نساء أكبر من الحرب

مشاركة النساء اليمنيات في ثورة 2011 كانت إحدى أكبر المفاجآت التي أدهشت العالم، لكن هذا الزخم لم يستمر، فقد تم إقصاء النساء من الثورة والسياسة بشكل ممنهج..
2016-03-10

وميض شاكر

كاتبة من اليمن


شارك
تغريد البقشي - السعودية

مشاركة النساء اليمنيات في ثورة 2011 كانت إحدى أكبر المفاجآت التي أدهشت العالم. جمعت ساحات الحرية والتغيير من صنعاء إلى عدن أعداداً كبيرة من النساء أتى أغلبهن من البيوت.

على الرغم من أنّ النساء شاركن في الثورة بشكل هام وأساسي، ووقفن في الخطوط الأمامية للاحتجاجات بهدف حماية الشباب المحتجين من قمع أجهزة الأمن، نظراً لما تمنحه الثقافة الاجتماعية من حصانة للنساء من اعتداءات الرجال في المجال العام، إلّا أن هذا الزخم لم يستمر. لقد تم إقصاء النساء من الثورة والسياسة بشكل ممنهج. تعرضت الكثيرات للاعتداء بالضرب أو التحرش أو التهديدات والقدح من قبل جنود الأمن والمسلحين المدنيين الموالين لنظام صالح. أيضاً، كانت النساء عرضة للانتهاكات داخل التظاهرات والساحات من قبل القوى التقليدية الموالية للثورة.

لكن الحرب التي اندلعت في اليمن نهاية آذار/مارس 2015 بين الحوثيين وقوات الرئيس السابق صالح من جهة والرئيس هادي والمقاومة بدعم من السعودية والتحالف الذي أنشأته من جهة ثانية، ما زالت تدور حتى اليوم، مسببة أكبر الكوارث الإنسانية والخسائر في الأرواح والمواد، قد أحالت نساء 2011 إلى بشر غير ذوي حيلة.

الحرب لعبة الصغار

كانت آثار عائدة من كلية الهندسة حيث تدرس علوم الحاسوب إلى منزلها الكائن بكريتر بعدن، حين مرت بجانبها مسيرة تهتف بإسقاط النظام. بعد لحظات، وجدت آثار نفسها وسط المسيرة تهتف كما يهتف الجميع بإسقاط النظام وبناء الدولة المدنية. كان ذلك في منتصف آذار/مارس 2011.

في ثورة 2011، تصدرت مسألتا المعيشة والأمان قائمة اهتمامات النساء. كان الفقر والبطالة ونقص الخدمات الاجتماعية كالصحة والتعليم، هاجس النساء من صعدة إلى أبين. وفي عدن، حضرت القضية الجنوبية في كل لحظة. حضرت المطالبة بتسوية صيغة الوحدة اليمنية ما بعد حرب 1994 بين الشمال والجنوب، وفيها انهزم الجنوبيون ليسرّح الآلاف من الجيش ويُحال آخرون إلى التقاعد. كان والد آثار وهو مقدم في الجيش، أحد الذين سُرّحوا. مذّاك، أطبق نظام صالح قبضته على سلطة القرار في صنعاء ومركزيته، تاركاً الجنوب للإقصاء والتهميش.

أتت الاتفاقية الخليجية للانتقال السلمي في تشرين الثاني/نوفمبر 2011 لتستكمل الإقصاء. لقد أعادت الاتفاقية الخليجية صيغة مركزية اتخاذ القرار للقوى التقليدية الحاكمة في صنعاء من دون إعطاء اعتبار لمشاركة الحراك الجنوبي كطرف في الاتفاقية، أو حتى كعضو فيها. هكذا أقصيت القضية الجنوبية من مسار العملية السياسية الانتقالية، وأقصيت كذلك أصوات النساء في الجنوب.

