وقفتُ فيما يُفترض أن يكون بداية الشارع الذي كبرتُ فيه في بغداد. كنتُ أعرف أنّ بيتي الذي عشت فيه طفولتي ومراهقتي كان على بعد خطوات قليلة. لكنني لم أرَ أشجار التوت الضخمة التي كانت تظلل الطريق ولم أرَ النخل أو أشجار النارنج التي كانت تطل من حدائق البيوت. الأرض هي الأرض لكنّ كل شيء لم يعد موجوداً. سألتُ امرأة خمسينية ترش بخرطوم ماء عتبة باب منزلٍ يحيطه سياج مرتفع يخفيه "هل تعرفين أين بيت فلان؟" عددت أسماءنا جميعاً، سألتها عن أسماء من كانوا جيراناً لنا فلم تعرف أحداً منهم. "سألتها متى سكنتم هنا؟" أجابت "منذ 6 سنوات!" ابتسمتُ ولم أقل لها إنّ جذوري ممتدة في هذا الشارع منذ أكثر من 35 عاماً. يبدو أنّها شعرت بحزني فدعتني، كعادة العراقيين الأزلية، لشرب الشاي في بيتها، فشكرتها واعتذرت منها وأكملت طريقي أحاول فك رموز المكان الذي لم يعد هو المكان.
بحثتُ ولم أجد البيت ولا حديقته ولا نخلاته الباسقات، فقد هدمه من اشتراه وبنى مكانه بيتاً عالياً يخفيه سياج أعلى وباب حديدي مغلق ولا نخل فيه ولا حديقة. وقفتُ أمام مكان البيت الذي كان ونظرتُ إلى يساري فلم أجد بيت صديقتي ولا البيوت المجاورة له. تحوّل شارع بيتها الذي كان متقاطعاً مع شارعنا إلى فسحة خالية محاطة بسياج حديدي، فقد قصفتْ الطائرات الأمريكية جزءاً من هذا الشارع أثناء الحرب ولم يبق منه شيء.
أعرفُ قصصاً عما حدث في حيِّنا على مر السنين كما حدث في أحياء ومدن العراق منذ مجيء الاحتلال الأمريكي. عن الجثث التي كانت تُرمى أمام المنازل وفي الطريق، عن الدبابات الأمريكية التي كانت تدوس على الأرصفة والسيارات ومن فيها، عن فلان الذي قتله الأمريكان وفلان الذي قتلته الحرب الطائفية، عن صديقتي التي اختفت بعد أن قُتل أخوها الصغير ووجدت أشلاؤه في كيسٍ رماه القتلة أمام باب بيته. تذكرته يلعب بيننا وتذكرتُ تعلقه الشديد بأخته الكبيرة وتعلقها به، حتى كَبُرَ وأصبح ضحيةً من ضحايا الفوضى التي جاء بها الاحتلال.
قال بوش: "هذا القرار اتخذه شخص واحد ليشنّ حرباً غير عادلة ووحشية على العراق… أأأأ أعني.. أوكرانيا"، فضحك الحاضرون. مقتل 929 ألف عراقي وعراقية في تلك الحرب الأمريكية وكل الخراب الذي وقع حينها والذي ما زال يصاحب العراق، صار... نكتة!
... ما حدث للملايين منّا، لبلادنا الغارقة بدم أبنائها وبالتراب بعد أن جُرفت بساتينها واقتُلعت أشجارها، لدجلة والفرات اللذين تشكلا منذ بداية التاريخ وهما في طريقهما للجفاف الآن بعد أن صار العراق بلا دولة ولا سيادة تحميه من أطماع دول الجوار، فقطعت عنه المياه وتركته للعطش والتصحّر.
"ما لا يقل عن 929 ألف إنسان قُتلوا في هذه الحرب. عدد الجرحى والمفقودين والمتضررين نفسياً والمهجّرين يقدر بالملايين" هذا كان وصف شبكة الأخبار الأمريكية "الديمقراطية الآن" Democracy Now لما حدث في العراق. وجدتُ نفسي وعائلتي وأحبتي وجيراني وكل من كبُرت معهم بين تلك الآلاف والملايين. شريط كامل من التراجيديا العراقية التي ما زالت مستمرة إلى اليوم كنتيجة مباشرة للاحتلال الأمريكي على العراق مرت أمام عيني. خسائر في الأرواح والتاريخ والأرض، حياة الملايين من البشر تشكلت وأجيالٌ كبرت لا تعرف سوى تبعات تلك الحرب التي جرّت خلفها حروباً لم تنتهِ بعد.
تسويق الوهم.. تواطؤ الصحافة في الحروب
26-03-2022
كان الوصف مرفقاً مع فيديو يُظهر الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، وهو يلقي خطاباً عن الحرب في أوكرانيا، في المكتبة الرئاسية في دالاس يوم الأربعاء الماضي "هذا القرار اتخذه شخص واحد ليشنّ حرباً غير عادلة ووحشية على العراق… أأأأ أعني.. أوكرانيا"، قال مجرم الحرب بوش متلعثماً، فضحك الحاضرون. وتمتم بوش ممازحاً إنه الآن في الخامسة والسبعين من عمره. غلطة عجوز أراد أن يقول شيئاً فأفشى سراً لم يكن سراً لأحد.
أضحك بوش الابن من حضروا ليستمعوا لخطاب الرئيس السابق "للعالم الحر"، الذي أصبح فناناً يرسم الزهور بعد تقاعده وينعت دونالد ترامب بالمتهور. ما حدث للملايين منّا، لبلادنا الغارقة بدم أبنائها وبالتراب بعد أن جُرفت بساتينها واقتُلعت أشجارها، لدجلة والفرات اللذين تشكلا منذ بداية التاريخ وهما في طريقهما للجفاف الآن بعد أن صار العراق بلا دولة ولا سيادة تحميه من أطماع دول الجوار، فقطعت عنه المياه وتركته للعطش والتصحّر. ما حدث للملايين مثلي الذين اقتلعوا من جذورهم وتُركوا تحت رحمة ضباط الحدود والمطارات، وجواز سفر ملعون، ودوائر الاستجواب والشك، وسنين العمر التي مضت في البحث عن وطن بديل. ما حدث لأخ صديقتي وغيره من الـ 929 ألف عراقي وعوائلهم، لم يكن سوى نكتة يتندر بها الرئيس الأمريكي السابق العجوز فيضحك الحاضرون.
على طول الطريق بين بغداد والبصرة تتراءى جذوع النخيل مقطوعة الرأس. يتكرر ذات المشهد على امتداد شط العرب، الذي عرف سابقاً بامتداد بساتين النخيل على حافته. الآن لا نرى سوى جذوع نخيل بلا رأس على ضفته وبقايا سفن صدئة في مياهه. بعد 19 عاماً من حدوث الاحتلال، ما زالت آثار الحرب شاهدة في كل زاوية من زوايا العراق، أنقاضٌ لا تُرفع وديمقراطيةٌ لا تطبق، ملايينٌ من البشر يعيشون محاطين بالفوضى والمليشيات المسلحة والكوارث البيئية. الرئيس السابق للولايات المتحدة الأمريكية لم يخطئ عندما وقف متلعثماً في خطابه وذكر اسم العراق بدل أوكرانيا، هو كان فقط يعدد إنجازاته كمجرم حربٍ من الطراز الأول.