أقل من شهر، هي المدة التي تفصلنا عن الانتخابات النيابية، إذا ما قُدِّر لها أن تجري في 15 أيار/ مايو المقبل. بعيداً من الإفطارات الرمضانية واحتفالات الفصحين الغربي والرومي، ومجالس التعازي في البلدات المختلفة، التي تُستغل لحشد التأييد لهذه الكتلة النيابية أو تلك، مع شحن العواطف حزبياً ومذهبياً ومناطقياً، هناك حراك آخر. حراك حقوقي مطلبي لا يشبه تلك "الكرنفالات" التي تستفيق قبيل كل استحقاق انتخابي، لكنه لا يملك قوتها، على الرغم من استمراره للسنة السابعة عشرة بدون انقطاع.. إنه حراك "حركة الإعاقة" نحو بيئة دامجة تحترم التنوع، خالية من العوائق التي تَحول دون وصول الشخص المعوق إلى المراكز الانتخابية وإتمامه عملية الاقتراع باستقلالية.
"مِن الأرضي"
في 30 آذار/ مارس الماضي، ومنعاً لاستمرار مهزلة إذلال المقترعين المعوقين عبر حملهم على الأدراج في المراكز الانتخابية ولضمان احترام كرامتهم الإنسانية، نظمت "حملة حقي – الحملة الوطنية لإقرار الحقوق السياسية للأشخاص المعوقين" اعتصاماً مطلبياً أمام السرايا الحكومية في بيروت، تحت عنوان "نحو عملية اقتراع دامجة تحترم التنوع"، وذلك للتأكيد على مطالبها بإحترام استخدام غرف الطوابق الأرضية في المراكز كأقلام اقتراع، وضمان تشغيل المصاعد حيث توجد، واستحداث أقلام اقتراع في باحات المراكز التي لا تتوفر غرف على طبقاتها الأرضية. قلصت الحملة، التي أطلقها "اتحاد المقعدين اللبنانيين" و"جمعية الشبيبة للمكفوفين" عام 2005، من سقف توقعاتها إلى "الحد الأقل من الأدنى"، منتظرة أن تستجيب الوزارات المعنية لهذه المطالب، رافعة شعار "من الأرضي بيطلع صوتي"، لكن لماذا الأرضي (الطبقة الأرضية من مراكز الاقتراع)؟
الجواب غير معقد.. وعلاقته بالانتخابات التي تُنظَّم في أفضل الأحوال مرة كل أربع أو ست سنوات هي علاقة ظرْفية، والسرّ يكمن في كون جميع مراكز الاقتراع هي أماكن ذات استخدام عام ومعظمها مدارس أو مؤسسات تعليمية. نظرياً، ضمَن القانون 220/2000، في القسم الرابع منه، حق الشخص المعوق في ارتياد جميع الأماكن التي يرتادها غير المعوقين، مورداً التجهيزات الهندسية الدنيا التي تزيل العوائق (الموقف، المدخل/ المنحدر، المصعد، الرواق، الغرفة، المرحاض) في الأبنية، وأن تجهيز الأبنية سينتهي خلال ست سنوات (أي سنة 2006).
بيروت: جولة بين مباني خندق الغميق المتداعية
11-10-2021
أما عملياً، فقد ثبت بنتيجة المسح الميداني الذي أجراه "اتحاد المقعدين اللبنانيين" حول مدى أهلية المراكز الانتخابية لاقتراع الأشخاص المعوقين سنة 2009 (إعداد: م. بشار عبد الصمد، 5 أجزاء، 2009)، أن أربعة مراكز فقط من أصل 1669 تتوفر فيها التجهيزات الهندسية الدنيا، أي أن الناخب المعوق حركياً يمكنه أن يتم عملية الاقتراع فيها باستقلالية. وتبين في المسح أن 962 مركزاً هي مدارس، أي ما نسبته نحو 70 في المئة من مراكز الاقتراع. وبعد تصريحات مضللة من وزارة التربية خلال اجتماع للجنة النيابية لحقوق الإنسان (حزيران/ يونيو 2015) تدَّعي فيها استخدام منحة من الاتحاد الأوروبي في تجهيز المدارس الرسمية، قام الاتحاد بتدقيق ميداني تحديثاً للمسح في تشرين الأول/ أكتوبر 2015، أثبت عدم صحة تلك الادعاءات.