أكثر النساء عدن إلى بيوتهن، وخلت ساحات الثورة من الأصوات وخيام الاعتصام، لكن القليل منهنّ لم تعدن وحوّلن المجال العام لساحة احتجاج. وكانت آثار إحداهن. لم تعد آثار إلى البيت، وبقيت في الشارع تنظم المسيرات في ساحات الثورة بعدن. وفي 2012، إبّان المرحلة الانتقالية بقيادة هادي، نظمت وزميلاتها وزملاءها في "حركة شباب عدن" الوقفات الاحتجاجية أمام مرافق الحكومة مطالبين بتحسين الخدمات، وتعرضوا لمواجهات قوات الأمن. ثم أسست ورفيقاتها منظمة "ألف - باء مدنية وتعايش" ونصبت آثار في الأحياء الشعبية طاولة صغيرة يعتليها ميكرفون متواضع. يسأل المارة، ما هذا؟ فترد: ندوة، تعال إجلس وشارك.

آثار هي إحدى الميسرات المجتمعيات لبرنامج حل النزاعات برعاية "منظمة شركاء اليمن"، نجحت خلال عملها في حل العديد من قضايا الصراع، خاصة حول مشاريع المياه. عادة ما تعقد اجتماعات الحل مع الأطراف المتنازعة في فندق ميركيور. بعد يومين من آخر اجتماع لها في الفندق، سويت طوابقه بالأرض إثر ضربة لطائرات "التحالف العربي". لقد اندلعت الحرب في عدن أيضاً.

اندلعت الحرب، وأرغمت آثار على العودة إلى المنزل. حُبست في المنزل أسبوعين بلا ماء أو كهرباء أو تلفون، فجميع الخدمات دمرها القتال على الأرض وضرب طيران التحالف من الجو. فكان قرار النزوح ووالدتها ـ التربوية القديرة والمناضلة في جبهة التحرير ـ من كريتر إلى المنصورة حيث الأمور أهدأ. لم تتعرف آثار على الطريق، كان غريباً، خالياً من الناس والبيوت والمحال والسيارات، طريق تتناثر على حوافه حطام المباني ورماد الحرائق، تتوسطه الدبابات، وتقطعه نقاط التفتيش والمسلحون. المسلحون كانوا شباباً بل بينهم أطفال لا تزيد أعمارهم عن 16سنة. سألت والدتها: هل هؤلاء هم الحوثيون؟ ردت آثار: نعم. سألت الوالدة ثانية: لكنهم صغار. فأجابتها آثار: وما الحرب يا أمي غير لعبة الصغار؟

والدة آثار التي نظرت بعين الأم الدافئة نحو المسلحين، ماتت لاحقاً موتة طبيعية، في الوقت الذي مات فيه العديد من سكان عدن بالأوبئة التي سبّبها تعفن جثث القتلى.

عدن تدافع عن الإسلام

لطالما تعرض نشطاء الحراك الجنوبي للقمع من قبل قوات الأمن المركزي التي توالي صالح إلى أن جاء شباط/ فبراير 2015، لتصحو عدن على قرار محافظها بأن سلطة عدن تتبع سلطة الرئيس هادي ولا تتبع سلطة الانقلابيين الحوثيين.

عدن، التي لا تملك قوات أمن أو جيشاً يحمي سلطتها المحلية أو يحمي سكانها، استدعت "اللجان الشعبية" من أبين، وهي قوات مسلحة موازية للجيش أسسها هادي لمحاربة القاعدة في أبين العام 2013. ملأت اللجان الشعبية شوارع عدن، واندلعت اشتباكات متفرقة بينها وبين قوات الأمن المركزي إلى أن تحولت إلى معركة بالأسلحة المتوسطة بجوار مؤسسة آثار. فحُبست ومجموعة من الشباب والشابات الناشطين في ممر صغير داخل المؤسسة لأكثر من أربع ساعات اضطروا بعدها للمخاطرة والهرب إلى بيوتهم، ثم لم تعد آثار إلى المؤسسة.

قطع طريق عودة آثار إلى مؤسستها انشغال المدينة باستعدادات الحرب ثم بالحرب نفسها. كانت الشوارع مزدحمة بعمليات نهب المعسكرات وإحراقها، وكانت دعوات التجنيد أكثر من المارة، والمساجد ضجت الأرجاء بـ "حيّ على الجهاد"! احتل المسلحون المدينة، كانوا كُثراً: "اللجان الشعبية"، "الإصلاح" (إخوان المسلمون)، السلفيون، فصائل من الحراك الجنوبي، حتى "القاعدة" التي حاربتها اللجان الشعبية في أبين كانت معهم.

