لم يكن النوَّاب يلقي الشعر، كان يغنّيه. تسمع في تصفيق الناس في القاعة والمسرح كيف أنّ عاطفة جارِفة أفلتت منهم، مِن كبتِ وقهرِ الأيام العادية. في كل العواصم التي حلّ بها مغنياً شِعره الحزين، الثوري، "البذيء"، كان ثمّة من يشعر أن لسان مظفر النواب نطق ما في قلبه، قائلاً ما لم يعرف أن يصيغه بنفسه. كان مدوياً وخطيراً، لدرجة أن يُلاحَق ويُسجَن ويُنفى ويُهدَّد، بالذات لأنه حرّك في الناس ذلك الشعور وتلك الفكرة التي اعتادوا دفعها إلى الخلف في نفوسهم. يحقّر الحاكم العربي علناً، يلعن إسرائيل، ينتصر للمتعبين ويرسم الفدائي نبيّاً بلغةٍ كأنها سكّين وكأنها سيلٌ من دمع معاً.
"ترنّم من لغة الأحزان
فروحي عربية
يا طير البرِّ
أخذت حمائم روحي في الليل،
إلى منبع هذا الكون،
وكان الخلق بفيض،
وكنتَ عليّ حزين
وغسلت فضاءك في روح أتعبها الطين
تعب الطين،
سيرحل هذا الطين قريباً..."
(من قصيدته "وتريات ليلية")
رحل الشاعر العراقي مظفّر النوّاب (مواليد عام 1934) يوم الجمعة في 20 أيار/ مايو 2022، في مستشفى الشارقة التعليمي في الإمارات عن عمر ناهز 88 عاماً، تاركاً إرثه الشعري الثريّ، غزلاً وسياسة وهجاءً وبيانات ثوريّة. "حبيب فلسطين"، "شاعر الشعب"، "أخطر الشعراء"، كما عُرف عنه، شيّعه بلده العراق تشييعاً رسمياً وشعبياً مهيباً. ولم يغب عن محبّيه أن يستلهموا وضوحَه عندما طردوا رجال السياسة العراقيين، رئيسي الحكومة السابق نوري المالكي والحالي مصطفى الكاظمي، طردوهم من الجنازة بهتاف: "مظفّر للشعب مو للحرامية!"
فيديو لهتافات العراقيين، طاردين الكاظمي والمالكي من تشييع الشاعر الراحل مظفر النواب
لعلّ ما يستأهل الذِّكر في نعي النوّاب أنّ الشاعر كان بقدر تعبيره عن إحباط الشعوب العربية وإحباطه الشخصي وحزنه، بقدر ما كان يتمسّك بالأمل. كلماته تنفع بلسماً لأيامنا هذه فيما البلاد بطولها وعرضها في سواد حالِك:
"وتحاول الأيّام ممّا جرَّعتني اليأسَ
ثمّ هضمْتُهُ أمَلاً
أن تضاعفَ جرعتي
فَأضاعفُ الصّبرَ الجميلْ
إِنّي أرى يومَ انتصار النّاسِ
رغم صعوبة الرّؤيا
وأسمع من هتافي في الشّوارع
سيّما في ساحة التّحرير
نخبك يا عراقُ
وليس ذُو أملٍ كَلِيل.."