يبدو المشهد كقطعة مستعادة من القرون الوسطى: مئات الجماعات المنفعلة تتجمع أمام مساجد ومكتبات تابعة لرجل الدين العراقي محمود الصرخي، بغية إحراقها وهدمها وسط هتافات بلعن بعض صحابة النبي وبعض زوجاته، والوعد بالثأر. ويحدث هذا في ظل حماية القوات الأمنية لهذه الجماعات ولا يبدو أن هذه الأفعال تمثِّل أي نوع من التحدي للسلطات العراقية.
بداية القصة
تبدأ القصة من خطبة الجمعة التي ألقاها الخطيب الشاب "علي المسعودي" في محافظة بابل والتي تخللها نقله لروايات من أمهات الكتب الشيعية، تفيد بحرمة البناء على القبور، حيث نقل الخطيب وهو من أنصار الصرخي رواية منقولة عن علي بن أبي طالب تقول: "بعثني رسول الله بهدم القبور وكسر الصور". فالمسعودي في مثل هذا الحال لم يكن سوى ناقلٍ للروايات التي توجد في بطون الكتب الأساسية للشيعة ومنها "الكافي" و"وسائل الشيعة" و"جامع أحاديث الشيعة"... لكنّ مقتدى الصدر زعيم الكتلة الصدرية، فهم الموضوع بشكلٍ آخر وفسر الحديث بهذه الروايات بالدعوة إلى هدم قبور ومقامات أهل البيت! فأصدر بياناً شديد اللهجة قال فيه: "إنّ بعض من ينتمون بالتقليد إلى الصرخي، ولا أعلم بأنه على علم بذلك أم لا، يحاولون إدخال بعض العقائد المنحرفة إلى المذهب الشريف والعقيدة الجعفرية وآخرها ما صدر من إمام جمعة لهم في محافظة بابل وذلك بالمطالبة بهدم القبور".
بعد هذا البيان خرجت جماهير التيار الصدري وأتباع للجماعات الدينية لحرق مساجد ومكتبات السيد الصرخي. تفيد بعض الإحصائيات الصادرة عن هؤلاء الأخيرين أنه أُحرِق ما يقارب أربعون مسجداً وهُدِمت خمس مساجد، وحُرقت ثلاث مكتبات في عموم محافظات العراق. وشارك في هذه الحملة نواب ورجال دين معروفين.
من جهته قام جهاز الأمن الوطني التابع لرئاسة الوزراء، باعتقال خطباء الجمعة من أتباع السيد الصرخي، وقال الجهاز في بيان منشور على حسابه الرسمي إنه "تنفيذاً لأوامر قبض قضائية، يواصل جهاز الأمن الوطني حملته الموسعة لملاحقة واعتقال عناصر الحركات المتطرفة التي تحاول الإساءة إلى المعتقدات والرموز الدينية وتهديد السلم المجتمعي". وأضاف أن "مفارز الجهاز تمكنت من إلقاء القبض على 29 متهماً بالانتماء إلى تلك الحركات المتطرفة في محافظات بغداد، ذي قار، بابل، القادسية، المثنى، البصرة، ميسان، واسط، النجف"، وأنه "تمّ تدوين أقوالهم أصولياً وإحالتهم إلى الجهات القضائية المختصة لينالوا جزاءهم العادل".
وقامت الميليشيات التابعة لإيران، وفقاً لتصريحات أدلى بها بعض أتباع الصرخي، بعمليات مداهمة لمنازلهم وترويع أسرهم، ومصادرة بعض ممتلكاتهم وترك رسائل تهديد بالتصفية الجسدية، الأمر الذي دفع أتباع الصرخي إلى هجر بيوتهم والانتقال إلى محافظات أخرى، بعيدة، قد يجدون فيها الأمان.
خرجت جماهير التيار الصدري وأتباع للجماعات الدينية لحرق مساجد ومكتبات السيد الصرخي. تفيد بعض الإحصائيات الصادرة عن هؤلاء الأخيرين أنه أُحرِق ما يقارب أربعون مسجداً وهُدِمت خمس مساجد، وحُرقت ثلاث مكتبات في عموم محافظات العراق.
وتطور الأمر بأن أصدرت محكمة تحقيق العمارة مذكرة قبض بحق السيد الصرخي نفسه، وذكر المركز الإعلامي لمجلس القضاء الأعلى، أنّ "محكمة تحقيق العمارة أصدرت مذكرة قبض بحق المتهم "محمود عبد الرضا محمد" الملقب "محمود الصرخي"، مشيراً الى أنّ "مذكرة القبض صدرت وفق أحكام المادة (372) من قانون العقوبات".
وأما بحسب التوضيح الذي صدر من جماعة الصرخي، فإنه لا يوجد لديهم توجه لهدم القبور بل الأمر لا يتعدى النقاش العلمي.
