاك الوجه فوق النعش الذي تحول لساحة معركة.

يحكي رجائي حداد: "دافعنا بأجسادنا وتلقينا اعتداءً وحشياً لكنّنا كنّا نقول لبعضنا البعض إنْ سقطت شيرين سقطنا كلنا، إن سقط النعش كأنّها القدس سقطت من جديد".

أجرت الصحافية المصرية "فاتن الوكيل" حواراً معه ومع آخرين عن معركة حماية النعش. حكت عن العائد من الأسر بعد 20 عاماً، وقد كانت شيرين من أوائل من أجروا معه حواراً ثم جمعتهم لقاءات ودٍ واستماع للاطمئنان على كل من لا زالوا. قال "كانت دوماً معنا"، فوصفت الصحافية الشابة التي تتمنى كغيرها أن تسير على النهج نفسه: "على الرغم من الهجوم المباغت لم يُسقط الجثمان، لكنّه تحرك رأسياً لثوانٍ وكأنّ شيرين أرادت الوقوف مع أهلها في القدس لمرة أخيرة في وجه الاحتلال".

هكذا صعدت شيرين وسط كل ذاك الاحتفاء، شهيدة يحملها شهداء. لم تتعامل مع نفسها بصفتها فدائية ولكن كمهنية، فجاءت روايتها - على عكس كثير من مساحات الالتباس والادعاء في الحياة - لتعلن أنّها كانت هنا مناضلة.

رحلت دون زيجة أو أمومة مباشِرة، ذاق قلبها الحب والحرمان وكانت في كل لحظة صاحبة قرارها، ذات كفاءة وجراءة. أما طبعها فشهد له الجميع بالمسامحة ومد يد المساعدة.

هكذا كانت، فنجت على امتداد حياتها من غلال الحسرة وانطلقت بدلاً عنها لتسعى، وشاركت على مدار ثلاثين عاماً بفك قيد الحصار عن البلدة المكبلة. "في الطريق إلى جنين"، كان هذا آخر ما كتبته على صفحتها الشخصية، فهل اسم الجنة قد اشتُق من هذا المخيم الأبيّ العظيم؟ ثم هذا التناصّ اللفظيّ بين الاسم "شيرين" و"فلسطين"! إنّها مجرد أفكار عابرة من باب المحبة والتفخيم ولكن مما لا شك فيه أنّ مثل هذه الطرق المميزة للشغف لا تخلو أبداً من علامات التماهي العَفي والصدق العفوي الذي لا ندركه إلا ونحن نتابع مشدوهين صعود الصاعدين.

في القلب تبقى مصر

تنسحبُ عني جماليات القدس لينزل مباشرة فوق رأسي سأم القاهرة، ومن كلمة شيرين إلى كلمة أيمن هدهود الأخيرة حيث استشهد على صفحته بالآية القرآنية: "فغلبوا هنالك وانقَلبوا صاغرين".

أيمن هنا يتوسل الآية ليستدعي صعوداً مغايراً لا يعرف غير الشغف بالتسلط والفساد والقمع والتصفية الجسدية وسياسات الإفقار والتبعية واللااستقلال..

صعودٌ يجعلك تتذكر صوت مذيع قناة الجزيرة فوزي بشارة وهو يقرأ تقرير تنحي مبارك عن حكم مصر عشية 11 شباط/ فبراير 2011 إذ قال: "فاليوم ننجيك ببدنك لتكون عبرة". لعلّ أكثر من نجا ببدنه من قبله كان "بن علي" في تونس الذي أسعفته الطائرة. لكنّ الخريطة شهدت من بعدهما مشاهد عصيبة فخرج "القذافي" من فتحة ماسورة صرفٍ صحي قبل أن يتم التمثيل بجثته وعرضها للمشاهدة، وانتهى اليمني محروقاً أو مذبوحاً.. وهناك من جاء صعودهم ملتبساً، موحياً، كوقفة صدام حسين أمام المشنقة التي دلاّها الأمريكيين لرقبته صباح عيد الأضحى، وهناك من جاء صعوده محبوباً لافتاً كياسر عرفات الذي شاركته "شيرين" الحصار المفروض حوله إلى حد الاكتفاء يومياً بأكل "الخيار"، ولعله ضحك معها وقال "هذا هو الخيار الاستراتيجي"، ثم وزع القبلات في كل اتجاه وهو يصعد إلى الطائرة لمرة أخيرة، تلاحقه خيبات وأمنيات.. ويبقى القوس مفتوحاً يستلهم من نماذج عبر التاريخ العربي والإنساني ويستشرف النهايات التي قد تأتي مهيبةً أو مُرةً.

