في طريق العودة من البصرة، حينما تكون وجهتك المقصودة هي الناصرية، ستمر ب"سيطرة" (حاجز عسكري) تل اللحم، وبعد ربع ساعة تلوح لك في الأفق ملامح المدينة المشيدة فوق أولى حضارات العالم (هذه الجملة التي تداعب شعورنا بالانتماء لحضارة في طريقها نحو الاندثار). لكن إياك أن تلتفت إلى الجهة اليمنى في نهاية أطراف المدينة التي ستدخلها، لأنها مكب للنفايات، وستملأُ عينيك حقول من المزابل وتلال من القذارة. هذه المشاهد يمكن أن تكون بوابة غير رسمية، صنعتها السلطة بشكل غير مباشر واعتادت عين المار بجانبها على التآلف معها، كما سكان حي الفداء القريب من تلك المستنقعات الآسنة الواسعة على الرغم من مطالباتهم المستمرة بإيجاد حل. إلا أن حكومة ذي قار صامتة ومعْرِضة عما يتجرعه سكان تلك الأحياء من أمراض. هذه حال المدينة التي تتغنى بها الأصوات باعتبارها رائدة العمران البشري. وهي ما زالت على خرابها على الرغم من أن حكومة الكاظمي أعلنتها منذ نهاية عام 2019 "مدينة منكوبة"، فيما قال النائب في البرلمان العراقي أسعد ياسين: إن قرار اعتبار ذي قار مدينة منكوبة لا يرتب على حكومة الكاظمي أي التزامات مالية تجاه المحافظة فعدم التزام بغداد بصرف أي مبالغ مالية إلى ذي قار، سببه أنّ مسودة القرار المقدمة من برلمانيي المحافظة كانت مجردة من أية تفاصيل. وقبل سنة من الآن، أي بعد مضي سنتين على قرار حكومة الكاظمي، أطلقت إدارة المحافظة حملة حكومية وشعبية لاستحصال الحقوق المترتبة على القرار البرلماني بتصنيفها كمحافظة منكوبة، مشيرة إلى أن القرار الذي صدر نهاية عام 2019 ما زال حبراً على ورق.
تستقطب المدينة السواح الأجانب لرؤية الآثار السومرية ولزيارة أهوارها، ولكنّ ذلك لم يحسن نسبة الفقر والبطالة اللتان تقتربان من 35 في المئة من سكانها بحسب آخر الإحصاءات المدونة.
وتسجل ذي قار أعلى معدلات الإصابة بالتشوهات والسرطان بسبب التلوث البيئي والصحي ومخلفات النفط وآباره وحقوله والشركات التي لا تتخذ أي إجراء للحد منه (1).
رافقت "هَبَّة" السياحة المستمرة لمدن العراق، حيث تزار الآثار والمزارات والأسواق الشعبية وغيرها من النقاط التي تلمع في عيون السواح، شلة من الأدباء والكَتَبة والمدونين والناشطين، عبر الترويج وكتابة الديباجات التي تُنشر عن جمال العراق وكنوزه وبيئته ومزاراته.
وذكر مصدر طبي أن "أرقام الإصابات في المحافظة ارتفعت من 557 مصاباً في عام 2006 إلى 1602 مصاباً في عام 2019، فيما لم تصدر إحصائية بأعداد المصابين بالمرض خلال العامين الماضيين (2020 و2021) والتي من المتوقع أن تصل الإصابة فيهما إلى قرابة ال 3000 شخص". وبيّن المصدر أنّ "أعداد المصابين بمرض السرطان من سنة 2006 ولغاية 2019 بلغت 11 ألفاً و957 شخصاً مصاباً، ومن المرجح أن تتجاوز حاجز الـ 15 ألف إصابة فيما لو أضيف لها إحصائية عامي 2020 و2021 بعد إكمالها من قبل وزارة الصحة الاتحادية"، لافتاً إلى أنّ "هذه الأعداد هي الإصابات المسجلة رسمياً، بينما هناك المئات من غير المسجلين الذين يتلقون العلاج على نفقتهم الخاصة".
نغمة سمجة لتجميل قبحنا!
