كنتُ أسهر أكثر الليل، أكتب روايتي على ضوء لمبة صغيرة، فكنت ألاحظ كيف يدسّ النائمون أيديهم داخل ملابسهم ليهرشوا هرشاً متبايناً بتباين توغل الجرَب في أجسادهم. شيئاً فشيئاً، بدأتْ بقع دم صغيرة تظهر على الملابس وتتسع. بعض الزملاء لم يعد قادرا على الاكتفاء بالهرش في الحمام أو أثناء نومه، فصاروا يهرشون علانية. في حالات قليلة، كان أحدهم يهرش بقطعة خشبية، أو بأية أداة صلبة. أما أنا ففعلتُ ما سبَّب انتقال العدوى إليَّ من حيث أردت مقاومتها! واظبت أكثر من شهر على دهن جسدي بمرهم يعالج الجرب كما يقي منه، غافلاً عن تنبيه في نشرته بعدم المواظبة عليه لأن الجرب يطوّر مناعة ضده عند تكراره. كان ينبغي المناوبة بين المراهم مع انقطاعات قصيرة بينها. بدأتُ ألاحظ رغبة واضحة في الهرش هاجمت مفصلي ساقيّ وركبتيّ، بغير حبوب ولا بقع حمراء، فأكثرت من اجتناب الزملاء والهوس بالنظافة ودهان المرهم والاستحمام بصابونة الكبريت من دون "ليفة"، لأنني منذ طفولتي أستحم مدلّكا بشرتي بالصابونة وبكفّي. هذا لم يكن سديدا لأن الميكروب يكمن في أعماق مسام البشرة، فينبغي حكها بليفة خشنة لتبلغ رغوة الكبريت أعماق المسام. ذلك كله عرفته من رفيق الحبسة الجميل لؤي القهوجي، لكن بعد فوات الأوان. باغتتني الحبوب الحمراء الصغيرة اللعينة. أذكر جيدا لحظةَ رأيتُها على جسدي أول مرة.
أنا "جربان" إذاً. هزمتْ دفاعاتي كلها. لم أعد أعرف جسدي. لم أشعر بهذا الشعور أبداً من قبل. افعل شيئاً لأجلي يا رب، ساعدني بمعجزة ما.. صحوي بين زملائي النائمين معناه أنني أيضاً أنام وهم صاحون. لا بد أنني خلال النوم، أهرش مثلما يهرش أي مصاب بالجرب خلال نومه. كل ما رأيته منهم يرونه مني الآن. لا أحد هنا أفضل من أحد. أنا المعروف بين زملائي بهوسي بالنظافة، يصدر عني ذلك. في تلك اللحظة تحديداً تغيرتُ. انهدمت داخلي أشياء وتأسست أشياء. لو لم تنهدم تلك وتتأسّس هذه لضعتُ. كثير من الذين يكتبون عن تجارب السجن يختارون حكايات طريفة، ولا يتوقفون عند تلك اللحظات القصيرة التي تعبر الإنسان مثل زلزال، لا يطول غالبا عن ثوانٍ، يترك بعدها المدينة أنقاضاً.
زارني صديق في صيف 2014، حيث كان يُسمح أحياناً بدخول زائر من غير قرابة الدرجة الأولى. جلس بجواري على مقعد طويل. في ذلك الصيف كان ثمة كلام في بعض المواقع عن انتشار الجرب في السجون، فسألني صديقي، فأقررت بانتشاره بسجن برج العرب، فلاحظت قلقه. ثم سألني عن نفسي فأقررت بإصابتي. هنا لاحظت هلعه، مع انتفاضة صغيرة لا إرادية، مبتعداً عني بضعة سنتميترات. حين سلّم عليّ لم يعانقني كما استقبلني. سامحتُه. فكرتُ أنني قبل سجني كنت سأفعل فعله تماما. فكرت طويلا في حل لتلك الأيام الرهيبة التي نظل نتلقى فيها ضربات متوالية. لم أجد حلاً إلا القناعة التي مؤداها أن الثورات لا تنجح إلا بسلسلة هائلة من التضحيات الناتجة عن صراعات متتالية بين المؤمنين بالثورة وأعدائها. آلامنا مخاضُ نضال نبيل سينتصر حين يأذن الشعب له.