مدارس لبنان
مطلع كل عام دراسي ترد إلى "مرصد حقوق الأشخاص المعوقين" شكاوى من الأهل فحواها أن مدير المدرسة رفض استقبال أولادهم لكونهم معوقين بحجة أن "المدرسة غير مجهزة الاستقبالهم". أما المدارس الخاصة التي تضم برامج دامجة، ومجهزة لاستقبال المتعلمين المعوقين فيمكن عدها على أصابع اليد، وأقساطها خيالية. وهكذا بقي آلاف الأطفال المعوقين خارج أسوار المدرسة الرسمية، خاصة في السنوات الأخيرة مع تنامي الضائقة المعيشية التي شهدت توجهاً نحوها لكونها أرخص. والنتيجة بديهية، وهي أن أولئك الذين ولدوا معوقين مع ولادة القانون قبل 22 سنة ظلوا بلا تعليم، أما الذين استجدت لديهم إعاقات فحُرِموا من التعليم. ناهيك عن كون العقل السياسي اللبناني ينظر إلى الشخص المعوق نظرة نمطية، كمتلق للخدمة، ولا ينظر إلى الشخص المعوق كمدير للمدرسة، أو عضو في الهيئتين الإدارية والتعليمية، أو حتى كعامل تنظيفات فيها. إلا أن للمدرسة الرسمية أدواراً أخرى تلعبها في الفضاء العام غير مهمتها الرئيسة، ومنها إلى جانب تحولها إلى مركز انتخابي، أن الاحتفالات العامة واللقاءات والمهرجانات الموسمية تقام في ملاعبها خاصة في القرى. وفي بلد يشهد عدوانات صهيونية متكررة وحالات من عدم الاستقرار الأمني، تحولت المدارس الرسمية إلى مآو وملاجئ للنازحين (1982-1985، 1993، 1996، 2006). ففي حرب تموز/ يوليو 2006، وبنتيجة عمل برنامج الطوارئ في الاتحاد (إيواء ألف عائلة نازحة شرط أن يكون معيلها أو أحد أفرادها معوقاً) ظهر أن 82 في المئة من النازحين المعوقين، بغض النظر عن فئاتهم العمرية، يرون المدرسة من الداخل للمرة الأولى في حياتهم.
بمناسبة الانتخابات النيابية المقبلة – لو جرت - فهناك أربعة مراكز فقط من أصل 1669 تتوفر فيها التجهيزات الهندسية الدنيا، التي تتيح للناخب المعوق حركياً أن يقترع فيها باستقلالية.
بذلك يكون عدم تجهيز المدارس لارتياد المتعلمين المعوقين تجهيل مباشر لنحو 10 في المئة من السكان (وفق إحصاءات مدنية) أو 15 في المئة (وفق تقديرات البنك الدولي، 2015) وذلك لعقدين من الزمن تليا صدور القانون.
وهل تجهيز جميع المدارس الرسمية والخاصة في لبنان بالمعايير الهندسية الدامجة صعب أو مكلف؟ في شباط/ فبراير 2013، وفي السرايا الحكومية، قبيل إعلان رئيس الحكومة نجيب ميقاتي "2013 عاماً لدمج الأشخاص المعوقين"، سلّمه القيادي الراحل في حركة الإعاقة حسن مروة جملة من الدراسات التي أصدرها الاتحاد، إحداها بعنوان "التقدم نحو بيئة دامجة"، التي نفذتها "مؤسسة البحوث والاستشارات"، وهي مبنية على مقاربة تعتمد على الهندسة المعمارية والموازنة. بيَّنت الدراسة أن 2799 مدرسة (1405 رسمية و1394 خاصة)، يمكن تجهيزها كلها، وإضافة المصاعد ورافعات الكراسي المتحركة والمنحدرات والمراحيض إليها، عبر اقتطاع نسبة 0.8 في المئة فقط من إجمالي نفقات وزارة التربية خلال ست سنوات. هذه الكلفة التي احتُسبت عام 2008 بالدولار الأميركي وفُصّلت على كل متطلبات التجهيز لا تزال صالحة إلى اليوم.. هذه النسبة الزهيدة من موازنة الوزارة لم تقتطع، ومن نافلة القول إن العام 2013 الذي شهد إعلان ميقاتي لم يشهد أي تطبيق لمضمون هذا الإعلان.