رافقت "هَبَّة" السياحة المستمرة لمدن العراق، التي تزور الآثار والمزارات والأسواق الشعبية وغيرها من النقاط التي تلمع في عيون السواح، شلة من الأدباء والكَتَبة والمدونين والناشطين، عبر التدوين والترويج وكتابة الديباجات التي تنشر عن جمال العراق وكنوزه وبيئته ومزاراته. يقفز هنا سؤال في غاية الأهمية عن مدى استعداد المؤسسات المعنية بالآثار والبيئة والسياحة؟ هل توجد مرافق ومبان وخدمات مناسبة ومؤهلة لأن تجري السياحة للأهوار أو للآثار بصورة معقولة؟
يبدو العراق في عيون هؤلاء في غاية الجمال، ويتوافر على حظوة في استقطاب السواح من كل بقاع العالم. يبدو العراق محتفظاً بإمكانياته ومجده بمعية تلك الأقلام. لا يعبأ الأديب أو الكاتب الذي يلوي صورة الواقع بكلماته أنها تنفصل عن الواقع الرث المستشري في كل مفاصل البلاد. وهو يكيل المديح والثناء لمنجزات السلطة، ولا توجد هذه الصورة الجميلة المزيفة للعراق إلا عبر هؤلاء، وهم يروجون للصورة التي تبتغيها السلطة ولجيوبهم.
اعلنت حكومة الكاظمي منذ نهاية عام 2019 الناصرية "مدينة منكوبة"، فيما قال النائب في البرلمان العراقي أسعد ياسين: إن القرار لا يرتِّب على حكومة الكاظمي أي التزامات مالية تجاه المحافظة، ولا تلتزم بغداد بصرف أي مبالغ مالية إلى ذي قار لأن مسودة القرار المقدمة من برلمانيي المحافظة كانت مجردة من أية تفاصيل.. وهكذا بقي القرار حبراً على ورق.
تستقطب المدينة السواح الأجانب لرؤية الآثار السومرية ولزيارة أهوارها، ولكنّ ذلك لم يحسن نسبة الفقر والبطالة اللتان تقتربان من 35 في المئة من سكانها. وتسجل ذي قار أعلى معدلات الإصابة بالتشوهات والسرطان بسبب التلوث البيئي والصحي ومخلفات النفط وآباره وحقوله والشركات التي لا تتخذ أي إجراء للحد منه.
هناك مثل شعبي من جنوب العراق ينطبق على هؤلاء، يقول: "صِبْغَوْ بابهم وتَيَّهِتْهُمْ"، بمعنى، أنّ أحدهم تاهَ عليه باب بيت الذين يقصدهم بعد أن صبغوه. فما إن تُصبغ الأسيجة والأرصفة والجدران، أو تقوم عصابة السلطة بتعبيد الشوارع الهزيلة والمتهالكة، حتى يأنس العراقيون ويبتهجون بهذا الفتات السمج. هذا الاستئناس بما تقدمه السلطة ليس نتيجة اعتباطية، إنما جاء عبر التربية الدينية / الاجتماعية ("القناعة كنز لا يفنى" والرضا بالنصيب والقدر والقسمة) مع التربية الاقتصادية التي عززت خفض سقف المطالب عند الفرد العراقي (النهب الممنهج لمقدرات البلاد). ثم تجرع الفرد العراقي كل أشكال التقزيم والخنوع والذل والهوان والظلم والإهانة بعد احتلال البلاد. ما زلت أحتفظ ببوست لأحد أدباء البصرة عندما نشر على صفحته عن مدينة القِبْلَة المحاذية لجامعة البصرة/باب الزبير، وهو يقارن بين وضْعها في عهد صدام وعهد محافظها منذ 2017 وحتى الآن أسعد العيداني (وهو أيضاً نائب في البرلمان العراقي منذ 2018، وقيادي في "المؤتمر الوطني العراقي" الذي أسّسه أحمد الجلبي). ولم تكن الصورة التي نشرها سوى أرصفة وبعض التبليط الهزيل الذي لا تتوفر فيه أدنى شروط الكفاءة.
