العراق جنة ال"يوتيوبرز" وجحيم العراقيين

صرّح عراقيون تهكماً برغبتهم بالعيش في العراق الذي يزوره اليوتيوبرز، فهو مثالي ولا يشبه العراق الذي يعيشون فيه، فلا أحد يشكو في عراق اليوتيوبرز من انقطاع الكهرباء المتواصل ولا من انهيار البنى التحتية ولا من انعدام الأمان في الكثير من مناطقه ولا من سقوط الكثير من مناطقه تحت سطوة السلاح الميليشياوي أو العشائري
2022-05-25

مبين الخشاني

كاتب من العراق


شارك
برج بابل

بين حينٍ وآخر يطل علينا "يوتيوبر" عربي أو أجنبي ليقدم فيديو عن رحلته الأسطورية الى العراق، محاولاً بذلك أن يعكس صورة رائعة عن البلد الذي ساءت سمعته وصار يتذكره الناس فقط حين يتحدثون عن الحروب والمآسي. يجتهد كل يوتيوبر في أن يقدم العراق كدولة مستقرة وشعبها سعيد ومحب للحياة، يصنع الأفراح من أبسط التفاصيل. هذه الظاهرة تجعلنا نحن العراقيون نسأل أنفسنا إن كان علينا أن نفرح بهذه الصورة التي يقدمها اليوتيوبرز عن بلدنا الذي يأكلنا من الداخل؟

رحلة مجانية

من شأن نجوم اليوتيوب أن يكسروا الصور النمطية عن الكثير من البلدان من خلال ما يقدمونه من محتوىً ترحالي، ما يمكنه أيضاً أن يساهم في ازدهار السياحة في هذه البلدان، فهل يحصل هذا الأمر مع العراق؟ الإجابة لا، وذلك لأننا عند مراجعة فيديوهات ("فلوكات") اليوتيوبرز عن العراق سوف نكتشف أنّ العراق يشكل للجميع وجهة رخيصة لا تكلف الكثير من الإنفاق ولا تخلو من المغامرة والإمتاع. 

أغلب أفلام اليوتيوبر تُصور خلال الشتاء وفي أوقات مناسبة لألوان الكاميرا. فالمدرسة المستنصرية التي تُذهل اليوتيوبرز ليست هي نفسها التي تقيم فيها الحركات الدينية شعائرها واحتفالاتها دون تنظيف المكان بعد الانتهاء، ونصب الشهيد الذي يصوره "الدرون" في أوقات الغروب والفجر ليس هو النصب الذي لا يستطيع زائره احتمال درجات الحرارة اللاهبة في أيام الصيف لانعدام المناطق المشجّرة حوله.

لا يتطلب الأمر من اليوتيوبر القادم من أي بلدٍ سوى سعر تذكرة الطيران وبعدها سوف تنفتح له مغارة علي بابا، تتيح له زيارة العراق والتجول في أغلب محافظاته والتمتع بآثارها التي تعود إلى أكثر من خمسة آلاف سنة دون أن يدفع أي ثمن يُذكر مقابل ذلك. 

يدخل اليوتيوبر إلى الناصرية ويمرح فوق زقورة "أور" ملتقطاً "سيلفيات" ومصوراً أفلاماً قصيرة دون أن يساهم هذا الأمر بأي مردود مالي من شأنه أن يساعد على تطوير قطاع السياحة أو أن يمهد طريقاً مسفلتاً نحو الزقورة. ونسبةً لكرم العراقيين وحفاوتهم بالضيف صار العراق يمثل ثيمة تحدٍ تضمن لجميع اليوتيوبرز ملايين المشاهدات، ومضمون هذا التحدي هو التجوال في العراق من دون صرف أي مبلغ نقدي، كما فعل اليوتيوبر المصري سيف طه (1)، حيث تجول يوماً كاملاً في بغداد آكلا شارباً مستمتعاً دون أي مقابل، بل حتى أنّه لم يمكث في أي فندق وبات ليلته في أحد البيوت العراقية المضيافة.. يرى المتفائلون أن هذه الظاهرة من شأنها بطريقة أو بأخرى أن تُنعش السياحة في العراق وأن ترفع المستوى الاقتصادي للشعب من خلال ما توفره من فرص عمل. ولكن هذا الطرح المتفائل يصطدم بمرارة الواقع، لأنه طوال ثمانية عشر عاماً بعد سقوط نظام صدام حسين وازدهار السياحة الدينية إلى المراقد المقدسة في النجف وكربلاء والكاظمية، خلال الزيارات الأربعينية والشعبانية وغيرها من المناسبات، لم يحدث تحسّن في وضع العراق الاقتصادي ولم تسعَ الحكومات المتعاقبة إلى استغلال الظاهرة، ولا يزال اقتصاد العراق ريعياً معتمداً بشكل كامل على النفط الذي يصدّره مقابل استيراد أبسط السلع.

