حاول مرة تبطل هرشْ/ لا مقدرش، لا مقدرشْ/ طب جرَّب تغسل مرة الفرشْ/ لا مقدرش، لا مقدرشْ..
كنتُ عائداً من جلسة "استشكال" على الحكم الصادر ضدي، تمّ رفضه، مقيداً مع إسلام حسنين في قيد واحد. عربة الترحيلات قذرة مكتظة بالسجناء. كنا، لحسن حظنا في تشرين الأول/ أكتوبر 2014، متجاوزين قيظ الصيف الذي تواطأ مع التكدس للفتك بجلودنا طيلة الصيف. كانت ترحيلة سجن برج العرب كبيرة ذات عربات كثيرة، لا تتحرك عائدة من المحكمة إلى السجن إلا معاً، لأن قوة التأمين لا تتجزأ بين عربات الترحيلة. هذا معناه الانتظار حتى تنتهي جلسات السجناء جميعا.
العودة إلى السجن مضنية دوماً. يهتف بعض السجناء في ترحيلة السياسيين هتافات مؤيدة لمرسي، فيعمد السائق فور خروجه للطريق الساحلي، الخاوي تقريباً، إلى أن يقود بسرعة ثم "يفرمل" فجأة، فيسقط بعضنا على بعض ونرتج ارتجاجاً شديداً. ثم يكرر السائق ثنائيات الانطلاق - الفرملة حتى أعود إلى زنزانتي كأنني خارج من "خلاّط". سائقون نادرون لم يعاقبونا على تلك الهتافات الكريهة التي لا تسمعها إلا الصحارى وصبّاراتها القليلة.
في تلك الترحيلة، تحركت العربة التي كانت مكتظة بالشباب، فإذا بأحدهم يهتف بإيقاع سريع "حاول مرة تبطّل هرش"، فيجيب الزملاء بصوت واحد "لا مقدرش لا مقدرش"، ويكررون ذلك "الإنشاد" مع "كوبليهات" أخرى بالإيقاع والأداء ذاتيهما.. وهم "الإسكندرانية" يا عزيزي!
كنت مرهقًا للغاية، متهيئاً لدوامة "الخلاط"، فإذا بي أضحك وأندهش، ويمسّني الشِّعر مساً لطيفاً.. ومرّت الترحيلة.
الهرش أو الحساسية اسمان لطيفان ذائعان بين السجناء، معناهما واحد: "الجرَب". لن تسمع لفظ "الجرب" بين السجناء، رغم أنهم يتبادلون مراهمه وغسولاته التي يُكتب في نشراتها كلها أنها للجرب وليس للحساسية!
"واخد بالك من فلان؟". "ماله؟". "ها يقطع نفسه من الهرش، طب مش واخد بالك من الهرش اللي داير في نص الأوضة ده؟". "لا، أنا مركز في كتابة روايتي يا عم!". "الأوضة" هي اسم لطيف آخر للزنزانة. "على فكرة فلان ورّاني ضهره.. ياااه! ده جرب يا عمر". ركزتُ تفكيري في الرواية لأن نطاق الهرش كان يتسع في الضلع المقابل من الزنزانة، مقترباً مني.
بعدها بأيام، كنت أكتب بعد الفجر، فسمعت شباباً يتهامسون قربي بسؤال جوهري: من الزميل الذي نقل "الـ ياللّا" للزنزانة؟ كنت قد بدأت أكتسب مهارات السجن التي يكتسبها السجين دون وعي، كالتقاط الإشارات والرموز والأصوات البعيدة لأننا نظل محبوسين طويلاً، معزولين، مترقبين الكوارث والتفتيشات والضرب، خاصة في 2015،. أظهر لي الشباب المتهامسون بخبث أن الحديث ليس سراً عني، فاقتربت منهم لأعرف ذلك الزميل المشؤوم.