تعيش مصر على حافة كارثة محتملة. وضع اقتصادي على المحك، حديثٌ مبهمٌ عن اقتراب الإفلاس وبيوتٌ تضج بما تشهده من ارتفاع غير مسبوق في أسعار كافة الأشياء بينما فرص العمل يحكمها عصف بالقوانين وانحسار في عالم الأشغال الصغرى، ركودٌ في القطاع الخاص المحلي بعد أن سيطرت شركات الجيش على الحصص الكبرى.

إنًه الصعود المختلط بمياه السلطة، تلك المياه التي تجري حيناً وتعطن كثيراً. فبمن كان يفكر "أيمن" الباحث الاقتصادي شهيد الاختفاء القسري وهو يكتب كلمته الأخيرة؟

لن يعود ليقول ولكن ستبقى العلامات الواضحة على جسده في الصورة الأخيرة، تشي بقاتله وفعلته المكررة المريرة.

ما بعد هدهود وقبل العاصفة

على كل حال، من بعد رحيله تَبدّل بعض الحال. شهدت مصر على لسان رئيس الجمهورية دعوة لـ "حوار وطني" لبّاها المرشح الرئاسي السابق "حمدين صباحي" الذي وجّه له السيسي بشكلٍ خاص التحية، وآخرون بالمعارضة المصرية لبوا دعوة حضور إفطار رمضاني بقصر الإتحادية، والهدف الرئيسي المعلن دون إعلان هو إفساح الطريق ليخرج الآلاف من وراء القضبان بعد عشرة أعوامٍ من الكربلاء الممتدة.. من جدران كئيبة تشبعت من حيوات البشر، نساءاً ورجالاً وشباباً بعضهم عرف هذا الظلام وهو لم يتخطَ بعد الستة عشر عاماً.

خارج تلك الجدران تعيش مصر على حافة كارثة محتملة. وضع اقتصادي على المحك، حديثٌ مبهمٌ عن اقتراب الإفلاس وبيوتٌ تضج بما تشهده من ارتفاع غير مسبوق في أسعار كافة الأشياء بينما فرص العمل يحكمها عصف بالقوانين وانحسار في عالم الأشغال الصغرى، ركودٌ في القطاع الخاص المحلي بعد أن سيطرت شركات الجيش على الحصص الكبرى. أما على مستوى الصحة والتعليم والبحث العلمي والضمان الاجتماعي كأولويات عظمى، فالتراجع في المخصصات المالية هو السمة المعلنة في حين تذهب المخصصات بشكلٍ رئيسي لـ "خدمة الدين العام" الذي تعاظم ليصل إلى 84 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، من أجل تنفيذ خطة السلطة لـ"مشروعات قومية" ينصبّ أغلبها على إنشاء عاصمة إدارية وأخرى ساحلية تتمتعان برفاهية كاسحة لا صلة لها بأحاديث التقشف التي تم توجيهها للشعب عدة مرات، إضافةً إلى اهتمام - تم وصفه من أطراف عدة بالمُبالغ به، وغير المبرر - بشق الطرق والكباري، ثم تنفيذ المشروع الخدمي "حياة كريمة" الذي يستهدف إنشاء عدد من محطات الصرف الصحي والمياه بالقرى المصرية. من ناحيةٍ أخرى هناك الملفات السيادية المتأجِجَة سواء فيما يتعلق بالمياه ومآلات التفاوض حول سد النهضة الأثيوبي وتأثيره على مصر، أو فيما يتعلق بالأرض والتنازل عن جزيرتي تيران وصنافير إلى السعودية وتأثير هذا على المراكز الجيواستراتيجية لقوى المنطقة حتى تصب بشكل خاص في خانة المصالح الإسرائيلية، وغيرها من ملفات التماسّ بالسياسة الخارجية، وأخيراً "مكافحة الإرهاب" باعتباره الملف الأكبر والعنوان الرئيسي للمرحلة.

