طواهُم البحر في دقيقة. كانوا مئة على ما يُقال، مكث منهم نحو أربعين في الماء. عاد ستةٌ أجساداً لا حياة فيها، وبقي ثلاثة وثلاثون في بطن الماء، مفقودين.
مئة حلم كانوا. مئة رأس يفكر ويقلق، مئة قلبٍ ينبض ويحبّ ويخافُ ويتعب. كانوا ألفَ ألف احتمال لما قد يكون، لحياةٍ أخرى وفرص أرحب. كانوا يهربون إلى الأمام، ربّما في ضربٍ من ضروب شجاعة الخائفين على أولادهم وما تبقى من أحلامهم. مئةٌ – رجال ونساء وأطفال، وحيدين وعائلات وأنصاف عائلات - سئموا الانتظار فماجوا مع الموج.
الرحلة الأخيرة..
19-06-2020
يوم السبت 23 نيسان / أبريل 2022، غرق مركب قبالة شواطئ مدينة طرابلس اللبنانية في فاجعةٍ ما زال أهل المدينة يحاولون استيعاب صدمتها. مئة شخص حسب معظم التقديرات كانوا على متن المركب، اختاروا الهجرة بطريقة غير نظامية من البلد الذي تدهورت أحواله المعيشية إلى حدّ لا يُحتمل، من البلد الذي يعطي المرءَ كلّ أسباب الرحيل، من المكان الذي دفع بهم إلى اختيار ما ارتأوا أنه فرصة لحياة أفضل في أوروبا ربما..
لكنّ البحر لم يختر إغراق المركب بنفسه، لم يكن قاسياً ولا عاتياً في تلك الليلة الحزينة. يؤكّد الذين عادوا من فم الموت أنّ الطرّاد العسكري للجيش اللبناني الذي حاول إيقاف رحلتهم ارتطم بمركبهم، وأنّه توعّدهم بالموت. أمّا الجيش فقد أصدر بياناً يدّعي فيه أن حمولة المركب الزائدة وتسرب المياه إليه كانا سبب المأساة، ليعود ويقول أن مركب المهاجرين هو الذي ارتطم بطرّاد الجيش، وهو ما ينفيه كل الشهود على تلك اللحظة الفظيعة.
تتوالى القصص منذ ذلك الحين من فم الناجين عن هَول ما شهدوا، عن أمّ نزلت ولم تطلع، عن أختٍ وُجدت طافية على وجه الماء، عن شاب عشريني كان قد خطب قبل ثلاثة أيامٍ من غرقه فقط ولعله كان ذاهباً مع أملٍ كبير بـ"تأمين مستقبله".
____________
من دفاتر السفير العربي
الهجرات: العالم يسيل (2)
____________
الضحايا من الجنسيات اللبنانية والسورية والفلسطينية، وقد شيعت طرابلس جثامين ست ضحايا فقط وجدتهم فرق الإنقاذ بعد أن فارقوا الحياة. بهاء محمد مراد (22 عاماً)، الطفلة تالين الحموي (سنة ونصف) ووالدتها سارة طالب، رياض دندشي (40 عاماً)، الطفل بهاء دندشي (11 عاماً)، خديجة النمر (27 عاماً، وطفلها مفقود). هناك عشرات غيرهم ما زالوا في عداد المفقودين... الحقيقة والعدالة والرحمة لهم.