قتلوا شيرين أبو عاقلة.. لكن الصوت باقٍ

تغني لها أم أحمد فريحات "من جنين الأبية، طلعت شمعة مضوية.. قولوا الله قولوا الله، هَي شيرين مش حَياللا.." وتمضي باكية. حملت شيرين أبو عاقلة قصص كل بلدة وحارة ومخيم في فلسطين إلى الشاشة، إلى أسماع وأبصار وقلوب الناس. حملت فلسطين إلينا. قتلتْ إسرائيل شيرين أبو عاقلة ليس على الرغم من كونها صحافية، بل بالذات لأنها صحافية - ولأنها فلسطينية، ولأن صوتها مرتفع في نقل جرائم العدو.
2022-05-12

شارك
شيرين أبو عاقلة في تغطيتها في الشيخ جراح (الصورة عن صفحتها على فيسبوك)

اغتيال واضح لا لبس فيه. لقد قتل الاحتلال الإسرائيلي الصحافية المخضرمة، مراسلة قناة الجزيرة وكبيرة صحافييها في فلسطين، شيرين أبو عاقلة (ولدت عام 1971) صباح يوم الأربعاء في 11 أيار / مايو 2022. قتلت قنصاً بطلقة في الرأس، بغتة وإثماً وعدواناً، كما هي عادة إسرائيل، وفيما هي تلبس سترة واقية كتب عليها PRESS (صحافة) وخوذة واقية، في وضح النهار وفي موقع منعزل كانت تجهّز رسالتها الصحافية منه على مدخل مخيم جنين.

روت ما جرى الصحافية شذا حنايشة، التي كانت على بعد خطوات قليلة من شيرين لحظة استشهادها. قالت أن فريقاً من 4 صحافيين تواجد في المكان لتغطية اقتحام المخيم. كلهم ملتزمون بالزي الصحافي والخوذ وفي منطقة مكشوفة بعيدة عن أي إطلاق نار. قالت أن الجيش الإسرائيلي كان يراهم تماماً حين أطلق النار بشكل مباشر عليهم. طلقةٌ أولى أصابت الصحافي على السمودي في ظهره، صرخت من بعدها شيرين مستنجدة "علي أصيب!" لتُردى هي بعدها بثوانٍ فقط. في الفيديو المؤلم تظهر زميلتها شذا في حالة صدمة مما جرى، بينها وبين الشهيدة الممددة شجرة فقط، مُحاوِلة الاقتراب منها في ظل استمرار الرصاص.. وفي المستشفى، الصحافي المصاب، علي السمودي يشرح: "لا كان في متظاهرين ولا مقاومين ولا مسلحين ولا مدنيين ولا راشقي حجارة حتى... لقد كان قتلاً متعمّداً".

لحظة الفاجعة الصحافية شذا حنايشة

****

منذ عشرين عاماً بالتمام، كانت شيرين أبو عاقلة هنا أيضاً، في جنين، يوم حصار المخيم واقتحامه وارتكاب الأهوال فيه. فهذه امرأة التقطتها الكاميرات تمشي باحثة عن جنازة الشهيدة.. تُعرّف عن نفسها: "أم أحمد فريحات من مخيم جنين، خضت معركة جنين من أول يوم لآخر يوم". من بين دموعها تتذكر كيف أن شيرين أبو عاقلة كانت ساعدتها في البحث عن أبنائها عندما اقتُحم المخيم، كيف أنها كانت تعمل دون أن تتذكر طعاماً أو شراباً. تغني لها "من جنين الأبية، طلعت شمعة مضوية.. قولوا الله قولوا الله، هَي شيرين مش حَياللا.." وتمضي باكية.

****

"طبعاً بخاف،" قالت أبو عاقلة مرّة عندما سُئلت عن شجاعتها في الميدان. "بلحظة معينة بتنسى هذا الخوف. لكن إحنا ما بنرمي حالنا بالموت. منروح ومنحاول ندوّر وين نوقف وكيف بدي إحمي الفريق اللي معي قبل ما فكر بشي تاني". هكذا وصفت عملها الصحافي، وهي المعروفة بكونها حذرة ومسؤولة على الأرض.

حملت شيرين أبو عاقلة قصص كل بلدة وحارة ومخيم في فلسطين إلى الشاشة، إلى أسماع وأبصار وقلوب الناس. حملت فلسطين إلينا – نحن الجالسين في بيوتنا في بلدان متنوعة في المنطقة وحول العالم. على مدى سنوات، صار صوتها وصورتها واسمها مألوفين للمشاهدين، ساهموا بتشكيل وعينا بفلسطين إذ تتحلق حول الشاشة عيون الكبار والصغار – من الانتفاضة الثانية إلى جنين إلى حيّ الشيخ جراح وصولاً إلى هذا اليوم. ربما لذلك بدا يوم استشهادها واحداً من تلك اللحظات النادرة التي صنعت شعوراً مشتركاً جامعاً وعابراً لدول المنطقة وشعوبها، يمكن تلمّسه على وسائل التواصل الاجتماعي ومباشرة في الوجوه والنفوس. حداد عام وصادق على صوتٍ حملنا – أينما كنا - إلى فلسطين.

قتلت إسرائيل شيرين أبو عاقلة ليس على الرغم من كونها صحافية، بل بالذات لأنها صحافية - ولأنها فلسطينية، ولأن صوتها مرتفع في نقل جرائم العدو. رحلت عن عمر 51 عاماً، بعد مسيرة مهنية قاربت الـ30 عاماً، كان من الممكن أن تنتقل فيها إلى العمل من مكتب مريح بدل المراسَلة الميدانية، لكنها كانت تعتبر أن الأرض أجدر مكان للعمل الصحافي وتصر على الاحتكاك بيوميات فلسطين فيها ومن أزقتها.

تقول الصحافية داليا حتوقة، صديقة الشهيدة، في حديث للجزيرة يوم الأربعاء، أنه لا بدّ عشرات الفتيات كنّ قد حملن فرشاة الشعر أمام المرآة في صغرهن ليتخيلن أنفسهنّ مكان شيرين في الميدان، فيرفعن الفرشاة كالميروفون ويكررن رسالتها الختامية في التقارير: "شيرين أبو عاقلة، الجزيرة، رام الله"، وهي للمفارقة الجملة نفسها التي دأب جنود الاحتلال على تكرارها باستهزاء على مسمع شيرين عندما كانت تحاول أداء مهمتها الإعلامية في شوارع القدس. ذلك مبلغ غيظهم من أي صوتٍ شجاع ينطق اسم فلسطين عالياً في وجههم...

"ليس سهلاً ربّما أن أغيّر الواقع، لكنّني على الأقل كنت قادرة على إيصال ذلك الصوت إلى العالم. أنا شيرين أبو عاقلة". 

مقالات من العالم العربي

بغداد وأشباحٌ أخرى

نبيل صالح 2024-12-01

عُدتُ إلى بغداد ولم أعد. تركتُ قُبلةً على قبر أُمي ورحلتُ. ما حدث ويحدث لبغداد بعد الغزو الذي قادته جيوش الولايات المتحدة الأمريكية، هو انتقامٌ من الأسلاف والتاريخ معاً.

لبنان مجدداً وغزة في القلب منه

... أما أنا فأفرح - الى حدّ الدموع المنهمرة بصمت وبلا توقف - لفرح النازحين العائدين بحماس الى بيوتهم في الجنوب والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية. لتلك السيارات التي بدأت الرحلة...