عندما تركنا مدينة مرسى مطروح وراءنا وتوغلنا جنوباً في الصحراء قاصدين واحة سيوة، كان المشهد غريباً. ذلك الطريق الثعباني الأسود الممتد أمامنا حتى مرمى البصر تحده لمسافة أكثر من 300 كيلومتر صحراء تكاد تكون بلا معالم. كان مختلفاً تماماً عن تلك الطرق الزراعية المؤنسة التي اعتدت المرور عليها في أسفاري الكثيرة. تصادفك بضع أشجار متناثرة نبتت فى ذلك التيه أو قطيع من الأبقار تلوك نباتات شحيحة.. ثم طريق ممتد كأنّه بلا نهاية.
تقع سيوة في الصحراء الغربية وتتبع محافظة مطروح إدارياً، وتبعد 300 كيلومتر عن ساحل البحر المتوسط، و900 كيلومتر عن القاهرة. مضت عشر ساعات منذ بدأت رحلة الحافلة من مدينتي "دمنهور" حتى لاحت أخيراً مشارف الواحة. هذا الطريق الممهّد لم يكن هنا قبل عام 1980 وكانت الرحلة إلى سيوة بالغة الصعوبة من خلال مدقات (طرقات ترابية غير مبلّطة) في بطن الصحراء في المسار نفسه الذي سلكناه أو بالقرب منه أو من خلال الدروب الصحراوية التي لا يعرفها إلا أدلّاء متمرسون.
واحة سيوة
27-04-2017
بدا خيار هذه الرحلة غريباً لأنّ سيوة موغلة في البعد عن الوادي، وتقع متفردة ووحيدة ولا تبعد عن الحدود المصرية مع ليبيا أكثر من 60 كيلومتراً. والمعلومات الشائعة عنها شحيحة، لم تسعفنا بما يمكنه أن يشبع نهمنا إلى معرفة التاريخ القريب أو البعيد لتلك الواحة. وأضيف إلى كل ذلك، الجهل الكامل بالتركيبة الاجتماعية لسكانها ونشاطهم الاقتصادي والثقافي والإنساني معاً، والذي بدا مختلفاً عن المألوف.
معبد آمون
بدأ برنامج الزيارة بالذهاب إلى أبعد نقطة في تاريخ سيوة، حيث تنسج الأساطير شرانقها. وهكذا وجدنا أنفسنا نزور معبد "آمون" الذي عرف قديماً ب"معبد التنبؤات"، وقد بُني في عصر الأسرة الـ 26. وتشير النقوش في منطقة "قدس الأقداس" داخل المعبد أنه بني في عصر الملك "أحمس الثاني" أحد أهم ملوك هذه الأسرة. اكتسب المعبد أهميته في التاريخ القديم لأنّ الناس كانت تقصده لاستشارة المعبود "آمون" عن طريق كهنته بما يخص أمور المستقبل الغامض.
يتركز في واحة سيوة أغلب أمازيغ مصر ويبلغ عددهم هنا نحو 35 ألف نسمة ما زالوا يحتفظون بعاداتهم وتقاليدهم ولغتهم وطقوسهم وتواصلهم مع فروعهم في كل دول افريقيا.
وعبر هذا الطريق الطويل جاء الاسكندر المقدوني في العام 331 ق.م. متودداً إلى المصريين بإظهار الإحترام والتقدير لآلهتهم. وفي تلك الرحلة تم تنصيبه ابناً للإله آمون قبل أن يصبح حاكماً على مصر. ولكنّه جاء أيضاً يدفعه القلق والفضول بأن يعرف مصير حملاته العسكرية التي كان يريد من خلالها أن يسيطر على كل الجزء المعمور من العالم في ذلك الحين، ليخبره الكهنة أنّه سوف ينجح، ولكنّ نجاحه لن يدوم طويلاً..
يقع معبد آمون فوق هضبة الأرجومي التي ترتفع لأكثر من 30 متراً عن سطح الأرض مشرفة من نقطة عالية على الواحة بكاملها. يشهد ذلك المعبد أيضاً ظاهرة فلكية جسدت براعة الفراعنة في علمي الفلك والهندسة، حيث تتعامد الشمس على المعبد مرتين في كل عام أثناء الاعتدال الربيعي والاعتدال الخريفي. ويتساوى الليل والنهار بعد 90 يوماً من أقصر نهار في العام. ثم يقع بعده ب 90 يوماً آخر أطول نهار في العام.
انقضى اليوم الأول بين زيارة المعبد والغطس في بحيرة كليوباترا الكبريتية العلاجية (إحدى أشهر معالم الواحة) ثم تأمل غروب الشمس فوق بحيرة "فطناس" الملحيّة وهي واحدة من أجمل المشاهد التي يمكن أن تراها العين .