أصدرت "الحركة المدنية"، التكتل الرئيسي للمعارضة داخل مصر الآن، بياناً قوياً وضعت فيه شروط قبول الحوار من منطلق ما أسمته "المسؤولية أمام الشعب، وحرصاً على مصالح الوطن" وذلك في تلميح وتصريح بأنها لم تكن يوماً ولن تكون جزءاً من تلك السلطة التي تعارضها وتقبل الآن التفاوض معها. وعقب التأكيد على ضرورة خروج المعتقلين، عينت الحركة محددات أخرى لذلك "الحوار". 

أما عن أحوال المعارضة المُصابة منذ البداية بضعف التكتيك وهشاشة التنظيم فقد لاقت انحساراً شديداً في حركتها، تمّ على عدة مراحل في السنوات العشر الأخيرة، وكانت الضربة الأكبر بإجهاض محاولتها لخلق "تحالف الأمل" كتحالفٍ انتخابي يطرح بدائل في الاستحقاقات الشعبية. لم يتحقق هذا التدبير، وبدلاً من اتخاذ المعارضة خطوات جماهيرية أوسع بقيت على حالها تحمل رؤية واضحة مغايرة للسياسات الاقتصادية والخارجية ولا تملك من أمرها الكثير... عدا محاولات بعض الأصوات لخوض الانتخابات التي انتهت بالتزوير، في حين لم يشهد الشارع نزولاً مؤثراً من بعد فضّ اعتصام جماعة الإخوان المسلمين 2013 ومظاهرات القوى السياسية ضد التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير، سوى المظاهرات التي دعا إليها مقاول مصري من الخارج اعتراضاً على ما رآه من فساد في بناء القصور الرئاسية وذلك في العام 2019.

تلك حدود الصورة عشية هذا الإفطار المُر، فما الذي اعتمل في حشاها، وما تلاها من أمر؟

محددات الصورة وحدود اللحظة

لا يوجد في مصر الآن من هو بعيد عن الصورة، كلٌ له داخل السجون قريب أو قريبة، صديق أو صديقة، ينتمي لتيار سياسي أو نقابي أو مهني أرهقه التضييق.

وقد جاءت مساحات التباين في التلقي محدودة ذلك المساء، ها هو واحد منا - على قدر اختلافاتنا - يصافح من أذاقنا الأمرّين، وكان بينهما حديثٌ ما بشكلٍ ودي. المعتقلون كلمةٌ لا تنتظر التأويل. وفي صباح اليوم التالي صدر قرار بالعفو عن "حسام مؤنس" الابن السياسي للمرشح الرئاسي. ولكن ماذا عن البقية، وماذا عما تنتظره مصر من حلولٍ نحو التغيير؟

في كلمته، أدلى رئيس الجمهورية برسائل هامة على رأسها الحديث عن ضرورة بدء حوار وطني لمناقشة عدة أمور أولها الأزمة الاقتصادية مع التأكيد على صرف 8 تريليون جنيه على الاستثمارات بالموازنات السابقة وصرف 800 مليار جنيه على مشروع حياة كريمة على سبيل المثال، وكذلك الإشارة إلى طرح شركات الجيش في البورصة، والحديث عن أنّ الاختلاف بالرأي لا يفسد للوطن قضية، وإعادة تشكيل لجنة عفو رئاسي للنظر في أوضاع الحريات وتطبيق ما أعلنه مسبقاً من استراتيجية، وطرحَ تصوراً لشكل الحوار تحت مظلة منظمة شبابية تابعة له.

