كدت أتسبب بحادث إطلاق نار على جادة "الشانزليزيه" يودي بحياتي. فسيارة الفولسفاكن البرتقالية التي كان يقتنيها الأستاذ عبد الرحمن منيف في بيروت في السبعينات تمر أمامي ولا تتوقف.. برد ورياح عاتية تكاد تقطع الأشجار، وعيناي تحدقان في المفرق الذي يهل منه الباص. وفجأة ومع سيل السيارات القادم على وسع الشارع العريض، تبرز السيارة الزاهية مسرعة.
"عمي أبو عوف.. عمي أبو عوف.." أخذت أصرخ وأركض مع السير علني ألحق بها.. الناس تمر من حولي ومن أمامي خائفة مذعورة، لا تفهم ما أقول، وكلهم يسكنهم الخوف هذه الأيام، حتى وصلتُ أمام دار سينما في آخر الشارع وصحوتُ على صراخ العشرات من قوات النخبة في الجيش والشرطة يطوقوني من كل صوب ويوجهون بنادقهم نحوي.. "توقف، لا تتحرك، ارفع يديك".. وأنا كمن أفاق من حلم كدت أجهش بالبكاء.
فتشوني وأخذوا أوراقي واتصلوا، وأخيراً أطلقوا سراحي بعد أن نبهني الضابط: "كدت تُقتل.. لن تكون هناك مرة أخرى".
كان عمري يقارب الثلاث سنوات يوم سكن الأستاذ عبد الرحمن منيف، عمي أبو عوف كما كان يدعوه الأصدقاء والخالة سعاد وأبناءه عزّة وياسر وهاني (ولم تكن ليلى قد ولدت بعد).. سكنوا قرب منزلنا في شارع عفيف الطيبي، في منطقة الجامعة العربية. عمي أبو عوف يذهب كل صباح بسيارته الجميلة إلى عمله في مجلة "البلاغ"، وأنا أنتظر على شرفة منزلنا في الطابق الثالث، أدسّ رأسي بين حديد البلكون، لأودع أمي بسيارتها الفيات البيضاء الصغيرة، تصحب أخواي إلى المدرسة ثم تذهب إلى عملها. أخبرتنا فيما بعد أنها سمعت في إحدى المرات، وهي تلتفت نحوي لتودعني، صوتاً داخلياً يقول "إذا رجع طلال، بيلاقي واحد من العائلة"، وكان أبي مسافراً. أكملتْ سيرها نحو الجامعة العربية، أرادت أن تختصر الطريق فدخلت في أول مفرق إلى اليمين، وجدت بعض الحجارة في وسطه، نزلت وانحنت لترفع الحجر الذي لم يكن كبيراً، والتفتت في تلك اللحظة إلى أخويّ في المقعد الخلفي للسيارة، وكأن يداً قوية وإلهاماً أمرها بالرجوع، فعادت إلى الوراء وسلكت طريق كلية الهندسة، المدينة الرياضية، فالطريق العام. وقبل أن تصل إلى المفرق الذي أرادت العبور منه، سُمع دوي انفجار كبير، وإذ بسيارة أجرة قد صعدت فوق تلك الحجارة اللعينة التي كانت تخفي ألغاماً..
تُصرّ أمي على أن الإنسان يشعر بقرب الموت أو يُوحى إليه به.. هذا الشعور أو الإلهام هو الذي دعا ندى اليشرطي، وهي في أوج اجتماعات القصر الجمهوري مع الرئيس سليمان فرنجية، تفاوض باسم المقاومة الفلسطينية لتطويق الاشتباك مع الجيش اللبناني، دعاها للاتصال بزوجة عم الشهيد خالد، زوجها، لتوصيها بالأولاد. سألتها السيدة "ما بكِ يا ندى، ماذا تخشين؟" فأجابت أوصيك فقط ب"منى وهادي". وعند عودتها مساء قُتلت بعشرين طلقة على مدخل المصعد في البناية التي تسكنها. وبعد سنوات، اعترفت شبكة مخابرات أردنية ــ إسرائيلية مشتركة (كما ذكرت الصحف يومها) أنه كان من ضمن مهماتها قتل السيدة ندى لدورها الفعال في العلاقات الدولية للمقاومة..