لا يضطر الكثير من السياح الدينيين خلال الزيارات الكبرى كالأربعينية والشعبانية لدفع أي فلس، خصوصاً الإيرانيين منهم الذين تُلغى لهم حتى رسوم تأشيرة المرور البسيطة، وحين يدخلون العراق لا يضطرون لاستئجار أي سيارة نقل لأن الكثير من العراقيين يتباركون بنقلهم وضيافتهم مجاناً طلباً للأجر والثواب، بل ويرفعون شعارات التشرف بخدمة زوار الحسين وبقية الائمة، حتى صارت زيارة الأربعين تمثل كرنفال أطعمة مجاني للكثير من الإيرانيين.

من شأن نجوم اليوتيوب أن يكسروا الصور النمطية عن الكثير من البلدان من خلال ما يقدمونه من محتوىً ترحالي، ما يمكنه أيضاً أن يساهم في ازدهار السياحة في هذه البلدان، فهل يحصل هذا الأمر مع العراق؟ الإجابة لا!

وعلى الرغم من ذلك فقد صُنف العراق في العام 2015 ضمن أفضل الدول في الأداء السياحي وكذلك ضمن أفضل 10 دول تتركز فيها عائدات السياحة الدولية لدول منظمة التعاون الإسلامي بواقع 9.121 مليار دولار لهذه الدول مجتمعة، وبنسبة 87.5 في المئة من إجمالي العائدات السياحية للمنظمة وفق تقديرات العام نفسه، وبلغ عدد الزوار الدينيين للعراق خلال العام 2016 فقط أكثر من مليون زائر، وتؤكد تقديرات المجلس العالمي للسياحة والسفر أنّ قطاع السياحة الدينية في العراق يشكل نسبة 3 في المئة من إجمالي الناتج المحلي وبعائدات ممكنة ومتاحة تُقدر بـ5 مليار دولار. وتعتمد على هذا القطاع طبقة عاملة تقدر بما يقرب من 544 ألف شخص(2). وتتوسع رقعة المراقد الدينية بين حين وآخر على حساب الكثير من الفنادق والبيوت والأراضي المحيطة، مقابل تعويض لا يراه العديد من أصحاب هذه الأراضي والأملاك مناسباً، إضافة إلى سيطرة شركات إيرانية (3) على السياحة في المحافظات المقدسة وهي تفرض تعاملات خاصة مع الزوار الإيرانيين. ومن جانب آخر فإنه خلال السنوات الماضية ظهرت الكثير من المقاطع والقصص الصحافية لصحافيين ويوتيوبرز عن زيارتهم لأهوار العراق وانتشرت هذه المقاطع بشكل كبير على مواقع التواصل الاجتماعي، حتى أن "ابو حيدر"(4)، أحد سكان الأهوار، بُح صوته وهو يغني للسائحات الشقراوات القادمات من الدول الأوروبية. لكن الأهوار ما زالت مهددة بالجفاف بسبب السياسة المائية الجائرة من دول الجوار وفشل الحكومات العراقية المتعاقبة في التعامل مع هذا الملف الخطير. 

ما يفعله هذا المحتوى المرئي الغزير هو تلميع صورة الحكام في العراق وإيهام الناس بإنجازات غير موجودة على الأرض سواء على مستوى الأمن أو الخدمات، بل تسعى أجهزة الحكومة الإعلامية إلى استثمار هذه الظاهرة كما حصل فعلاً مع اليوتيوبر المصرية إيمان صبحي (5) حيث استقبلها الناطق الإعلامي باسم وزارة الداخلية وتجول معها في شوارع بغداد.

عراقٌ آخرٌ على اليوتيوب

صرّح عراقيون تهكماً برغبتهم بالعيش في العراق الذي يزوره اليوتيوبرز، فهو مثالي ولا يشبه العراق الذي يعيشون فيه، فلا يشكو أحد في عراق اليوتيوبرز من انقطاع الكهرباء المتواصل ولا من انهيار البنى التحتية ولا من انعدام الأمان في الكثير من مناطقه ولا سقوط الكثير من مناطقه تحت سطوة السلاح الميليشياوي أو العشائري. 

لا يضطر الكثير من السياح الدينيين خلال الزيارات الكبرى كالأربعينية والشعبانية لدفع أي فلس، خصوصاً الإيرانيين منهم الذين تُلغى لهم حتى رسوم تأشيرة المرور البسيطة، وحين يدخلون العراق لا يضطرون لاستئجار أي سيارة نقل لأن الكثير من العراقيين يتباركون بنقلهم وضيافتهم مجاناً طلباً للأجر والثواب، بل ويرفعون شعارات التشرف بخدمة زوار الحسين وبقية الائمة.

بُحّ صوت "ابو حيدر"، أحد سكان الأهوار، وهو يغني للسائحات الشقراوات القادمات من الدول الأوروبية. لكن الأهوار ما زالت مهددة بالجفاف بسبب السياسة المائية الجائرة من دول الجوار وفشل الحكومات المتعاقبة في التعامل مع هذا الملف الخطير. ما يفعله هذا المحتوى المرئي الغزير هو تلميع صورة الحكام وإيهام الناس بإنجازات غير موجودة سواء على مستوى الأمن أو الخدمات. 