____________
من دفاتر السفير العربي
مدن العراق
____________
وما دمنا بذكر البصرة (عروسة الشرق المغتصبة والخربة والمتربة) فلا مبالغة لو وصفناها ب"البصرة العيدانية" إذ بمعيته ولذكر منجزاته، فقد غرقت مدينة النخيل بكافة أنواع المخدرات، إذ باتت الحشيشة - أخف أنواعها - مثل سيجارة عادية بين شبابها، وقالت محكمة استئناف البصرة أن 90 في المئة من المعتقلين بتهمة تعاطي المخدرات كانوا عاطلين عن العمل. عن الأحزاب والمليشيات والعصابات التي تسرح وتمرح بها وبموانئها وحدودها، كيفما اتفقت مزاجية رؤوس السلطة والإرهاب. عن التجريف الممنهج بتحويل الأرض الخضراء إلى وحدات سكنية وإعدام النخيل بتمويته بالمياه المالحة ثم الاستغناء عن درة الأشجار وقد قالت عضو مجلس محافظة البصرة، زهرة حمزة، لشبكة "رووداو" الإعلامية (مقرها في كردستان العراق) إن "عملية تجريف بساتين النخيل في المحافظة جاء بقرار من الحكومة المحلية وبموافقة وزير النفط بغية تحقيق التعايش بين الزراعة والنفط". هذا هو نفطها الذي لا ينال منه المواطن البصري سوى الدخان والانبعاثات السامة والمميتة والمياه الملوثة بفضلاته. عن أوكار وعصابات التسول التي تستغل النسوة والأطفال وبات مشهدها من المألوفات في بصرة الخير، لأن عدد المتسولين فيها بلغ قبل ثلاث سنوات ما يقارب ثلاثة آلاف. بالإضافة إلى ذلك، ثمة تربية "ميدياوية"، تغض البصر عن القبح وتنظر إلى الجانب المملوء من الكأس وهي ساهمت بإقناع الرأي العام وعين المتلقي (خداعهما في الواقع) بأن العراق ما زال في صباه، يمرض ولا يموت!
من أين جاءت طيبة الشعب العراقي؟
هل ثمة دولة على امتداد المعمورة تقدم مثل العراق الخدمات بكافة صورها وأشكالها لسواحها بشكل مجاني مع ابتسامة وعن طيب خاطر؟ التاريخ لا يدوِّن طيبة الشعوب بل الأرقام السياسية والاقتصادية.
هل دوّن التاريخ بصفحاته عن شعب اتَّصف بالقوة والطيبة في الوقت نفسه؟ الطيبة قد تكون حصة روح الفرد العراقي المقهورة والمسلوبة من كل حقوقها. هذه هي الصورة السلبية لطيبة البصريين وقد قال فيها محمد الحلبوسي رئيس مجلس النواب العراقي في أحد لقاءاته، متحدثاً عن نفط البصرة وطيبة أهلها: "لو كان نفط البصرة بمحافظات أخرى (ولعله يقصد محافظة الأنبار التي ينتمي اليها)، "تنكة" واحدة ما تعْبر، بس أهل البصرة طيبين زيادة".
غرقت البصرة، مدينة النخيل، بكافة أنواع المخدرات، وباتت الحشيشة - أخف أنواعها - مثل سيجارة عادية بين شبابها، وقالت محكمة استئناف البصرة أن 90 في المئة من المعتقلين بتهمة تعاطي المخدرات كانوا عاطلين عن العمل. وأما الأحزاب والمليشيات والعصابات فتسرح وتمرح بها وبموانئها وحدودها. والتجريف الممنهج يحوِّل الأرض الخضراء إلى وحدات سكنية، ويعدم النخيل بتمويته بالمياه المالحة.
عموماً ثمة استغفال وضحك على العراقيين عبر وصفهم بالطيبة والكرم، لأنه ما من شعب يتعرض لكل ما تعرض له العراقيون - وما يزالون - ثم يَقبل بأن يُستغفل تحت مسميات خادعة! وللعلم فالسائح لا ينفق ديناراً واحداً داخل العراق، بل يُستضاف!
1 - نشرت وكالة "شفق نيوز" مطلع العام الحالي أن مصدراً طبياً في دائرة صحة محافظة "ذي قار"، أبلغ الوكالة أن "المحافظة مليئة بمصابي مرض السرطان، لافتاً بالمقابل إلى أنه لم يثبت لدى الدائرة شيء علمي من أن مرض السرطان جاء بسبب تلوث المياه والهواء".