البحيرات وغابات النخيل
وفي اليوم التالي وفيما تسابق الجميع على الذهاب إلى جولة السفاري بسيارات الدفع الرباعي التي كانت مستعدة منذ الصباح الباكر، قررتُ أن أقضي اليوم في جولة حرة داخل الواحة. انبسطت أمامي صورة جوية دقيقة (بفضل غوغل إيرث) لتلك البحيرات العملاقة ومساحات النخيل بخضرتها الداكنة والبيوت بالغة البساطة. ولكن بقي الأهم: تأمل البشر عن كثب والحديث معهم ومعرفة المشترك الذي يجمعنا كمصريين مهما تناءت الديار وتباعدت الثقافات.
عبر هذا الطريق الطويل جاء الاسكندرالمقدوني في العام 331 ق.م متودداً إلى المصريين بإظهار الإحترام والتقدير لآلهتهم. وفي تلك الرحلة تم تنصيبه ابناً للإله آمون قبل أن يصبح حاكماً على مصر. ولكنّه جاء أيضاً ليعرف مصير حملاته العسكرية التي كان يريد من خلالها السيطرة على العالم، ليخبره الكهنة أنّه سوف ينجح، ولكنّ نجاحه لن يدوم طويلاً
كانت أمامي أيام قليلة يمكن أن استغلها بصحبة أحمد، الدليل السيويّ الذي رافقنا في كل جولاتنا، وهو واحد من مجموعة أدلاء سياحيين يبلغون الثمانين في الواحة يعلمون كل ما ينبغي علمه عن تاريخ الواحة وحاضرها، وعن تلك العادات والقيم التي جاءت من صميم الهوية السيوية بما في ذلك تلك التي تعرضت للتهميش والإهمال. كان أكثر ما لفتني هو اللغة الأمازيغية والتي كانت سائدة في الحديث بين الأهالي. بدا وقعها على أذني غريباً للغاية، فهي تتخلق من مفردات تأتي بعيدة بالكامل عن العربية وأي لغة أخرى سمعتها من قبل. وعرفتُ أنّ تلك اللغة وبمرور الوقت ونتيجة المعايشة اليومية بين أمازيغ سيوة والعرب الذين استوطنوها مبكراً قد تأثرت كثيراً باللهجة المصرية فأصبحت مختلفة في الكثير من مفرداتها وطريقة نطقها عن لغة الامازيغ في أماكن أخرى من شمال أفريقيا. ويبدو أنّ جيل الشباب يُعرض عن دراستها، فضلاً عن أنّ المحاولات التي تتم من أجل توثيق الدراسات النحوية الخاصة بها لا تحظى بالاهتمام الكافي. وحتى وقت قريب لم يكن سكان سيوة يعتمدون حروفاً هجائيةً للغة السيوية وكانوا يتعلمونها شفاهية، وقد تبنّوا الحرف المكتوب بعد زياراتٍ لأمازيغ الجزائر والمغرب إلى الواحة.
هنا يتركز أغلب أمازيغ مصر ويبلغ عددهم في الواحة نحو 35 ألف نسمة ما زالوا يحتفظون بعاداتهم وتقاليدهم ولغتهم وطقوسهم وتواصلهم مع فروعهم في كل دول افريقيا.
الصلح بين القبائل
تشبه التركيبة الاجتماعية لأمازيغ سيوة التكوين العنقودي إلى حد كبير، فهي تتوزع على شكل قبائل (الزناين، اللحمودات، الحدادين، أولاد موسى، أغورمي، الجواسيس، الشرامطة، السراحنة، المراقي، الشحايم، أم الصغير، الشهيبات) ولكل قبيلة شيوخ وعوائل وأفراد. وشيخ القبيلة مسؤول عن كل ما يخص قبيلته أمام القبائل الأخرى. ويحرص السيويون بشدة على عناصر الترابط التي تدعم المجتمع السيوي ولا تفرقه، وربما نتج هذا الحرص الشديد عن الماضي المؤلم الذي تناحرت فيه تلك القبائل لعقود طويلة وسادت بينها خصومات ممتدة ودموية حتى أرسل الملك "المهدي السنوسي" الشيخ "أحمد الظافر" إلى سيوة فجمع هذه القبائل بعد تفرقها، وعقد بينها صلحاً لم ينفصم حتى الآن. ولا زالت واحة سيوة تحتفل بهذا الصلح في شهر تشرين الأول/ أكتوبر من كل عام وفي الليالي القمرية على وجه التحديد فيما يعرف بعيد الحصاد لأنه يأتي متزامناً مع موسم حصاد محصولي التمر والزيتون في الواحة.. وفي الاحتفال تجتمع القبائل في سفح جبل "الدكرور"، أحد أهم الجبال في الواحة وأكبرها لمده ثلاثة أيام، يصنعون طعامهم فيها ويأكلون سوياً ويتداولون في كل ما يخص شؤونهم ويعقدون المصالحات.