حصاد وحصار

على أرض الواقع، مر قرابة الشهر، ظهرت فيه على السطح عدة مؤشرات هامة، مثل بيانات لجنة العفو الرئاسي التي أعلنت رسمياً ما يقارب خمس مرات حتى الآن عن اقتراب خروج الدفعة الأولى من السجناء السياسيين وسط تقديرات بأنّهم يتخطون الألف سجين كدفعة أولى من كل من لم يتورط بالعنف، وهو ما لم يحدث حتى الآن ولا زال رهن تلك الكلمة الفضفاضة المطمئنة: "خلال أيام".

بادرت "الحركة المدنية"، وهي التكتل الرئيسي للمعارضة داخل مصر الآن، بإصدار بيان قوي وضعت فيه شروط قبول الحوار من منطلق ما أسمته "المسؤولية أمام الشعب، وحرصاً على مصالح الوطن" وذلك في تلميح وتصريح بأنها لم تكن يوماً ولن تكون جزءاً من تلك السلطة التي تعارضها وتقبل الآن التفاوض معها. وعقب التأكيد على ضرورة خروج المعتقلين، جاءت محددات كأن يتم إجراء الحوار تحت مظلة رئاسة الجمهورية مباشرةً وليس أي كيان آخر، وأن يتم تمثيل السلطة والمعارضة بشكلٍ متساو في العدد ويشرف على فعاليات الحوار أمانة فنية من أسماءٍ مشهود لها يتم الإتفاق عليها بين الطرفين.

من قلب الطوفان، تحكي الكتب والأشعار عن نجاةٍ مرتهنةٍ بتشابك أصابع الرفاق وإن اختلفوا حول صحة الرهان، يمرون وإن اختلفوا، يصلون إلى برٍ لا يشبه بالضرورة ما توقعه أياً منهم، قد يفنى أحدهم وهو على الطريق، ويكون عزاؤه فيمن يكمل بعده، وحين يصل مَن بعده يجد فرحته الرئيسية فيما حصل عليه من ونسٍ وسند على امتداد الرحلة.

هي من جديد الثنائيات المُربِكة، ولعل من أهمها وأكثرها حضوراً تلك التي تأتي دائماً في صيغة سؤال عن التباين بين ما هو سياسي /مهني /عملي وبين ما هو إنساني، فهل يملك هذا المسؤول أن يغيِّب عقله ويتخلى عن دوره بدافع الإنسانية؟ وهل يملك أي إنسان أن يتخذ قراراً مسؤولاً ويدّعي بكامل طاقته أنّه جاء دون أن يمرره على قلبه؟ 

جاء رد السلطة سريعاً بإعلان جدول بدء جلسات الحوار الوطني التي سبق وأعلن عنها رئيس الجمهورية، تحت إشراف منظمة شبابية تتبع الرئاسة مباشرة وتسمى "أكاديمية التدريب"، وهو ما لم تعلّق عليه المعارضة صراحةً ولم يوقف ضمناً عمل قنوات التواصل والقائمين عليها ممن اعتبروا أنّ حلحلة اللحظة تبدأ بخروج عدد كبير من المعتقلين أولاً ثم يمكن الاتفاق حول مستويات الحوار، وذلك بالإضافة لا بالحذف، فتشهد مصر حواراً مجتمعياً واسعاً وآخراً سياسياً تشارك فيه قيادات المعارضة وأن يكون الفيصل بينها جميعاً هو ما يُنتهى للاتفاق عليه في الملفات الرئيسية.