كنت أفكر في ذلك، أستغرق فيه، أحدثُ به زملائي، فيهون عليّ كل شيء. الحق أنني كنت أحياناً أخجل من نفسي حين أفكر في الذين قدموا حياتهم خلال ثورة يناير ثمنًا لهذه الخطوات الأولى الصغيرة التي ستبدأ بها مصر مسيرتها نحو النور. من ذا الذي يقدر على تعويض هؤلاء، بينما أنا ساخط لأن إدارة السجن تكدس الزنازين وتضيّق علينا ساعات تريضنا وتهيننا و..!! كنت أفكر كيف تدافع الحياة عن نفسها كما كتبتُ من قبل! كيف يواجه فتى ريفي بلا أية قناعات سياسية، مثل إسلام حسنين، الذي قُبض عليه صدفة في محيط مظاهرتنا أثناء خروجه من معهده، والذي ما زلت أذكر انبهاره بعبوات النسكافيه التي رآها معي لأول مرة في حياته، وبـ "وش" النسكافيه الذي علمته كيف يصنعه.. كيف يواجه هذا الفتى هذه الحياة الرهيبة من دون عزاء ولا قناعة ثورية، ويظل طيباً محباً للحياة والناس؟
إجابة هذا السؤال لدى دارسي الحضارة المصرية القديمة، لدى وول ديورانت وجمال حمدان، ولدى غيرهما ممن درس تاريخ شعبنا المرتبط بالزراعة، البسيط، المفعم سلاماً وحباً للحياة.
الإحساس بالذات، بالأناقة، بالجاذبية، بالوجاهة.. انهار تماماً. هذه الأوهام كلها انهارت كاشفة عن قبح، قرف، هشاشة هائلة.. كامنة في أجسادنا، طالما اعتدنا كبتها وتجاهلها. غير أن هذه الإمكانات تنبثق عن أجسادنا كالنوافير لحظةَ تجد لنفسها ثغرة صغيرة. لم يكن هذا "عشمي" في جسدي: أن يباغتني بهذا القدر من القرف والاشمئزاز. كل ما أسستُه من وعي بنظافتي وقدرتي على التأنق انمحق محقاً، ليضعني في تلك "الخانة" البعيدة، خانة "الجربانين" بكل ما تحمله الكلمة من دلالات القبح والوَسَخ.
لم أعد أصدق أبداً مفاهيمنا "الاجتماعية" عن التأنق والجمال والجاذبية. هذه كلها محض هراء. في العام 2012 تحدثت مرة مع العزيز علاء خالد، فانتقد وضع الحواجز التي نضيّق بها مساحة حريتنا، ضارباً مثلاً بحرص الموظف على ارتداء "البدلة والكرافات"، وكنت وقتها هذا الموظف بمكتبة الإسكندرية، ذلك المجتمع الصغير الذي تسوده صفوة المجتمع المصري ويلهث وراءها سائر الموظفين من أبناء البرجوازية الوسطى والعليا، بحيث تكاد تقتصر الأحاديث والاهتمامات على تفاصيل الموضة والمطاعم والكافيهات الفاخرة.. كنت وقتها أرتدي "البدلة والكرافات" ربما كي لا أصبح شديد الهشاشة أمام ذاك المجتمع. فكرتُ في كلام علاء وعدت إلى ارتداء الجينز والتيشرت.