أين المشكلة؟
المشكلة في النظرة إلى الإنسان وحقوقه. فالسائد أن تنظر الدولة اللبنانية إلى الإنسان المعوق من خلال نموذجين: الأول، "النموذج الطبي" أي أن الشخص المعوق يحتاج بشكل دائم إلى رعاية طبية كلينيكية إذ لديه "قصور في أداء الوظائف الحيوية". أما الثاني، فهو النموذج "الخيري الرعوي"، وهو أن الإنسان المعوق يحتاج إلى رعاية خاصة ودائمة، لذلك ترى أن مكانه الطبيعي في المؤسسات العازلة وكل ما يمكن أن تؤمنه الدولة له هو أن تقدم المال عبر وزارة الشؤون الاجتماعية لهذه المؤسسات. هكذا نشأ قطاع رعاية الأطفال المعوقين وكان قطاعاً مربحاً لأصحاب هذه المؤسسات خلال العقدين اللذين سبقا الانهيار الاقتصادي الحالي.
ترد إلى "مرصد حقوق الأشخاص المعوقين" شكاوى من الأهل بأن مدراء المدارس يرفضون استقبال أولادهم لكونهم معوقين لأن "المدرسة غير مجهزة الاستقبالهم". وقد ادعت وزارة التربية استخدام منحة من الاتحاد الأوروبي لتجهيز المدارس الرسمية، فقام "اتحاد المعوقين" بتدقيق ميداني أثبت عدم صحة ذلك الادعاء.
بيَّنت الدراسة أن 2799 مدرسة (1405 رسمية و1394 خاصة)، يمكن تجهيزها كلها عبر اقتطاع نسبة 0.8 في المئة فقط من إجمالي نفقات وزارة التربية خلال ست سنوات. احتسبت هذه الكلفة عام 2008 بالدولار الأميركي وفُصّلت على كل متطلبات التجهيز ولا تزال صالحة إلى اليوم.. وهذه النسبة الزهيدة من موازنة الوزارة لم تقتطع!
هذان النموذجان يريان أن المشكلة في الإنسان المعوق، الذي يحتاج إلى الرعاية الطبية أو الخيرية (دواء وعطاء). أما التحاقه بالمدرسة والجامعة ومشاركته في الحياة العامة والانتخابات، فأمور تتبع نموذجا آخر، يسمى بالنموذج الاجتماعي، الذي يرى أن المشكلة في المجتمع الذي لم يُزل العقبات التي تعيق الفرد، لا في الفرد نفسه، وهذه العوائق هندسية، اجتماعية، ثقافية... هنا، يُطرح سؤال صعب. فالدول الغربية التي جربت النموذج الاجتماعي في التعامل مع فئة مواطنيها المعوقين وتتباهى به، وتظهر على الساحة اللبنانية إثر كل مصيبة كـ"دول مانحة"، تبدو متبلدة الأحاسيس غير مبالية (إلا لفظياً) بتطبيق معاييره في لبنان بأموالها، ولا تطبق منه سوى نسبة ضئيلة بعد تدخلات مدنية مطلبية، مراعية بذلك رغبات الطبقة السياسية التي لم تظهر أي إرادة جديّة في ذلك خلال العقدين الماضيين.
الإنسان والمكان
كنا تناولنا أوضاع جرحى انفجار مرفأ بيروت الصحية، فكيف هي حالهم مع مساكنهم المتضررة جراء الانفجار بعد 18 شهراً على كارثة 4 آب/ أغسطس 2020؟ يتضح من دراسة "الحق بالسكن والبيئة الدامجة لجرحى انفجار مرفأ بيروت المعوقين" (2022)، التي أجرتها فرق برنامج الطوارئ في "الاتحاد اللبناني للأشخاص المعوقين حركياً" أن الوزارات المعنية وبرامج النهوض والتعافي الممولة من الدول المانحة لم تلحظ الاحتياجات الإضافية المستجدة لدى الجرحى المعوقين. فقد مُسحت الأضرار في المساكن، ورممت نسبة منها، إلا أن العملية لم تلحظ ساكنيها الذين باتت لديهم إعاقات. وكشفت الدراسة بناء على عينة صغيرة من الجرحى (50 حالة)، أن 22 في المئة منهم ما زالوا ينتظرون ترميم مساكنهم، وأن 10 في المئة منهم منازلهم غير قابلة للسكن، وأن 88 في المئة منهم يسكنون في المنازل المتضررة. كما أن الجهات المعنية لم تنظر في مسألة المسكن المستأجر، فـ 68 في المئة من الجرحى المعوقين لا يمكلون منازلهم، وقد تعرض بعضهم لمضايقات من المالكين الذين رغبوا في استرداد منازلهم، ومعظم المؤجرين رفعوا قيمة الإيجارات بين خمسة وستة أضعاف، وباتوا يطالبون بتقاضيها بالدولار الأميركي نقداً.