وما بين الجمود وانتظار إشارة البداية لم تخلُ الساحة من مناوشات ذات دلالة. وبينما أقدم "أحمد الطنطاوي" على حوارٍ سياسي وجه فيه انتقادات لاذعة للسلطة الحالية - وهو أحد أبرز الوجوه المعارضة وابن سياسي آخر لصباحي ويترأس حزب الكرامة الذي أسسه قبل عشرين عاماً - فقد أدلى رئيس الجمهورية بتصريحات تمّ تفسيرها على أنّها موجهة إليه فقال: "ماحدش يحط رجل على رجل ويتكلم من غير علم"، وهو ما تباينت ردود الأفعال في تقدير حجم تأثيره على المشهد وكونه إشارة إلى احتمال تعرقل قنوات التواصل قبل أن تثمر عن أي حصاد، أو أنّه اعتُبر إرساءً مسبقاً لشكلِ حوارٍ مرسومة حدوده وغير مقبول الخروج عنها، بما يجعل المشاركين فيه أقرب لمن هم تحت الحصار.

فهل لا زال هناك ما يمكن أن يُقال، في حدود السعي والصعود وما بينهما من انتظار؟

استطراداً، أقدِّم فيما يلي كتابة شبه ذاتية، تبحث ـ في حدود حضوري كمواطنة عربية ـ عن معنى المسار.

على امتداد الخريطة / البصيرة

على امتداد الخريطة العربية لتلك اللحظة عنوانٌ هو "الضبابية".. "زوبعة وطوفان".. ويبدو الحل كما تقول المقدمة الغنائية للمسلسل المصري "جزيرة غمام": "وقت ما تعمى البصاير ما حيلتنا غير البصيرة".

تلك التي لا يقْدر عليها كما تقول الأغنية وكل الكتب السماوية والأرضية غير "كل صاحب قلبٍ سليم" هذا الذي حين لا تحركه أهواء خاصة أو منافع ذاتية يصبح عقله ناصع قادر أن يبحث وسط الضباب عن مساحات الرشاد والشدة بعيداً عن متاهات الميل والحدة، غير محصن من الحساب الخاطئ أو الانزلاق ولكنّه يسعى صدقاً وفي إشفاق، فتزهر يداه على المدى امتداداتٍ دون ردة.

لعل هذا هو المرادف والتفسير لتلك اللفظة العربية المتفردة الأصيلة، "بصيرة"، وتكون العلامة على طول الطريق هو الاطمئنان الداخلي دون خوف من الوقوع في الخطأ أو الندم، ودون حزن تجاه تلقي اللوم وصب الحمم. "فيبقى الربيع ربيعاً، حتى لو أخطأ ودخل ـ كما قال الشاعر المصري عبد الرحمن الأبنودي ـ في أغبى كمين".

وأيضاً من قلب الطوفان، تحكي الكتب والأشعار عن نجاةٍ مرتهنةٍ بتشابك أصابع الرفاق وإن اختلفوا حول صحة الرهان، يمرون وإن اختلفوا، يصلون إلى برٍ لا يشبه بالضرورة ما توقعه أياً منهم، قد يفنى أحدهم وهو على الطريق، ويكون عزاؤه فيمن يكمل بعده، وحين يصل مَن بعده يجد فرحته الرئيسية فيما حصل عليه من ونسٍ وسند على امتداد الرحلة.

هو سياق يرفضه ـ دون ملامة ـ الكثيرون، فكيف يستقيم السير والتقدم بهذا الجمع المأزوم؟ فإن اختلفوا فهم قادرون على أن يوقعوا ببعضهم البعض، أحدهم خطوته باليسرى والآخر باليمنى، ولن يشفع أن يكون لكل منهم قلبٌ سليم. ومن يعرف من هو صاحبه؟ وكيف يمكن وبأي لحظة التحديد؟ ومن يجزم أن أيّاً منهم لديه هذا اليقين؟

يبدو هذا المنطق صحيحاً لكنّ بعض الحكي قد يفيد ..

في حوار في العام 2008، حكت "شيرين" عن سعيها في ذلك اليوم الذي جاء مفخخاً ومرهقاً لها قبل سواها، حين استضافت صهاينة وسألتهم عن مشاعرهم وهم يغادرون غزة بعد قرار فك المستوطنات. باتت ليلتها هناك، وسطهم، وفي الصباح حاورتهم.