كلمة "الـ ياللاّ" بديل لطيف آخر لأية كلمة قبيحة أو مقرفة لا يحب الشباب نطقها، وعليك أن تلتقط المعنى المقصود. تتكون الكلمة من المقطع الأول من العبارة العامية "ياللّا بينا"، مسبوقاً بالألف واللام. إنه الجرب هنا، لقطتُها مبهوراً. عرفتُ كيف لاحظوا فلاناً هذا وهو يتهرش خلسة، ويحاول مُتلطفاً أخذ المرهم إلى الحمام دون أن تنتبه عينٌ من أزواج العيون الكثيرة المكدسة في الزنزانة.. وكيف لاحظوا تكرار استئذانه لدخول الحمام في غير دوره لأنه "تعبان" مع أنه لا يلبث في الحمام إلا دقيقة. يبدأ الجرب بحكة شديدة بين الساقين غالبا أو في أي مفاصل أخرى، ثم ينتشر في الجسد.
الرجل "تعبان" من الهرش، ولا يمكنه إتيانه أمامنا! لاحظت بعد ذلك أنه استأذن مرة لدخول الحمام في غير دوره، وقف ينتظر وينادي زميلنا الذي كان بالداخل، ثم بدأ يحرك ساقيه مضطربا. هذا رجل يعذبه الهرش تعذيبا! بدأ الأمر يرعبني. أرسلتُ رسالة عاجلة لأسرتي طالبا أدوية مختلفة لعلاج الجرب والوقاية منه فأحضروها، كان ذلك في ربيع 2014، قبل التضييق في إدخال الأدوية.
يُعدي الجرب بسهولة. سببه الرئيسي ضعف التعرض للشمس وسوء التهوية والتكدس، فإذا أهمل بعضنا نظافتهم أصابهم وعَدَى غيرهم، في صورة بقع أو حبوب حمراء تختلف أحجامها وأنواعها. حين يفلت فينتشر وبائياً لا ينجو منه أحد. في صيف 2015، رغم منع الأدوية، كان الوضع أفضل لأننا اكتسبنا خبرة قاسية في الوقاية منه بالاستحمام الدائم بصابون طبي مصنوع من الكبريت، إدخاله أسهل من الأدوية، كما أصبحنا لا نخجل من تنبيه أي زميل نلاحظ أنه يهرش، ومن مساعدته طبياَ، خُفيةً.
أعود إلى منتصف أيار/ مايو 2014، حيث تمّ نقلي إلى زنزانة أخرى، وكان الجرب يفتك بعنابر السياسيين كلها. عرفنا من زيارات الأهالي أن الجرب منتشر في سجون أخرى. بدأت دائرة الإصابة تقترب مني كثيراً، وأنا متمترس بالأدوية وصابون الكبريت. الليلة الأولى في الزنزانة الجديدة كانت عادية. في الليلة التالية، بدّل جاري مكانه مع زميل آخر. نمت باكراً على غير عادتي. صحوتُ على شيء يحك بذراعي صاعداً هابطًا مثل منشار. إنه جاري الجديد. دس يده داخل ملابسه هارشاً بين ساقيه بغِلٍ دفين مع أنه نائم! أي اصطباحة هذه يا ربي!! فهمت سرّ هذا التبديل المريب. أراد الجار السابق لهذا المصاب بالجرب أن يتخلص من جيرته فأقنع جاري السليم بأن يبدل مكانه مع المصاب، بحيث يجاورني أنا المصاب وينتقل جاري السليم إلى مجاورته. ذلك الخمسيني اللئيم.
صار الأمر كابوساً. بدأتْ شخصيتي تتغير، وازداد تغيرها مع أيام السجن. قلّ خجلي وزادت جرأتي على الناس. حدثتُ جاري الجديد عما رأيتُه منه. حدثت زملاء آخرين ورتبنا إعادته إلى "نمرته" القديمة (أي المساحة المخصصة للسجين، حيث يفرش بطانيته). كان لا بد من كسر خجلي كي لا أضيع. بدأتُ أسمح لنفسي بإحراج الناس ومطالبتهم بالعناية بصحتهم. أكثر السجناء السياسيين فقراء مسحوقون، مقبوض عليهم ضمن قضايا الإخوان التي تقع غالبا بمناطق شعبية أو ريفية، بمن في ذلك المقبوض عليهم خطأً من محيط المظاهرات. هؤلاء لا يملكون رفاهية العناية بصحتهم، وذلك يدفع الجرب دفعاً في أجسادنا.