أكتبُ هذه الكلمات للذين لم يزوروا القدس بعد، ولم يترّبوا في أحيائها، ولم تربطهم في أزقتها حكايا وذكرياتٌ في طفولتهم أو كبرهم، الذين أحبوا القدس دون أسباب، الذين لم يطيقوا الوصول إليها فصبروا وصابروا حتى وصلوا. سأصحَبُهم في جولةٍ قصيرةٍ داخل هذه المدينة التي عاشت فيهم قبل أن يعيشوا فيها، أكتبها كدليلٍ شاهدٍ على ماضي وحاضر المدينة في شهرها الأغرّ؛ شهر رمضان، أجمل مواسمها العامرة بالأبناء والأحباب.
أبدأ جولتنا هذه من باب العمود، وهو باب المدينة الرئيس في جهتها الشماليّة، منه يدخل أغلبُ الناس إلى البلدة القديمة، وهو شريانُ المدينة الكبير، ارتبط اسمُه بعمودٍ شيّدَه هيرودوس الرومانيّ منذ أكثر من ألفي عام. ويُسَمّى كذلك باب دمشق، فمنه كانت تنطلق القوافل التجاريّة إليها، ودخلت عليه تسمية باب نابلس في القرن الأخير لأنَّ شبكة مواصلات نابلس كانت تنطلق منه أيضاً. وأطلق عليه المقدسيون في سنواتهم الأخيرة باب الشُّهداء، لكثرة الشهداء الذين سالت دماؤهم الزكيّة على درجاتِه.
عندما تصل هذا البابَ الشاهق في ارتفاعه، العريق في تفاصيله الزخرفيّة، وتنظر إليه من ساحتِه المفضية إليه، ارفعْ رأسَك قليلاً لترى نقش السلطان العثمانيّ سليمان القانونيّ وتأريخ بناء الباب. قد يُوقِفك الأغرابُ إذا لمحوا أنّ هيئتك ليست على الوجه الذي يعجبهم، فقد نصبوا ما يشبه الكوخ الحديديّ غرب الباب، كنشازٍ ودخيلٍ معماريّ كحالهم بالضبط!
ستُلاحظ لاحقاً أنَّ مداخل الأبواب الكبرى التي تُدخلك إلى المدينة مُصمَّمةٌ بطريقةٍ لا تريك محاسن المدينة مباشرةً، ولعلّ هذا تقليد عسكريّ لإعاقة دخول الغُزاة بخيولهم وعرباتهم، وعدم فتح أنظارهم على هذه المدينة الفاتنة. ولعلي مجتهداً أقول إنَّ الدخول إلى المدينة يحتاج لشهقةٍ عميقة، لكسر جدران الدهشة التي بنيتَها قبل زيارتك، ثم لكي تخلع نعلك فأنت أجدر بأن تمشيَ حافياً هنا، فلعلك تحظى بلمسة قدم وليّ أو نبيّ!
____________
من دفاتر السفير العربي
القدس: المدينة التي وقعت عن سكة الوقت
____________
بعدها يا قارئ الكلام، تدخل إلى إيوان السوق وتستقبلك المحلاتُ عن يمنةٍ ويسرة. وإذا أقامَ المؤذنُ للصلاة وكنت تودّ الجماعةَ فدونك مسجد الشيخ لؤلؤ على يسارك، مسجدٌ مملوكيّ يرتاده التجار. وإن كُنت محظوظاً يومها وكانت سلطات بلدية الاحتلال قد غضّت أبصارها عن البلدة، فستجد الفلاحات من قرى القدس وضواحيها يعرضن الجُبن والزعتر والمريمية وما يتيسر لهنّ من رزق في كل موسم. ولكلّ واحدة منهنّ قصة ستعرف بعضها بعد التدقيق في تجاعيد وجهها العابر للحواجز كلّ صباحٍ في رحلةٍ شاقّة نحو هذا الباب، أو في تطاريز ثوبها الفلسطينيّ الأشمّ، كل لوحة من لوحات هذا الثوب تُشير إلى مدينة أو ريف، أو من شالها الأبيض المدلّى. وإذا كنت ذا عقلٍ بعد كل هذا المشهد وكانت لك مَلَكة المماكسة فحاول لعلّك تُفلح. (هامش: المماكسة: المُفاصلة على الثمن).
رويداً رويداً حتى يستقبلك في واجهة السوق محلُ "الهدمي" ذائع الصيت للفلافل، في رمضان تجد عنده القطايف. إذا جعلته أمامك ونظرت يميناً، هناك طريق يأخذك إلى حارة النصارى، وفي طريقك الممتد بين الأزقّة الضيقة تراودك نفسُك وراء رائحة الصفيحة الأرمنيّة لدى "مخبز جبر".
أما إذا دخلت مباشرةً فستكون في سوق خان الزيت سوق المدينة الرئيس. كان هذا السوق يضّم معاصر للزيتون وبقي له هذا الاسم العريق، أما محلاته فمصفوفةٌ بشكلٍ رتيب، وفيها أبناء المدينة يبتاع المارة منهم المؤن والتحف والملابس. وتُجّاره على الرغم من سوء الحالة الاقتصاديّة مرابطون فيه يُسرجون هذه المدينة بالزيت لتبقى عامرةً بأهلها وقناديلها. والسوق أغلبه مسقوفٌ ليحمي الزوار والتجار من حرّ الصيف ومطر الشتاء، ويضاء بفتحات سماويّة صغيرة تُدخل الشَمسَ إلى السوق بعناية. قد تَعجَب لكثرة المارة وانتعاش المدينة في هذا الشهر بالذات، لأنّه موسمٌ ينتظره تُجّار المدينة بشوقٍ، فأسواقُ القدس قليلة الازدحام في بقية الأيام بسبب الحصار والتضييق.
بقية التقرير على موقع متراس