ماذا يهدد أمازيغ مصر في سيوة؟
20-08-2014
التقاليد تحكم الواحة. ثمة نظام صارم منضبط خشية انفراط العقد والعودة إلى زمن التناحر من جديد. قانون عرفي غير مكتوب يخضع له الجميع طواعية. وهناك مجالس عرفية يلجأ لها الجميع حيث تقوم كل قبيلة بانتخاب شيخ لتلك المجالس للنظر في كل الخصومات والمشاحنات التي تجري بينهم كمجتمع بشري من المحتم أن تجرى فيه منازعات. ولا ينفرد أحد بالبت في تلك المنازعات إلا بعد الرجوع لمجلس استشاري يتكون من عشرة أفراد يساعدون في الوصول إلى القرار الصحيح. لذا فمن المستهجن للغاية في عرف الواحة أن يبادر أحد المتخاصمين لإبلاغ الشرطة عن واقعة جرت قبل المرور على تلك المجالس العرفية. فالشرطة لا تتدخل في شؤون المنازعات بين القبائل إلا في جرائم القتل أو المخدرات فقط، أما ما دون ذلك فليس هناك إلا التراضي والتوافق من خلال تلك المجالس.
الكل يعمل
يقترب عدد سكان الواحة من 60 ألفاً فيما لا تعرف سيوة البطالة، حيث تتوزع كل الأيدي التي تستطيع العمل على الأنشطة المحلية المتاحة.. يقول أحمد السيوي "لا يوجد متبطل واحد في الواحة إلا أولئك الذين لا يريدون العمل، وتأتي على رأس الأنشطة الاقتصادية الزراعة التي تتركز بالدرجة الأولى على زراعة النخيل الذي تعتمد عليه أغلب العائلات كمصدر للرزق حيث تضم الواحة أكثر من مليون نخلة تنتج نحو 100 ألف طن من أجود أنواع التمور في مصر. ثم تأتي بعد ذلك زراعة الزيتون والأعشاب الغذائية والطبية والرمان والنعناع والتين والجوافة، ثم الصناعات القائمة على تلك الزراعات مثل تجهيز وتجفيف وتعبئة التمور وعصر زيت الزيتون وتخليل الثمار، وتعبئة الأعشاب الطبية والتي يتم تصدير بعضها للخارج.
"يناير" الأمازيغ: طقوس وأساطير
21-01-2015
ولما كانت سيوة غنية بآبار المياه العذبة فهي تضم صناعة ضخمة لاستخراج المياة المعدنية من آبارها العميقة والنقية للغاية لبعدها عن كافة مصادر التلوث. وأغلب المياه المعدنية التي تعرف طريقها إلى البيوت المصرية قد تمّ استخراجها من تلك الآبار.
تحتفل واحة سيوة بالصلح بين قبائلها في شهر تشرين الأول/ أكتوبر من كل عام، وفي الليالي القمرية على وجه التحديد، فيما يعرف ب"عيد الحصاد" المتزامن مع موسم حصاد محصولي التمر والزيتون في الواحة.. تجتمع القبائل في سفح جبل "الدكرور"، أحد أهم الجبال في الواحة وأكبرها لمدة ثلاثة أيام، يصنعون طعامهم فيها ويأكلون سوياً ويتداولون في شؤونهم ويعقدون المصالحات.
يقترب عدد سكان الواحة من 60 ألفاً فيما لا تعرف سيوة البطالة، حيث تتوزع كل الأيدي التي تستطيع العمل على الأنشطة المحلية المتاحة. وتأتي على رأس الأنشطة الاقتصادية الزراعة وبالدرجة الأولى منها زراعة النخيل الذي تعتمد عليه أغلب العائلات كمصدر للرزق حيث تضم الواحة أكثر من مليون نخلة تنتج نحو 100 ألف طن من أجود أنواع التمور في مصر.
كما تتوافر في الواحة عشرات من مناجم الملح الصخري والتي يعمل بها عدد كبير من السكان يقومون باستخراج عشرات الأطنان لتصديره إلى أوروبا كمذيب لجليد الطرقات... علاوة على استخدام ذلك الملح في عمل منحوتات فنية غاية في الإبداع توجد في كل مكان وطأته قدمي داخل واحة سيوة. ويستخدم ذلك الملح أيضاً في صناعة أحجار "الكرشيف" بخلطة من الرمال والطين وهي الأحجار التي تستخدم في بناء البيوت داخل الواحة. وهذه الأحجار تحافظ على اعتدال الحرارة داخل البيوت خاصة مع ارتفاع درجاتها في فصل الصيف.