قالت الشهيدة: "حتى تكون صادقاً وموضوعياً، يجب تغطية كافة الأمور ومن كل الجوانب، وهذا لا يضفي عليها بالضرورة الوجه الشرعي أو القانوني. هناك وجهات نظر مختلفة في الجانب الفلسطيني أيضاً وعليّ أن أقدم تقارير متوازنة بغض النظر عما أشعر به شخصياً".

فعلتها شيرين يومها وفق ما اجتهدت، ودون ملامة لمن هاجمها الذي هو الآخر لديه تاريخٌ ووعيٌ ورشاد. ثم مرت الأيام فنكاد نجزم ونحن نرى جنازتها المهيبة أنّ هذا الرافض قد شيعها في حزنٍ وإجلال، ولعله يكون أحد من حملوا نعشها، فجمَعهما بالنهاية هو وهي الطريق ذاته.

ومن الواقع للأوراق من جديد، وما كتبه الأديب الأردني "وليد سيف" في رائعة الدراما العربية التي أخرجها السوري "حاتم علي"، وهي "التغريبة الفلسطينية"، على لسان كل من هو مُحاصَر، ولم يقبل يوماً الانغماس مع القاتل ولم يتمكن بعد من الانقضاض عليه، قال: "منذ اليوم سيكون على اللاجئ أن يعيش مثل هذه المفارقات الحادة المؤلمة موزعاً دائماً بين حاجاته المادية المباشرة وبين مطلبه الوطني العام وما كان لهذين المطلبين الشرعيين أن ينسجما في نفسه إلا نادراً، سيطالب بتحسين أوضاعه ومع ذلك سيواجه كل خُطة في هذا السبيل بالشك خشية أن يكون الثمن ذاكرته وقضيته ووطنه، سيكون عليه أن يشك في نوايا كل من يعرض عليه شيئاً مما يريد وأن ينقم على من يمنع، وسيبدو لغزاً محيراً مزعجاً لهؤلاء ممن لم يحمّلوا أنفسهم مشقة فهم الدوافع العميقة والمسوغات الواقعية لكل تلك المفارقات والمشاعر المتطاحنة".

هي من جديد تلك الثنائيات المُركبة التي تدفع صاحبها إذا أصاب نحو الإثابة، وإنْ استطاع إحكام البوصلة بين هذا وذاك أن يدرك الإجابة، تلك التي لا تأتي كاملة إلا في إحدى اللحظتين، عند نهاية الشخص المنغمس المهموم أو عند إتمام القضية، فإما استشهادٌ أو نصرٌ أو ضياعٌ لكليهما دون وصول أو وصية.

هي من جديد الثنائيات المُربِكة، ولعل من أهمها وأكثرها حضوراً تلك التي تأتي دائماً في صيغة سؤال عن التباين بين ما هو سياسي /مهني /عملي وبين ما هو إنساني، فهل يملك هذا المسؤول أن يغيِّب عقله ويتخلى عن دوره بدافع الإنسانية؟ وهل يملك أي إنسان أن يتخذ قراراً مسؤولاً ويدّعي بكامل طاقته أنّه جاء دون أن يمرره على قلبه؟

وكيف يمكن تصور أن تمر لحظات الحسم الكبرى في غياب احدهما، وأنك مجبرٌ على التغليب؟ أوليس من الأجدى أن تبحث عن مساحات التقريب تلك التي قد تقع في مكان مميز ومكانة ممتازة تصل القلب والعقل، البدايات بالنهايات، الشغف بالروح، الفعل بالقصيدة. أليست هي البصيرة؟

وهل هناك ثمة فرصة في ظل المفارقات الحادة والمشاعر الطاحنة أن يتخلّق تباين محمود يعيِن أصحابه على التعامل مع هذا الواقع المحموم الذي تعيشه مصر والسودان وتونس واليمن وسوريا وليبيا والعراق وفلسطين، وكل مكان عربي لا زال به "الساعون" أسرى أوضاعهم التي لا يملكون إلا استكمال مواجهتها من أجل صوغ واقع كريم؟

...