في حرب تموز/ يوليو 2006، وبنتيجة عمل برنامج الطوارئ في اتحاد المعوقين (إيواء ألف عائلة نازحة شرط أن يكون معيلها أو أحد أفرادها معوقاً) ظهر أن 82 في المئة من النازحين المعوقين، بغض النظر عن فئاتهم العمرية، يرون المدرسة من الداخل للمرة الأولى في حياتهم.
درجت الحكومات المتعاقبة على فصل الإنسان عن المكان أثناء التخطيط، وكانت النتيجة دائماً عزل الفئات المهمشة، وعلى رأسها فئة الأشخاص المعوقين عن الحياة العامة. وإلا كيف يمكننا هنا، في مسألة إعادة إعمار ما دمره انفجار المرفأ، تفسير إهمال المرسوم التنفيذي رقم 7194/2011، المتعلق بتطبيق أحكام القانون 220/2000 ربطا بقانون البناء، رقم 646/2004، الذي فصل المعايير الدامجة وأرفقها بالرسوم الهندسية؟
مرسوم آخر
هناك نص قانوني آخر مهمل. يتبين أن استخدام غرف الطبقات الأرضية في المراكز الانتخابية في 15 أيار/ مايو المقبل كأقلام اقتراع، هو تدبير استثنائي نصّ عليه المرسوم التنفيذي 2214/2009 الخاص بتسهيل عملية اقتراع الناخبين المعوقين (ربطاً بالقانون 25/2008 المعدل بموجب القانون 52/2009). وهذا المرسوم بعدما فصّل المعايير الدامجة، أي ما يجب أن تكون عليه مراكز الاقتراع، انتقل في حال عدم التنفيذ إلى ما يمكن فعله استثنائياً، ومن ذلك: اعتماد الطبقات الأرضية في جميع المراكز الانتخابية، تشغيل المصاعد الكهربائية في حال وجودها، إزالة العوائق الخارجية من أمام المراكز.. إلا أن هذه التدابير الاستثائية لم تحترم، واستمرت المشاهد المذلة لحمل الأشخاص المعوقين على الأدراج.
لبنان ذاك لم يعد موجوداً
27-01-2022
خلال الانتخابات البلدية عام 2016، رصدت فرق مراقبي حملة "حقي" في 957 قلم اقتراع 646 انتهاكاً لحق الشخص المعوق بالوصول والاقتراع باستقلالية، وفي الانتخابات النيابية عام 2018، رصدت الحملة في 958 قلم اقتراع 773 مخالفة من هذا القبيل.
لم تلحظ الوزارات المعنية وبرامج النهوض والتعافي الممولة من الدول المانحة الاحتياجات الإضافية المستجدة لدى الجرحى المعوقين غثر انفجار المرفأ في 4 آب/اغسطس 2020. فقد مُسحت الأضرار في المساكن، ورممت نسبة منها، إلا أن العملية لم تلحظ ساكنيها الذين باتت لديهم إعاقات.
بعد أقل من شهر، ستتوزع فرق مراقبي حملة "حقي" من جديد، لتراقب المخالفات الحاصلة بحق الناخبين المعوقين في أكثر من تسعمئة قلم اقتراع في جميع الدوائر الانتخابية، وكانت الحملة قد زودت وزارة الداخلية والبلديات قبل نحو شهرين بتحديث للمسح الميداني الشامل لمراكز الاقتراع، أظهر أن ما نسبته 41 في المئة منها تتضمن طبقاتها الأرضية غرفاً تصلح أن تستخدم أقلام اقتراع. فهل سيتحقق هذا المطلب الصغير ولو نسبياً، الذي لا يشكل من رحلة الحقوق الطويلة سوى خطوة في مسار يبدو أنه لا نهاية له؟