الانسداد السياسي والعدو المشترك
نتيجةً للانسداد السياسي الذي تعيشه البلاد وصراع التيار الصدري مع الإطار التنسيقي (1)، فالهجمة التي تستهدف مرجعية الصرخي تندرج ضمن الاستثمار السياسي الذي يدفع زعماء الميليشيات والفصائل إلى السعي لتأكيد فرض وصايتها الدينية والسياسية على المجتمع. وقد أصبح عنوان الصراع يدور حول من هو الأحق في الدفاع عن الطائفة وعقائدها... وعلاوة على ذلك، تهدف هذه الهجمة إلى استعراض قوة زعماء الميليشيات وقدرتهم على تحريك الشارع. كما تهدف إلى كسب ود مرجعية النجف.
ويمكن للهجوم على الصرخي أن يُقرأ من زاوية "العدو المشترك الذي يوحِّد الخصوم". فالصرخي الذي لا يتفق في الكثير من القضايا مع الجماعات الشيعية، يهدد بنظر هؤلاء وطقوسه إذ يُحرِّمها ويُسفِّهها، ما يبرر لهذه الجماعات التوحد وترك مشاكلها جانباً، ومواجهة هذا "الخطر".
من هو الصرخي؟
لا يمتلك المرجع الديني الصرخي جناحاً مسلحاً مثلما هي حال بقية قيادات ومراجع الشيعة. وهو يضع نفسه خارج أسوار الطيف الشيعي، فمرجعيته جامعة لمختلف المسلمين. ويُنكر الصرخي الروايات التي تصنع الفرقة والاقتتال ويحرِّم سب الصحابة وزوجات الرسول، كما أنه يرفض المشاريع الإيرانية في العراق. وهو يناهض "الحشد الشعبي" وقد قال فيه أحد الناطقين باسمه: "الحشد لم يكن حشداً شعبياً بل حشد سلطوي تأسس وأنشئ من أجل خدمة مصالح إيران والدفاع عن مصالح إيران في العراق، ولم يكن يوماً من أجل الدفاع عن مصالح العراق وحدوده وثرواته واستقلاله، فهو حشد طائفي" (2). وينتقد رجال الدين الذين يعتاشون على الخرافة والقدسية واستثمار مراقد أهل البيت لتمويل مشاريعهم، التي يراها ظلامية وقائمة على الكسب غير المشروع وهم يخدعون الناس من خلال العزف على وتر الدين والعودة إلى الماضي.
وينتقد الصرخي "ولاية الفقيه" وينعتها ب "ولاية الطاغوت" ويقول في إحدى تغريداته أنّ #الامام_علي_لم_يسجد_لصنم (3). ويدعو في محاضراته وبياناته إلى إزالة القدسية والتبجيل عن طبقة رجال الدين ومؤسساتهم، وهو يعتقد أن السلطة في العراق تستمد قوتها من المقدس لا من القوانين والتشريعات والاعمال الإنجازية.
كما وصف الدستور العراقي في أكثر من مناسبة بأنه "دستور مفخخ"، وهو يدعو إلى دولة مدنية عمادها المواطنة لا الطوائف. ووفق بيان صدر عنه في مطلع عام 2020، دعا الصرخي إلى تهيئة كل مستلزمات النجاح في كتابة دستور مدني متوازن، و"إجراء انتخابات نزيهة يأخذ كلُّ شخصٍ فيها استحقاقَه، ويتفرّع عنها تشكيل حكومة مدنية وإقامة دولة مدنية" (4).
قامت الميليشيات التابعة لإيران، وفقاً لتصريحات أدلى بها بعض أتباع الصرخي، بعمليات مداهمة لمنازلهم وترويع أسرهم، ومصادرة بعض ممتلكاتهم وترك رسائل تهديد بالتصفية الجسدية، وتطور الأمر بأن أصدرت محكمة تحقيق العمارة مذكرة قبض بحق السيد الصرخي نفسه.
تكشف الاحداث التي وقعت لأتباع الصرخي شكل نظام الحكم في العراق وتبين مدى هشاشته وضعفه. فهو وإن ادّعى الديمقراطية وحماية الحرية، إلا أنه من جانب آخر يرفض كل ما من شأنه أن يؤسس لديمقراطية حقيقية، ويعمل على إفراغ المؤسسات من مضمونها ويجعلها شكلية فقط، فصار يغلف أهدافه بأشكال التحديث المزيف.
وهكذا عُدّ الصرخي "الابن الضال" للحوزة، وشُنت عليه حرب شعواء من قبل المؤسسة الدينية، ويبدو مصيره وأتباعه كامتداد للكثير من الشخصيات الدينية والأكاديمية التي تعرضت للقتل والإقصاء ما أن غرّدت خارج سرب هذه المؤسسة أو نادت بإصلاحها.