تجهيز وتعبئة التمور
في اليوم التالي كنا على موعد لزيارة أكبر مصنع لتجهيز وتعبئة التمور، وفي داخله جدارية ضخمة تشرح مراحل تطور عمليات التعبئة بداية من الخطوات التي كانت سائدة في الماضي وحتى ظهور عمليات الميكنة الحديثة المعتمدة فيه اليوم. وينتج المصنع كميات كبيرة من عبوات التمر الفاخر المحشو بالمكسرات والتي تعرف طريقها إلى الداخل والخارج.
تكثر في الواحة آبار المياه العذبة وفيها صناعة ضخمة لاستخراج المياة المعدنية من آبارها العميقة والنقية للغاية لبعدها عن كافة مصادر التلوث. وأغلب المياه المعدنية التي تعرف طريقها إلى البيوت المصرية تستخرج من تلك الآبار.
"قلعة شالي" هي سيوة القديمة التي بنيت بالكامل من أحجار "الكرشيف" وجذوع النخل فوق هضبة عالية تشرف على غابات النخيل. هناك عاش أهل سيوة قديماً معتصمين بالقلعة والتي كانوا يغلقون أبوابها ليلاً خشية الغزاة.
صاحب المصنع، الحاج عبد الفتاح، يثير الإعجاب بطيبته وعصاميته وتواضعه الجمّ وصوته الخفيض واهتمامه البالغ بالبعد الاجتماعي والإنساني لكل ما يخص عمال مصنعه وأغلبهم من الفتيات الصغيرات اللواتي تتراوح أعمارهنّ بين الرابعة عشر والتاسعة عشر، حيث يتعهد الرجل بتجهيز هؤلاء الفتيات للزواج ويتكفل بنفقاتهنّ بالكامل. وقد أخبرنا أنّه عندما وجد أن الرعاية الطبية في الواحة أقل من الحد المأمول نتيجة إحجام الأطباء عن السفر إلى واحة سيوة البعيدة والتي تمثل للبعض منفىً، أخبر عمال مصنعه وبعضهم كان لا زال في مراحل التعليم المختلفة، أنه في حال التحاق أحدهم بكلية الطب فإنّه سوف يتكفل بكل نفقاته حتى ينتهي من الدراسة بشرط أن يقضى سنوات محددة في رعاية أبناء الواحة، ثم ينطلق كما يشاء إذا أراد بعد ذلك. وقد نفذ ذلك مع ثلاثة من عماله الذين تخرجوا وبدأوا العمل بالفعل في مستشفى الواحة.
قلعة "شالي" العصية على الغزو
في الأيام التالية زرنا "قلعة شالي" وهي سيوة القديمة التي بنيت بالكامل من أحجار الكرشيف وجذوع النخل فوق هضبة عالية تشرف على غابات النخيل. هناك عاش أهل سيوة قديماً معتصمين بالقلعة والتي كانوا يغلقون أبوابها ليلاً خشية الغزاة، حتى زاد عدد السكان وضاقت بهم بيوتها فنزلوا إلى السفح وبدأوا ببناء بيوتهم فيه. ثم تحولت القلعة إلى أحد أهم مزارات الواحة التاريخية..
انتهى برنامج الزيارة بالصعود إلى جبل الموتى المهيب على أطراف الواحة، وهو مخروط حجري ضخم تمّ اكتشافه بالصدفة أثناء الحرب العالمية الثانية عندما لجأ إليه الأهالي للاحتماء من القصف الجوي فاكتشفوا أنّه يضم آلاف المقابر التي نحتت في الصخر على شكل خلية نحل ويرجع تاريخها إلى الأسرة 26. وقد جمعت في تصميمها بين الفنّ الفرعوني والفنّ اليوناني. واستمر الدفن بها حتى العصر الروماني المتأخر.
فيما كان الجميع يحزمون أمتعتهم في الفندق، كنت أتجول في ساحات الواحة القريبة أحاول أن أتلمس وقع خطوات "محمود عبد الظاهر" بطل رواية "واحة الغروب" لبهاء طاهر. الضابط المأزوم الذي قامت السلطات بنفيه إلى الواحة عقب الاحتلال البريطاني لمصر بتهمة تعاطفه مع عرابي ورفاقه في الثورة ضد الخديوي. ذهب الضابط بصحبة زوجته الأيرلندية المفتونة بالتاريخ المصري وبالإسكندر الأكبر الذي ودت لو وجدت مقبرته هناك. وذهب محمود عبد الظاهر للبحث عن ذاته المراوغة وهناك اكتشف أنّه لم يكن شجاعاً بالقدر الكافي وأنه يدفع ثمناً لبطولة ودّ لو أنّها كانت حقيقية.
فتنتني سيوة كما لم تفتنّي مدينة أخرى في مصر، ولسببٍ ما شعرت أنّ مصر لا زالت تحتفظ ببهائها الكامل هنا.