الآن أضحك على نفسي كلما ذكرت تلك الأيام. أي تفاهة تلك! أي مجتمع زائف مريض! بعد خروجي من السجن انتبهتُ إلى أن كثيرين من الذين عملت معهم سنين طويلة نأكل ونشرب معاً، نحكي همومنا وأسرارنا.. لم يتصلوا مرة واحدة بأسرتي للسؤال عني، كما لم يذهبوا لرؤيتي في أي من جلسات محاكمتي التي تبعد عن المكتبة ثلاث دقائق بالسيارة، لم يرسلوا لي رسالة واحدة، بينما كانت الهدايا ورسائل المحبة تنهال عليّ من ناس لم أرهم في حياتي. إنه مجتمع "البدلة والكرافات".
أعرف سجينا، منذ خرج من السجن، لم يعد يمشط شعره، بل يقصه بحيث يظل قصيراً بسيط المظهر، كما امتنع عن ارتداء البدلة والكرافات والملابس الفاخرة. هذا لا يفهمه ولا يقدر عليه إلا من علَمه السجن أن يبحث عن سبب أكثر جوهرية لكونه إنساناً، أن يبحث عن سرٍ، يقينٍ، هدفٍ ما يمكن تصديقه أكثر من تلك القشور الخارجية حتى يقدر على تحمّل كونه "جربانًا" منكوشاً. كتبتُ عن ذلك في رسالتي "شجرة الكريسماس" في زنزانتي.
جيلنا سيظل يعاني سنة بعد سنة، نظاماً بعد نظام، ثم في لحظة لا يعرفها أحد، ستدفع هذه التضحيات المتراكمة بلدنا دفعة إلى الأمام. الذين دفعوا ثمناً، ولو أياماً معدودة في السجن أو علقة في قسم.. ساهموا مساهمة ما في صناعة التغيير. منذ خروجي من السجن، لم ألتق أحداً من أهالي السجناء إلا طلبتُ منه أن يُفهم سجينه أن حبسته لن تُهدر أبداً، كل ما في الأمر أن التراكم ما زال غير كافٍ لدفع البلد خطوتها الصغيرة القادمة.
السجين الذي لا يدرك ذلك تنهار إنسانيته ويبدأ في كراهية الحياة، وقد يصبح آلة لبث الكراهية.
مواضيع
البدلة والكرافات
كنتُ أسهر أكثر الليل، أكتب روايتي على ضوء لمبة صغيرة، فكنت ألاحظ كيف يدسّ النائمون أيديهم داخل ملابسهم ليهرشوا هرشاً متبايناً بتباين توغل الجرَب في أجسادهم. شيئاً فشيئاً، بدأتْ بقع دم صغيرة تظهر على الملابس وتتسع. بعض الزملاء لم يعد قادرا على الاكتفاء بالهرش في الحمام أو أثناء نومه، فصاروا
2016-03-30
شارك
للكاتب نفسه
لواءات وزارة التربية والتعليم في مصر
عمر حاذق 2017-05-23
يترأس ستة ضباط برتبة لواء مناصب حساسة في القطاع التعليمي في مصر، بلا خبرة بالمجال. وأما الفساد فتسبب مؤخراً بتسمم الأطفال بسبب الوجبات الغذائية، وبإهدار الملايين في شراء ألواح بأضعاف...
مغامرات وهدان في البرلمان
عمر حاذق 2017-02-18
مافيا وضع اليد على أملاك الدولة تمتلك ركائز في البرلمان المصري والشرطة. في الأول يقنّن الأمر الواقع ليصبح شرعياً وفي الثاني لا تنفَّذ أوامر إلقاء القبض على البلطجية. هنا سيرة...
الغوّاصات المصرية وملياراتها السرّية
عمر حاذق 2016-12-29
في بلد يعاني انهياراً اقتصادياً واضحاً، يبدو غريباً أن تتوالى نداءات السيسي للشعب بأن يتقشف ثم تعتمد اللجنة الوطنية ميزانية كهذه. لكنها ستبدو ميزانية تافهة مقارنة بميزانية الأسلحة البحرية التي...