وتكشف الاحداث التي وقعت لأتباع الصرخي شكل نظام الحكم في العراق وتبين مدى هشاشته وضعفه. فهو وإن ادّعى الديمقراطية وحماية الحرية، إلا أنه من جانب آخر يرفض كل ما من شأنه أن يؤسس لديمقراطية حقيقية، ويعمل على إفراغ المؤسسات من مضمونها ويجعلها شكلية فقط، فصار يغلف أهدافه بأشكال التحديث المزيف.
ازدواجية وكيل بمكيالين..
الأمر المثير للدهشة والاستغراب في آنٍ معاً هو موقف زعماء الإسلام السياسي في العراق من هدم المساجد وحرق القرآن في شهر رمضان، فقد واجهوا الحدث بالتشفي. وشاءت الأقدار أن يحرق متطرف سويدي نسخة من القرآن بذريعة أنّ الإسلام دين عنف وتطرف، فخرج هؤلاء هم أنفسهم عن صمتهم وعبّروا عن استنكارهم، وغرد مقتدى الصدر على حسابه الشخصي في تويتر: "إن كنتَ لا تؤمن بالله وشرعه فهذا لا يعطيك الحقّ بحرق الكتاب أياً كان"، وطالب وزارة الخارجية العراقية باستدعاء ممثل السويد للوقوف على حقيقة ما وصفه بالجرم الإرهابي والفتنة.
انطلقت السخرية على مقتدى الصدر وبقية الزعماء السياسيين والدينيين فتساءل البعض: وهل ما أُحرق في المساجد التابعة لجماعة الصرخي هو رواية "البؤساء" أم القرآن الكريم؟
والازدواج الآخر الذي وقعت فيه السلطة السياسية في العراق هو الاعتقال الذي جرى وفق المادة القانونية (372) التي تنص على معاقبة "من اعتدى بإحدى الطرق العلانية على معتقد لإحدى الطوائف الدينية أو حقّر من شعائرها"، ولكن المادة نفسها تنص في فقرة أخرى على معاقبة "من خرّب أو أتلف أو شوّه أو دنّس بناءً معداً لإقامة شعائر طائفية دينية أو رمزاً أو شيئاً آخر له حرمة دينية"، وهو ما ينطبق على الجماعات التي قامت بهدم وحرق المساجد والمكتبات التابعة للصرخي، ولم تصدر بحقهم أوامر قضائية.
أُحرقت نسخة من القرآن في السويد، فغرد مقتدى الصدر: "إن كنتَ لا تؤمن بالله وشرعه فهذا لا يعطيك الحقّ بحرق الكتاب أياً كان"، وطالب وزارة الخارجية باستدعاء ممثل السويد للوقوف على حقيقة ما وصفه ب"الجرم الإرهابي والفتنة". فانطلقت السخرية على الزعماء السياسيين والدينيين وتساءل البعض: هل ما أُحرق في المساجد التابعة لجماعة الصرخي هو رواية "البؤساء" أم القرآن الكريم؟
ولم يصدر من الصرخي أي ردة فعل غير كلام جاء في محاضراته التي يلقيها لأتباعه عبر البث المباشر، إذ وصف مقتدى الصدر بـ "أبرهة العصر"، ومنفصم الشخصية، واتهمه بارتكاب أعمال إجرامية منها تفجير مساجد أهل السنة في سنة 2006، وقتل الشباب المطالبين بوطن في سنة 2019 (5).
والمرجح أنّ للقصة تتمة...
1- "الإطار التنسيقي" تجمع لأحزاب شيعية عراقية تشكلّ في شهر آذار/مارس 2021 في بيت رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي حيث اجتمع زعماء وممثلو الكتل الشيعية البرلمانية، هادي العامري وعمار الحكيم وحيدر العبادي وناصر الربيعي، ورئيس الوزراء حينئذٍ مصطفى الكاظمي. وتوافقوا على جعل الإطار التنسيقي تجمعاً برلمانياً غير رسمي، يسعى إلى تنسيق مواقف القوى الشيعية الرئيسية الخمس في مجلس النواب. ولكن نتائج الانتخابات النيابية والفوز الكبير لتيار مقتدى الصدر فيها حمل الاطار على الطعن في نتائج تلك الانتخابات مطالباً بحكومة توافقية لا تقوم على تولي الحكم من حاز على الاغلبية.
2- https://democraticac.de/?p=26463
3- https://facebook.com/101279578816028/posts/315620270715290/
4- https://bit.ly/3Mvb1oN
5- https://twitter.com/alraba20/status/1515877592263536646?s=21