العراق في أفلام اليوتيوبرز لا يشكو من مشاكل المجاري والصرف الصحي ولا من ارتفاع درجات الحرارة مقابل اضمحلال المناطق الخضراء وقلة التشجير، ويظهر العراق في أفلام اليوتيوبرز على أنه بلد لا يجوع فيه أحد حيث يمكنك أن تأكل وتشرب وتستمتع "ببلاش" بينما العراق الذي نعيش فيه يعاني مواطِنه من ارتفاع الأسعار الصارخ مع انخفاض قيمة الدينار حتى تعاني بعض العوائل من شدة الفقر الذي ترتفع نسبته يوماً عن يوم. صورة العراق في اليوتيوب تتوافق مع صورة بغداد المدينة الساحرة الغافية على ذراع دجلة، لكنّها لا تتفق مع ما يراه ويعيشه المواطن البغدادي يومياً من ازدحامات سير وانهيار في البنى التحتية إضافة إلى ارتفاع نسبة التلوث وازدياد عدد المناطق العشوائية والتجاوزات. وتصنع هذه الصورة من كون أغلب أفلام اليوتيوبر تُصور خلال الشتاء وفي أوقات مناسبة لألوان الكاميرا. فالمدرسة المستنصرية التي تُذهل اليوتيوبرز ليست هي نفسها التي تخترقها الاحزاب الدينية لتقيم فيها شعائرها واحتفالاتها من طبخ وما شاكله دون تنظيف المكان بعد الانتهاء، ونصب الشهيد الذي يصوره "الدرون" في أوقات الغروب والفجر ليس هو نصب الشهيد الذي لا يستطيع زائره احتمال درجات الحرارة اللاهبة في أي يوم من أيام الصيف لانعدام المناطق المشجّرة حوله. لا تظهر في أفلام اليوتيوبرز صور سليماني وهي تملأ الشوارع بطريقة فجّة وخانقة بل حتى إنّ بعض صوره المثبتة على أعمدة وعارضات تتجاوز على الشوارع وتعيق السير فيها. لا تظهر في مقاطع اليوتيوبر الميليشيات وهي تحرق مقرات الاحزاب المنافسة أو مقرات القنوات التلفزيونية التي لا تتفق مع خطابها، ولا يظهر الحصار الذي ضربته هذه المليشيات على مقر رئيس الوزراء العراقي... فكيف يمكن تجاهل كل هذه الصور وتصديق الصورة الرائقة والمثالية التي ينقلها جو حطاب (6) في فيلمه عن العراق؟ والمفارقة أنّ فيلم حطاب الذي حصد ملايين المشاهدات تزامن عرضه مع حملات حرق مساجد الصرخيين وحرقها.

أغلب "فلوكات" اليوتيوبرز تركز على شارع المتنبي في بغداد وعلى المطاعم، أما شارع المتنبي فلأنه المكان الوحيد الذي فيه إضاءة مناسبة للتصوير في الليل وترتاده العوائل العراقية لعدم وجود خيار ثاني، وأما المطاعم فلأنّ الاكل العراقي هو الشيء الوحيد الذي تطور خلال العشر سنوات الاخيرة، ويعتبر كذلك رخيصا مقارناً بكمياته وبالمطاعم في كل بلدان العالم.

في النهاية فإن العراق الذي فتح أبوابه لليوتيوبرز يضيق على أبناء شعبه ويطرد شبابه إلى المجهول. يشقى الشاب العراقي خلال سنوات دراسته دون أن يعرف وجهته المقبلة بعد التخرج، لأنّ نعمة التعيين الحكومي لا تتوفر إلا لمن يمتلكون واسطة أو ينتمون للأحزاب، والقطاع الخاص معدوم، فيضيع الشاب في محاولته لكسب لقمة عيشه... في واقع عراق آخر. 

______________________

(1) ٢٤ ساعة في بغداد من غير فلوس | العراق - YouTube
(2) السياحة الدينية في العراق، دراسة وصفية، محسن حسن
https://www.bayancenter.org/wp-content/uploads/2018/09/87879009387.pdf
(3) استحواذ إيراني على السياحة الدينية في العراق | أخبار اقتصاد | الجزيرة نت (aljazeera.net)
(4) ابو حيدر يغني مع السائحة الفرنسيه اهوار الجبايش - YouTube
(5) ماذا لو رمضان في العراق؟ - YouTube
(6)وصلت بلاد الرافدين - بغداد - العراق 🇮🇶 Baghdad - YouTube 

مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

تحت ظلال الكارثة

قال شاعرٌ ما مرةً: "الخوف متراس". وافترضَ آخر أننا يجب أن نشعر بالامتنان الدائم لأسلافنا الخائفين، لأن خوفهم كان هو سبيل نجاتهم، فقد حفظ حياتهم وجنبهم الكوارث والحروب، وبعدها تكاثروا...