جاء هادي إلى عدن في منتصف شباط/فبراير، فتبعه الحوثيون، ثم استعرت المعارك، واضطر لمغادرتها إلى السعودية، وغادرت اللجان الشعبية أيضاً إلى أبين. "من سيحمي المدينة إذاً، من سيخوض القتال؟" سألت آثار نفسها، لكن الجواب كان جاهزاً: ما تبقى من المسلحين.

نشطت دعوات تجنيد سكان عدن وانضمامهم إلى المسلحين ليُسمّوا أنفسهم بعدها بـ "المقاومة الشعبية". في وسط اجتماع عام لناشطات جنوبيات ناقشن فيه تطورات الحرب، قالت آثار: "نحن متفقات على أن الحوثيين انقلابيون وميليشاويون بل وبلوة زرقاء، لكني لا أستطيع أن أصف المقاومة الشعبية إلا بالمليشيا أيضاً. كيف أصفهم بالمقاومة والسلاح الذي على أكتافهم منهوب من معسكرات الدولة؟ نحن لا نملك البديل يا رفيقاتي، علينا أن نعترف بذلك".

إلى الآن لا تعلم آثار لماذا تحارب عدن، هل دفاعاً عن شرعية هادي؟ لكن هادي هو جزء من نظام صنعاء، قاد معركة الاستيلاء على عدن في حرب 1994، وكان نائب صالح لسنوات، ثم انتخبه 7 ملايين أغلبهم من الشمال في ظل مقاطعة المحافظات الجنوبية للانتخابات. فعن شرعية أي نظام يحارب الجنوبيون؟ هل تحارب عدن لصد عدوان الحوثيين؟ ما الجديد في ذلك؟ لطالما صرّح الجنوبيون بأن الجنوب واقع تحت وطأة احتلال الشمال منذ 1994 وطالب بتقرير المصير. بقي أمر آخر، عدن تحارب الشيعة أو الروافض الحوثيين. "الروافض" هذه الكلمة الجديدة على آذان العدنيين ولا يعرف معناها أكثر المقاتلين، ما عدا جماعة الإصلاح والسلفيون والقاعدة، ربما! "عدن تدافع عن الإسلام إذاً!"، قالت آثار باستغراب.

سؤال للصباح

في حرب 1994، خاضت قوات صالح الحرب ضد الجنوب بخطاب ديني مشابه. آنذاك لم يكن الخطاب الطائفي رائجاً، بل محاربة الكفار أو الشيوعيين في الجنوب. لقد سُلِّمت عدن لعبثية الحرب وعدوانية الإسلام السياسي مرتين، إلا أن هذه المرة، الحرب أشرس والتطرف الديني أشد.

ما عسى أن تفعل آثار ورفيقاتها في ظل الحرب والتطرف؟ لقد قمن بأعمال الإغاثة للجرحى وأوصلن القافلات الدوائية للمستشفيات البعيدة، ووثقن انتهاكات الحرب من الطرفين، نشرن نداءات الاستغاثة ودعوات السلام على صفحات فايسبوك وتوتير، أنتجن أفلاماً قصيرة للتوعية، قمن بحملات للإفراج عن زملائهن النشطاء وعمال الإغاثة، حاولن صياغة مقترح يجنِّب عدن الحرب، ويطالب بتسليم إدارتها للسلطة المحلية، لكن الحرب لم تتوقف.

تحررت عدن من الحوثيين في الصيف الماضي، لكن نشبت الاشتباكات بين فصائل المقاومة، وكذا الاغتيالات ضد القادة، وانتشرت تفجيرات تقوم بها القاعدة في كل مكان. أما التعبئة الدينية فأصبحت واقفة على رجلين. وفي كل صباح، تسأل آثار نفسها: "ماذا عساي أفعل ضد حرب أراد لها الجميع أن تنجح؟".

مقالات من اليمن

للكاتب نفسه