بشكلٍ شخصي، ووفق كل ما سبق، أعيد النظر في تلك اللحظة، والتفكير في كل ما هو قائم وكل ما أوشك أن يغيب..

أفكر في "شيرين" وصعودها، وأتأمل معنى "ما بعد اللحظة الأخيرة" في مشهد التوديع الذي لا يمكن أن يصيب إلا صاحبة قلبٍ سليم، ولعلّها هي نفسها لم تكن تعلم عن نفسها حتى هذه اللحظة الكثير.

أفكر ب"حمدين" وسعيه ومن معه، وأتأمل مآلات اللحظات قبل الأخيرة، عن مشهد المصافحة الذي يمكن أن يذهب بالواقع السياسي المصري - إذا ما تكاملت أطراف المعارضة - نحو "مخرج محتمل" يستلزم إستثماره وقتاً طويلاً وعملاً دؤوباً وثمناً عصيباً في حال أفضى إلى عقد إتفاق ما مع السلطة أو فاصل من المواجهة. أو إنه - هذا المشهد - يحمل لرأس النظام "إخراجاً محبباً" يكسب فيه أخيراً ما عَنّ عليه كثيراً: الإجهاز على الرمق الأخير من المعارضة فتفقد في عيون الناس ما تبقّى منها وهو الرفض والمقاومة ولو بأوصالٍ مهترئة، فيصبح المشهد وكأن المقهورين ممن هم في صمتٍ غاضبون لا يملكون غير الإستسلام حيث لا يرون بديلاً.

كيف يمكن تصور أن تمر لحظات الحسم الكبرى في غياب أحد طرفي تلك الثنائية، وأنك مجبرٌ على التغليب؟ أوليس من الأجدى أن تبحث عن مساحات التقريب تلك التي قد تقع في مكان مميز ومكانة ممتازة تصل القلب والعقل، البدايات بالنهايات، الشغف بالروح، الفعل بالقصيدة. أليست هي البصيرة؟

مقالات ذات صلة

ومن فلسطين ومروراً لمصر أستقر نهايةً عند قبر افتراضي لمظفر النواب فوق أرض منبته في العراق وأتلو جزءاً من أبيات قصيدته التي ذكرني بها سجين سياسي سابق وقال كانت تؤْنسني وراء القضبان. كتب "مظفر" عن "هنالك" وهو في قمة التحمس والعنفوان بينما ينخرط الفدائيون الفلسطينيون وغير الفلسطينيين في الكفاح المسلح من فوق أرض لبنان، قال:

في الليل تسلل
حمل طائرة الفجر قنابل وهلاهل
نفذ عشقك
اخرج عن أمر قياداتك
خذ في الجو طريقاً مشبوهاً تعرفه وأنا أعرفه
وجماهير الأمة في عين الحلوة تعرفه
امرق سهما منتصراً
امرق نسراً شامخاً منتحراً
اخترق الجبن الرسمي
الآن ... الآن العاصمة الاسرائيلية تحتك
من قتلوا رضع عين الحلوة تحتك
(...)
يا نسر إذا حاصرك الأعداء
يا نسر إذا لم يبق لديك قنابل
يا نسر إذا حان لقاء اللّه
خلّ جبين الطائرة الفذة نحو الأرض
تماماً نحو الأرض
خذ سرعتك القصوى
انفجر
(...). 

مقالات من مصر

للكاتب نفسه

عيش.. حرية.. إلغاء الاتفاقية!

منى سليم 2024-03-29

هل يستقيم ألا تغيِّر الحرب على غزة موازين الأرض؟ أو لا يصير الى صياغة برنامج سياسي مصري ينطلق من إلغاء هذه معاهدة كامب ديفيد، وأن يكون ذلك ركيزة للتغيير الجذري...