الشاعر الفلسطيني الكبير كمال بطرس ناصر، وقبل استشهاده بيوم واحد، هرول صباحاً إلى مكتب الأستاذ جبران مجدلاني في السارولا مذعوراً. وحين رآه قبّله قائلاً "الحمد لله على السلامة يا جبران"، فاستغرب الأخير الأمر، فتابع كمال: "رأيتك شهيداً يطلقون عليك النار"، فأغرق الحضور بالضحك، وقال جبران "عمر الشقي بقي". وكان الذي أُطلقت عليه الرصاص وصُلب في اليوم التالي هو الشاعر الشهيد كمال ناصر نفسه، في ليلة "فردان" الرهيبة التي استشهد فيها معه أبو يوسف النجار وكمال عدوان، والتي نفذها المجرم إيهود باراك.
عمي أبو عوف الذي كنت أنتظره كل صباح وأعصي أوامر جدتي بالدخول بعد ذهاب أمي، فأصر حتى أرى سيارته الزاهية تتهادى بين السيارات في الشارع لأصيح بأعلى صوتي "عمي أبو عوف"، كان يسمع صراخي على الرغم من زحمة السير وضجيج السيارات، فيُقرب وجهه اللطيف من الزجاج ليراني أو يرفع يده من شباك السيارة ملوحاً.. هذا كل ما أريد، فأدخل سعيداً وأطيع أوامر جدتي.
وعندما يأتي المساء، وتنعقد حلقة الأصدقاء، وبمجرد أن يدخل من الباب بوجهه الأسمر تنيره ضحكته المجلجلة، ويراني في حضن أبي، يُداعبني هاتفاً "كيفك أبا الطوارق"، "لا تعربش بعد على البلكون حبيبي".
أبو الطوارق السعيد بلقبه ينسحب إلى جوار جدته، لتكتمل ترانيم الحكاية.. الشاعر الكبير مظفر النوَّاب، المقيم في بيروت، الموسيقي والأكاديمي والمغني للتراث العراقي سعدي الحديثي، وعمي أبو عوف، "أبو مُتعب الهزال" وصاحب مدن الملح وشرق المتوسط، والخالة سعاد، ناطورة المفاتيح ورفيقة الدرب، والخالة إنصاف، صاحبة الصوت الفيروزي الملائكي.. يبدو أنه كان لقاء للأصدقاء احتفالاً بصدور رواية "الأشجار واغتيال مرزوق"، أُولى روايات "تشيخوف العرب" كما سمّاه الناقد الكبير عصام محفوظ، وبمرور الأستاذ سعدي الحديثي ببيروت.
كانت أول مرة أسمع فيها غناءً عراقياً رخيماً بصوت الشاعر مظفر النواب.. أخافني في البداية لقوة الصوت وارتفاع وتيرة الأداء كأنه الرعد.. ثم الحزن والوجد..
مرينا بيكم حمد واحنا بقطار الليل،
وسمعنا دق قهوة وشمينا ريحة هيل،
يا ريل صيح بقهر صيحة عشق يا ريل..
فيُجيب سعدي بصوت مطواع عذب وكأنه الكمان: ألوج عليه، ألوجن، من خزرة العين يمة ، صغيّر وأخاف عليه..
يرن الهاتف بإلحاح ويرد والدي ويسأل السيد سعدي أن يُجيب، فإذا بالسيدة ندى تقي الدين، الفنانة المرهفة عازفة البيانو، تُريد أن تنضم للجلسة بالسمع، تريد أن تسمع غناء سعدي على الهاتف، لأنه يتعذر عليها الحضور شخصياً. ترك والدي الهاتف مفتوحاً طوال السهرة، وسعدي ينشد من ربرتواره الموسيقي الجميل.. يا نبعة الريحان حنّي على الولهان حنّي، جسمي نحل والروح ذابت وعظمي بان.. أو "سود العيون أصاب القلب مرماكِ، رفقاً به، ففؤادي من ضحاياكِ".
عمي أبو عوف، وبفرح طفولي جارف، يشارك ويشاغب ويكسر اللحن، فيغني له الجمع "عبرتْ الشط على مودك، وخليتك على راسي". يُطلب إلى الخالة إنصاف أن ترد عليهم، فغنت "يا ليلة اللي فيها الأحبة تجمعوا" لفيروز. ثم سكن الليل، وسكنوا جميعاً، وكأن على رؤوسهم الطير. وختم الأستاذ سعدي بأغنية: بويا عيوني يللي ماشي ولا قال..